{env}

الصفحة الأساسية > فيوض > لقاءات > مقدمة رواية الصديق فوزي الديماسي : زنيم مرة أخرى

.

مقدمة رواية الصديق فوزي الديماسي : زنيم مرة أخرى

الاثنين 13 نيسان (أبريل) 2015

زنيم مرةً أخرى ، ولماذا أخرى ؟ ومن هو هذا الزنيم ليعودَ أخرى ويحاولَ من جديد علَّهُ لم يسطع في مرَّتهِ الأولى انتهاءً مما يحاوله !؟أما الزَّنيمُ فمعلومٌ أمرُ استلحاقهِ في القوم حيثُ هو ليسَ منهم ولا يُحتاجُ إليهِ فيهم وأمرهُ إنما هو أمرُ الزَّنمة في المعز مما يجعلُ في أذنيها لتعلمَ بهِ من قرطٍ أو مما قطعَ من أذنِ البعيرِ وتركَ معلَّقاً لهُ ليعلمَ منهُ ، ولذا فهو كما جاء “عتلٌّ بعدَ ذلكَ زنيم ” يعرفُ بلؤمهِ وحقدهِ كما تعرف هاتيكَ بزنمتها.
هل هي كليلة ودمنة في إطار جديد اختلفت فيه الرَّغبةُ بالإفصاحِ عن الرَّغبة بالإسرار ولا أمثولةَ منها إلا أخذها حكاية واحدة لا تستطيع لها إلا ما أرادتهُ لك؟ وبالتأكيد هي ليست دونكيشوتيات فهل هيَ سيرة مسيرةٍ دراماتيكية القهرِ والإمعانِ في احتساء الظلمِ بألوانهِ ، أم هي فضاء سياسي بامتياز وجد له تطبيقاً روائياً مركّباً غاية التركيبِ ، ومسنداً إلى كتلةٍ هائلةٍ من الحقائق والأحداث الجسام؟ أم هي صفعة حادة على وجه الزنيمِ الثقافي وإدانة للضياعِ من حولِ الزنيمِ الوجودي لهذه الأمة ولهذه الرؤية الحضارية؟! ربما بعض ذلك وربما كلُّه معاً ، ولكنها في ذلكَ كلِّهِ أفقٌ جديد لرواية تستطيعُ خلقَ العلاقة المؤثرة بينَ اللغةِ ومعرفتها في الجدار الحيِّ.

إذا كان ذلكَ في الهاجسِ الذي يثبُ أمامَ القاريء أولاً ، فثمة ما يستدعي في الأركان الفنيَّة تسلسلاً في الدهشة لا تستدعيها إلا تلكَ النماذج الفنية الرائعة التي تدعكَ في أجواء البطل “أنكيدو” وارتحالات المهلهلِ ابن ربيعة وما بين جلجامش وعشتار كما بين إزيسَ وثوانيها رغمَ بعضَ الأدواتِ الغريبة عنها كالطائرة والدبابة التي أصرّت على الحضور كي تُرَتِّبَ لنسختها الخاصة في هذا الأمر، إنَّ فيها ذلكَ الحبكَ بلا ريبٍ ولا جدال دعّمتهُ قدرةٌ جميلةٌ على استحضارِ النّّص القديمِ والغزل على شاكلته، حتى إذا استوى وقام على سوقهِ أمكن تطعيمه بنكتارِ ونكهةِ ما أعجزَ من القولِ مستفيداً بعضَ الوقتِ من براعة قَصَصهِ ناسجاً على منوالها ، فإذا تمَّت ِ الأحجارُ حيثُ هي ، تلألأت سطور من النثرِ المغري بأبيات الرهبةِ الطقوسية المناسبة.

أبطال هذه الرواية في كلِّ الأحوالِ خارجَ أبطالِ تسلسلِها، فهم ليسوا ما جاء فيها على لوحها السالبِ للصورةِ كما وردت ، ليسَ “الغريب” وليست “نخلته” ولا هو “ربُّهُ ” الذي طفق يسألُ عنهُ سؤالَ إبراهيمَ الخليلِ من ربّي ، ولا هو ما تلا “الجبلَ” من بحرٍ ولا ما أحاطَ بهِ من “صحراء” وبالتأكيد لم تكن البطولةُ “للنساء العشرين ” من امرأة واحدة، ولم تكن قطعاً “الباخرة” ولا أدواتها التي استحضرت معها من الشماليين ولا الرجل الأبيض الغريبُ ولا حتى ذلك “الدودُ” المسيطرُ على “الجثث” ولا حتى كلُّ ما في شوارعِ الزنزانةِ ، فأبطالُها حقاً هم هؤلاء الذين على السطحِ الموجبِ في الصورةِ بما يوازي كلٍّ منهم ، فمن هم هؤلاءِ حقاً ؟!

ثمّ’َ مجموعة معقَّدة من الأسئلةِ المصيريةِ التي تنزاحُ بقدرِ انزياحِ أحداث هذه الرواية الممعنةِ في التشديدِ ، ثمَّة تركيبة من التواصلِ الإنساني مع الوجود بما يصلُ إلى سؤال المشتركِ بينَ الوجودِ وبينَ الرَّهبة في مصيرِ السؤال ونتيجته، ثمَّة ما يروي ويبني ويهدم في هذه الرواية في ذات الوقت وعلى ذات القوة ، ثمَّة ما يوحي بانفتاحات متعدِّدة ولكنها يمكن أن تبقى تُرى في جواب بسيط خارق للعادة الروائية لقارئها.

في مشرق الرواية ومغربها ، في كتلتها الواحدةِ وكتلها الاضطرارية ، أو كتلها “الجثَّوية” ثمة ما يفتحُ ، وينير علاقة التاريخ بالجغرافيا كما يوضِّح علاقة العولمةِ بالزنزانةِ وقوانينها الجديدة، ثمةَ ما يستندُ إلى مرارةٍ كبيرةٍ وثورةٍ عاتية في آن على هذه التركيبة المشهدية “الجثَّوية” الداهمة الهاجمة، ثمةَ ما يقولُ ولا يتوقَّفُ عن القول في ذات الوقتِ الذي يحذِّرُ ويسخطُ على من يخدِّر ، والحقُّ أني قد بحثتُ عنها طويلاً فوجددت عدداً منها في الجدرِ والأقواسِ والنوافذِ والأبوابِ مزروعةً هناكَ بعناية، لكني قدّرتُ أنَّ أجملها ما جاء في نخاعها جميعاً وتاجها جميعاً فلذا قدّرتُ أن أستقدمها من هناك ، وأجدني وقد وقفتُ على ما يفتحُ منها هنا في هذه السطور:

“كان الله - قديما - حبّا . كان سحابة كان نهارا في الليل وأغنية تتمدّد فوق جبال الحزن كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض أين ارتحلت سفن الله …. الأغنية الثورة ؟ صار الله رمادا صمتا رعبا في كفّ الجلاّدين……….”

وبالضبط وعلى ذات المعادلةِ وبذاتِ المستوى الفني ثمَّةَ ما يغلقُ ويستدعي تبلورَ الرسالة في مكانها رغمَ أنفِ الطبيبِ الإسرائيلي المستقدمُ ورغمَ أنفِ “الجثَّوية” وتعليماتِ المواتِ السرمدي أو تعليماتِ تمثيلهِ واستدعائهِ ، ثمةَ ما يغلقُ على نورانيةٍ كبيرة في هذهِ العودة للغريب التي لو أردتُ أن اقترحَ لها في مواجهةِ عودة الزنيمِ مرةً أخرى ، لاقترحتُ لها “قيامةَ الغريب”، هنا في هذه السطور التي استقدمها من نصِّ الروايةِ الجليلِ تكمنُ نورانيةُ فوزي الديماسي ومشروعه:

“على كفّ الشمس استريحي و من بين أنامل الضوء النسر الثلجيّ و سدنته بالنخل المطهّر استبيحي يا أيتها الأجساد المنتشرة في الأرض ارتقوا شتاتكم و ازرعوا النخل ثلجا في عيون القحط يا أيتها الفروج المباركة اقذفي بالصبيان و رشّيهم ياسمين على كفّ الخلود يا أيها الكرمل بثّ في الرافدين الأزهار و الأطيار و الخضرة السرمديّة…………….”

فوزي الديماسي يقدِّم مشروعاً روائياً جدلياً في هذا “الزنيمِ مرَّةً أخرى” على نفس قوّةِ ما أرادهُ النصُّ في مجموعةِ رسائلِهِ المتعدَّدِ التي أصرَّ على إرسالِها مشتبكةً ومنفصلة، ثمة رواية تنتصر على تفصيلاتها كما تنتصرُ على مواردِها وأبنيتها الدراميةِ والفنيةِ والإشتباكية ، ثمة رواية تقدِّم حقولها تحدياً وأنموذجاً محتجاً في آنٍ على أقنعةِ “الجثَّوية” في النًّص شعراً أم نثراً وعلى استهلاكاتِ الجدر والحواجزِ التي أصبحت عنّةً دائمة أمام النورانيةِ العربيةِ في حربها ضدَّ الظلاميةِ و”الجثَّوية” ، ثمة رواية تقول أنه يمكنُ الولوجُ ويمكنُ الوصول، ومشكلةُ هذا المشروع الجدلي ستكونُ في ظنِّنا ليسَ فيما أرادهُ من رسائلَ قويَّةٍ ومدويَّة فقط، بل هي في زحمة ذلكَ ستكونُ أيضاً في حيثيات البناء الدرامي والروائي الذي يمكنُ أن أسميهِ لو جاز لي أن أبتدرَ الحديثَ في هذا الجانبِ “بمشروعِ الرواية النقدية “، هي رواية نقدية بكل ما فيها من صادمٍ وحادٍ منتصبٍ تماماً لا يكلِّفُ نفسهُ عناء الحسابِ .

أسجِّلُ أملي لهذه الرواية ولهذا المشروع أن يجدَ لهُ متسعاً ليتحرّكَ من خلالهِ وانطلاقاًَ منهُ لأنها تستحقُّ أن تلاحظًَ وأن تقدِّمَ بيِّنةً في حيثيات الدعوى ضد “الجثَّوية” ، فلتكن مشروعاً للصديق فوزي نقدِّمُ لهُ عليها التهنئة سلفاً، “زنيم مرةً أخرى ” رواية تجاوزت منذُ بدأت السباق ويبقى أن ندع لقارئها فرصةَ الانتقال معها كما انتقلنا وشكراً لفوزي هذه الفرصة الجميلة لتقديمها.

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|