{env}

الصفحة الأساسية > النثر > دراسات > المرأة والشعر العربي

.

المرأة والشعر العربي

الثلاثاء 14 نيسان (أبريل) 2015

المرأة والشعر العربي

المرأة كائن سحري عجيب يشارك الرجل أفكاراً وعواطف وأحاسيس وقيم ، ثم لا يلبث أن يشاركه الحياة نفسها من داخله طورا ومن خارجه طوراً آخر ، ومما هو غير قابل للجدال تماما أنه في مرحلة التكون الأولى هو رهن تماما بتلك الوصاية الأنثوية عليه ، وهذه الأنثى التي تتنازل طوعا عن هذه الوصاية الأولى لتهبه استقلاله التام لاحقا لا تلبث أن تلهث خلف مطلب المناصفة في الدور والانتصاف لحقها منه لاحقا ً فأي عجب هو ذلك ؟

على أية حال ،فان المرأة نصف المجتمع السوي بكل أبعاد هذه المناصفة واستحقاقاتها ما لها وما عليها ومن ضمن ذلك قطعا مناصفة الشعور والمشاعر لأنها جزء من عقد الحياة المبرم معها ولا بد من الإقرار بان عددا من المجتمعات غير السوية ربما لازالت لا تلحظ هذا بل قد تنكره تماما وما ذلك إلا لأنها لا زالت غير سوية في بنائها ونشاطها ووجهتها .

إذن فالمرأة في المجتمعات السوية ، هذا الكائن المفاجأة ، واللغز في أحيان كثيرة ،الحامل بين جنبيه كل الجدليات المحتملة وغير المحتملة ، والذي يمكن أن يكون العدم ويمكن أن يكون الحياة والوجود ، القادر على أن يهب الحنان كقدرته على فرض القسوة ، الذي يرغب بالقرب والدفء ويرهب بالجفوة والزمهرير ، المستطيع أن يكون كل هذه الثنائيات معا طوع رغبته وقدرته أيضا ، لا بد وأن له موقعا مميزا في علاقته بالفنون جميعا كما بالثقافات ، وبالتأكيد بالخيال وفنونه وباب الخيال العريض هو الشعر . فما هو كائن منها في هذا المقام ؟

إن مقالة أو فكرة ما قد تعمد إلى المرأة لتمس حاجاتها ومعلقاتها لا بد وأن تكون مزروعة بالألغام محفوفة بالمخاطر محكومة بالتشابك ، ولعل هذا ما نرجوه عذرا لنا إن وقعنا في محظور من هذه جميعا ، ولأن موضوعا من هذا النوع أيضا متوقع له أيضا أن لا يكتمل بالإحاطة ، فلقد وجدنا أن افضل ما ننتهجه هو النظر إلى حالات ثلاث بعينها نتناول موقع المرأة فيها فقط من موقع تصنيف محدد ، ولذا فإننا بصدد اتجاه رؤية سلسة تلحظ المرأة في الشعر العربي كموضوع أولا ثم كعامل فاعل ثانيا وأخيرا كمتلق لهذا الفن وإبداعاته .

فماذا لدينا في هذه الرؤية الثلاثية ؟

- المرأة الموضوع

هنا في هذا الجانب القديم قدم الشعر نفسه كفن ٍ، لا بد من التنبيه إلى قضية بعينها هي اختصار لعدد من العوامل قد تشكل مدخلا غنيا ومميزا إلى ما نحن بصدده الآن ، إنها قضية الخلقة ، ذلك التركيب الجمالي البيولوجي الظاهر ، والأثر التكويني الساحر الذي خرجت به المرأة إلى عالم الأحادية السابق عليها ، إن التحدي الأكبر الذي فرضه الوجود المفاجأة لهذا الكائن ، كان ولا زال يشكل عنصر المفاجأة في كل ما يصوغه من انعكاسات ،ولعل أبرز هذه الانعكاسات هو بعد الوهلة الأولى محاولة الاستكشاف التي قطعا باءت بفشل جزئي لا زال مستمرا إلى اليوم ، إن اللغز العميق لهذا الكائن بما يحمله معه من انغلاقية دائمة ودافئة في نفس الوقت هي إغراء مستمر للمحاولة يصل إلى حد التوتر الدائم ، كما أن معالم هذا اللغز بسطوته الخارجية الأنثوية والتي تفرض دائما منطق الانفعال الدائم على الآخر شكلت تحديا مستمرا له. وإذا كان جزء من هذا صائر إلى لا إرادة المرأة أحيانا ،فان جزءا آخر ذا بال هو بإرادتها الحقيقية التامة ، إن الترقب والحذر سمة من سمات هذه الإرادة وفعلا من أفعاله الدائمة التي تستجلب معها سلاح الإبهار الإضافي الذي تمتلكه ، وبالتالي شروط اللعبة الخفية التي تمارسها وتحسن أداءها دائما . إنها تهاجم من حيث يفترض الدفاع وهذا هو جوهر التحدي العنيف القائم مطلقا أمام مشروع حل طلاسم هذا اللغز الرائع .

إن هذا الإبهار الجمالي بحديه المادي والمعنوي سيكون بلا شك كافيا أمام الطرف الآخر ليرفع درجات التوتر كما أسلفنا وليضعه موضوعا قائما بذاته في الشعر العربي ، غنيا ومكثفا جدا ، ومن هنا دخلت قصيدة الحب بكل مقوماتها من أوسع الأبواب وفرضت لها مساحة لا باس بها في الموروث والحاضر الشعري العربي .

إن عددا من القصائد قد تناول المرأة ربما في غير موضع الحب والغزل ، ولكن مسببات ذلك وأغراضه المختلفة ليست بما يغري بأن يكون مستقلا بذاته ،ولا يملك أن ينهض ليصبح مدرسة بعينها مثلما هو الحال مع مدرسة قصيدة الحب والغزل ، ولذا فانه ليس حاضرا في أذهاننا أن نتلمس آثار ذلك هنا .

إذن فقصيدة الحب العتيدة نشأت بمقوماتها الفنية والجمالية في هذا الجو المشحون بالأسئلة ، وتعددت بتعدد عناصر التحفيز وتنوعت بتنوع أسباب المثيرات ، فجاءت شهية تحمل في حياتها وانتقالاتها وبنيتها هذه الألوان والمذاقات والروائح المختلفة المتنوعة ، إن قصيدة الحب التي افتتحها الجاهليون ركنا أساسيا من قصائدهم ، ثم طوقها الأندلسيون بالقرنفل قبل أن تصلنا وفي عينيها بريق الخلود وسحر الأبدية ظلت ذات القصيدة الجارفة المستجلبة معها لأقصى درجات الشحن العاطفي .

وهكذا فان قصيدة الجاهليين خضعت لمفهومهم العام عن المرأة ولتقديراتهم الجمالية الخاصة ولمدى تطور هذا الوعي العام عن هذا الكائن السحري ، ثم ما لبثت أن عكست أيضا الناحية القيمية للمرأة في ذلك الركن الزمني والمكاني من التاريخ الأدبي . ونلحظ في هذا الجانب أن العناصر الحسية الجمالية للمرأة كانت أكثر ما تكون حضورا في القصيدة الجاهلية ،ولعل امرئ القيس كان رائد هؤلاء جميعا استقام له أن يصبح طليعيا في هذا المنهج الحسي ينهض معه وصفه بإمام أهل الجماليات الحسية المادية في الشعر العربي حينما يصبح التحديد والتعريف لازما.

وامرؤ القيس هذا رسام وفنان مميز ، يعمد فيصف هذا الحد المادي الذي يقابله جزءا جزءا حتى يطال الجسد كله لوحة تامة ، يضعها أمام السامعين له وربما لا يتورع كثيرا عن الإسراف في ذلك ، والشواهد من شعره كثيرة ونكتفي هنا بما صح في معلقته نذكره شاهدا على ما ندعي عليه :

إذا التفتت نحوي تضوَّع ريُحها /*/ نسيم الصبا جاءت بريّا القرنفل ِ

إذا قلتُ هاتي نوليّـني تمايلت /*/ عليَّ هضيمَ الكشحِ ريا المخلخل ِ

مهفهفة بيضاء غير مفاضة ٍ /*/ تر ائبها مصقولــــــة كالسجنجل ِ

تصد وتبدي عن أسيل ٍ وتتقي /*/ بناظرةٍ من وحش ِ وجرةَ مطفل ِ

وجيدٍ كجيد ِ الرئم ِليسَ بفاحشٍ /*/ إذا هي نضته ُ ولا بمعطَّـــــــل ِ

وفرعٍ يغشى المتن أسود فاحم ٍ /*/ أثيث ٍ كقنو النخلة ِ المتعثكل ِ

لقد نقلنا أبياتا لا تحتمل إلا أن نصفها بالتصويرية المزدوجة ، فهو لا يصور جسدا فقط في هذه الأبيات إنما هو يتعدى ذلك إلى تصوير حركة أيضا ، فهو ليس بتصوير ساكن بل إنما هو تصوير متحرك يصف حركة هذا الجسد وانفعالاته وأدائه ، بل أيضا يضع ذلك في إطار قصصي يمكنه من سرد ردات فعل هذا الكائن أمام إلحاحا ته ورغباته وأقواله وأفعاله .

كما انه في تصويره ينتقل انتقالات سريعة تحاكي انتقالات الكاميرا بيد مخرج حذق في فن الإخراج الإغرائي ،فيعمد إلى الوصف الإبهار لما تأصل ولما طرأ على هذه الصورة ، انه يبهرك بهذا الانتقال اللوني والحركي حتى يتيقن من انك قد رأيت صورة متكاملة تامة غير منقوصة ، فلا تملك إلا أن تشهد لهذا الجمال الصارخ بعد أن تكون قطعا شهدت لهذا الواصف المبهر .

انه ينبئك عن جمال الخدود الأسيلة الناعمة ليغريك بتحفيزحواس اللمس ، ثم ينبهك إلى التناسق في العنق والخصر الهضيم قبل أن يريك بياض الجسد وسواد الشعر ، ثم لا يلبث أن ينتقل بك سريعا إلى عالم الروائح والمذاقات بنسيم الصبا وريا القرنفل ، وهذا هو الشعر الجسدي الخالص كأصدق ما يكون .

وإذا كنا قد عمدنا إلى أبيات محددة هي اقل ما ورد في معلقته حملا للصور المثيرة الحسية كما هي بلا شك اقلها خدشا للحياء العام ، فان ما قد تبقى خلفنا من صور هو اكثر إمعانا في الجسدية حتى منتهاها وربما أمكنك العودة لها للوقوف على ما نعنيه بهذا القول ، إذ أن ما تبقى من القصيدة هو احتفالية مغرقة في الجسد ولغته الوحيدة المتوقعة لهذه الاحتفالية المفرطة.

وامرؤ القيس ليس وحده بين الجاهليين في هذا المنحى ، فهنالك عدد كبير من رفاقه في ذات المدرسة الحسية لقصيدة الحب ، ولكن هؤلاء جميعا لم يؤلفوا المدرسة الحسية الوحيدة وان كانوا هم بحق غلاتها والذاهبين بها إلى أبعد الحدود الممكنة ، وفي الجانب الآخر ستجد حتما من انتمى إلى المدرسة الحسية إلا انه توسط فيها وأبى أن يذهب إلى هذا الحد بل ربما عمد إلى موازنة ذلك بما هو غير حسي وقيمي ووجداني إلى حد كبير يصلح معه أن يشار إليه بالبنان والفضل معا على انه موطد لمدرسة ستتلو لاحقا هي مدرسة الروح مقابل مدرسة الجسد ، أو بتعبير أقل إيغالا في الفلسفة كما هو مذكور بالنص الموروث ، مدرسة العذريين والشعر العذري الذي يرى للمرأة اكثر من الجسد فضلا .

ومن هؤلاء صناجة العرب الأعشى هو مثال آخر يصدح أيضا في معلقته حاملا( كاميرته) في وصف هريرة ذائعة الصيت ، تلك الهريرة التي تمكن من التقاط صور شعرها وجسدها ثم انتقالاتها الحسية ولكن بأدب وسترة وحشمة ظاهرة لا تصل حد المكبر كما كان يفعل سابقا امرؤ القيس ، وهو يتابع حركة وصفة ومستوى هذه الانتقالات الجسدية ولكن بغير تلك اللهفة الحسية المادية التي كانت لصاحبنا السابق :

غراءُ فرعـاء ُ مصقولٌ عوارضها /*/ تمشى الهوينى كما يمشى الوجى الوحلُ

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت /*/ كما استعان بريح ٍ عشرق ٌزجلُ

يكادُ يصدعها لولا تشددهـا /*/ إذا تقوم ُ إلى جاراتهـــــــــــا الكسلُ

إذا تقوم يضوع المسك ُ أصورة ً /*/ والزنبقُ الوردُ من أردانهــــــا شملُ

يضاحكُ الشمس منها كوكب شرق /*/ مؤزر بعميـــــــم النبت ِمكتهلُ

والأعشى لم يقف كما أسلفنا عند هذا الوصف الحسي الدمث والمقتصد بل أورد للمرأة وللمرة الأولى صفات معنوية جميلة وخلال وشيم وقيم نبيلة لتلك المحبوبة التي يصفها ويصف حفظها لسر جارتها ورعايتها لحقوق العشيرة والأهل ومراعاتها للسمعة وهذا فارق لا بد من ذكره والوقوف عنده في قصيدة الحب :

ليست كمن يكره الجيران طلعتهــــا /*/ ولا تراهــــــا لسرِّ الجــــار ِ تختتــــــل ُ

قالت هريرة لما جئت ُ زائرهـــــــا : /*/ ويلــــــي عليك َ وويلــــي منك ! يا رجلُ

ولعل قصيدة الحب هذه قبعت فترة ما كغير ما آلت إليه طوال العصر الإسلامي الأول وخاصة في حضرة الخلفاء الراشدين ، ولم تملك أن تقفز إلى آفاق جديدة إلا بعد ولووج عصر جديد ، ولم يتمكن شعراء كثر في عصر الإسلام الأول من تناول المرأة كموضوع قائم بذاته اللهم إلا أبيات استهلال أو توظيفا عابرا في القصيدة ذات الغرض المختلف تماما ، ونرى من هذا نماذج متعددة منها وقوف كعب بن زهير أمام يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحا بلاميته المشهورة :

بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول ُ /*/ متيمٌ إثرها لــــــم يفد مكبول ُ

وما سعادُ غداة البين إذ برزت /*/ إلا أغن غضيض الطرف مكحولُ

تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت /*/ كأنـــــه منهــلٌ بالــــــراح ِ معلولُ

إلا أن فارس عصر الإسلام في قصيدة الحب والذي ولد متأخرا وبالذات ليلة قضى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ،كان عمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي ، وقد نهج عمر بن أبي ربيعة فحل شعراء الغزل آنذاك منهج إمامه الأمير امرئ القيس في الناحية المادية جزئيا ولكنه لم يصل إلى ما وصل إليه الأول منهما بل أبقى بينه وبين ذلك ما للإسلام من اثر وما لسوط الخلفاء من رهبة خاصة وأنه قد ذاق فيما بعد طعم هذا السوط على يد الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز يوم أن عن له أن يتجاوز الحد .

وابن أبي ربيعة هذا ملك ناصية قصيدة الحب الممسرحة إن جاز التعبير ، إذ انه لم يلبث أن أضاف السرد المسرحي على واقع قصيدته مما أضاف لها نكهة أخرى وجعلها تتميز حقا ، وحكاياته الكثيرة بترصد النساء واعتراضهن والتشبب بهن متعددة ومشهورة في كتب الأدب ، والمغرق في الجرأة فيها أنه كان يعمد إلى أيام الحج واجتماع النسوة فيها ليتصيد فرائسه منهن مما أغضب عليه الولاة واستوجب له سوط الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فنفاه حتى تاب عن ذلك ، وإذن فان الغزل المسرحي وقصيدة الحب الممسرحة إنما عرفت على يديه وهي مسجلة باسمه قطعا بما تحمله من مميزات وخواص ،

مثلا :

ليت هنــداً أنجزتنـــا ما تعد /*/ وشفت أنفسنــــــا مما تجدْ

زعموها سألت جاراتهــــــا /*/ وتعرت ذات َ يـوم ٍ تبتردْ

أكما ينعتني تبصرننـــــي /*/ عمركنَّ الله ! أم لا يقتصـدْ

فتضاحكن ، وقد قلن لها : /*/ حسن ٌ في كلِّ عين ٍمن تودْ

وكذلك :

غادة ٌ تفتـرُّ عن أشنبــــــها /*/ حيـن تجلـــوهُ أقـــاح ٍ وبرد ْ

ولها عينان ِ في طرفيـهمــا /*/ حورٌ منها ، وفي الجيد غيدْ

قلتُ: من أنت؟ فقالت: أنا من /*/ شفَّـهُ الوجد ُ ، وأبلاهُ الكمـدْ

نحنُ أهل الخيفِ من أهل منى /*/ ما لمقتـــول ٍ قتلنــــــاه ُ قود ْ

قلتُ: أهلاً ! أنتم ُ بغيتنــــــــا /*/ فتسمين َ ، فقالت : أنا هنــــدْ

كلما قلتُ : متى ميعــــادنــــا /*/ ضحكت هند وقالت: بعد غدْ

حكايات شيقة مكتملة العناصر المسرحية ، وقد أضاف ابن ربيعة حقا بهذا السرد وتحريك الشخوص والحوار الممتع إلى قصيدة الحب لونا جديدا لم يكن قد عرف من قبل على هذا النحو .

وكما أن المرأة الموضوع لم تغادر عند عدد من الشعراء السابقين مذبح الحس ومتطلباته المباشرة ،فان عددا منهم أبى ذلك وأقام للمرأة الموضوع المضاد تماما ، إذ نظر إليها ككائن روحاني وكقيمة وجدانية فكان محفزه لاستكشاف هذا اللغز وهذا الكائن المفاجأة هو الجانب المقابل تماما ، وقد ظهر هذا الجانب بلا شك متأخرا عن الجانب المادي وهذا منطقي بعض الشيء ، إذ أن ما يتبع الإحساس عادة ويليه هو النظر والفكر والتمعن في منطوق الفكرة ، ولذلك فان قصائد العذريين والغزل العذري إنما جاءت تالية لقصائد الغزل الحسي ، وقد ذاع صيت قصائد بني عذرة ومن نسج على منوالهم في الموروث الشعري العربي كثيرا ، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أن الغزل وقصائد الحب إنما ذاعت وعرفت وانتشرت في آفاق واسعة بسبب صدق هؤلاء الشعراء أنفسهم في حبهم بل وتضحياتهم في سبيل هذا الحب إذ كانت تجارب حقيقية لا يشوبها الغرض ولا يعتريها الشك من ناحية ، كما أنها كانت متكاملة من حيث النهج والخصائص من ناحية أخرى لتشكل حقا مدرسة متكاملة وليست ظاهرة ما مما قيض لها أن تنهض وبجدارة لتكون منافسا لمدرسة المادة ، وها هو قيس بن الملوح وصاحبته ليلى وكذلك ابن ذريح وليلاه وعروة وصاحبته عفراء وكثير وصاحبته وغيرهم فيمن عشق عشق النفس للنفس دون شائبة جسدية فانية يصدحون جميعا في محراب الحب الطاهر بتجاربهم وملاحمهم الخالدة. ولعلنا نورد هنا أبياتا لجميل بثينة لندلل على مقدار ما كان لديهم من نزاهة وتجرد :

واني لأرضى من بثينــــة بالذي /*/ لو أبصره الواشي لقرت بلابلهْ

بلى وبــألا ّ أستطيـــع ُ وبالمنى /*/ وبالأمل المرجــوِّ قد خاب آملهْ

وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي /*/ أواخرهُ لا نلتقــــــــي وأوائلـــهْ

انه منتهى ما يذهب إليه الزاهد القانع ، مجرد نظرة واحدة فقط ينقضى الحول ولا يذهب مفعولها المذكي لجنان الشاعر الذي هو بلا شك يختزنها في كل مكان يتمكن فيه أن يختزن أثر هذه النظرة لتحرك فيه لاحقا كل محركات التوليد الإبداعي فيصلنا شعرا عذبا يحمل أثر هذه التجربة وتداعياتها معا .

أما صاحبنا قيس بن الملوح فانه يرفض أن يفقد حبه هذا حتى لو كان ذلك بسبب هو خارج عن إرادته تماما ولا يستطيع له حيلة ، بل ويتمنى لو انه ما انفك راعيا صغيرا يروح ويغدو مع ليلاه لا يكبران ولا ينتقلان إلى حال آخر ، فهو إنما يطمع في حبها صغيرة وليكن وليس في ما هو أكثر من ذلك :

تعلَّقــتُ ليلى ، وهي ذاتُ ذؤابـــة ٍ /*/ ولم يبد ُ للأتراب ِ من ثديها حجم ُ

صغيرين نرعى البهم َ يا ليت أننا /*/ إلى اليوم ِ لم نكبرْ ولم تكبر البهم ُ

ولعل نظرة الغزل أو الحب الذي لا يتجاوز كثيرا في ترجمة حاله هي قطعا توافقت مع نظرة جزء لا بأس به من أهل ذلك العصر للحب الذي يقبلونه حبا وللعشق الذي يسمونه عشقا ، حتى أن بعضهم ربما أخرج ما عدا حدوداً بعينها وتجرأ على ذلك من حضرة ومقام الحب ، ولعل هذه الحكاية التي رواها الأصمعي وجاءت في كتاب المستطرف تفي بغرض الدليل في هذا المقام ، والحكاية تقول بأن الأصمعي سأل أعرابية أثناء تجواله في البادية وقد صادفها ، " قلت لأعرابية ما تعدون العشق فيكم ؟ قالت : الضمة ، والغمزة، والقبلة . ثم أنشدته قائلة :

ما الحبُّ إلا قبلــــة /*/ وغمز كفٍ وعضد

ما الحبُّ إلا هكـذا /*/ إن نكح الحبُّ فسد

وهكذا نرى أن منتهى ترجمة العشق لم يتجاوز بأفعاله تلك الحدود على الإطلاق ، ولعل تكملة تلك الحكاية والتي أنشأت تلك الأعرابية تستفهم من الأصمعي عن رأي جماعته هو في الحب ، حتى إذا ما أفصح الأصمعي عن ما تجاوز هذا ، صاحت به قائلة :- يا هذا لست بعاشق إنما أنت طالب ولد ".

وهكذا فما يمكن أن يستخلص من واقع المرأة الموضوع الشعري ، لا يعدو كونه أحد هاتين المدرستين مع ما يمكن أن يصدق عليهما من تدرج وتدريج ، تنوع وتنويع ، وتطور وتطوير ، على امتداد فترات الموروث الشعري العربي ، ولعل ملاحظة تبقت في هذا الموضع تستحق قطعا الذكر ،وهي أن الذهاب إلى أقصى حدود المادية إنما كانت دائما رهنا بعوامل البيئة وأثرها ، كما أن التعفف والإغراق في الروحانية أيضا هي انعكاس لموروث أخلاقي أم ديني أم فلسفي معين ، وكلاهما متأثر بفترات تاريخية محددة . وهنا يمكننا بلا شك الاستدلال على ذلك بما صاحب قصائد العصر العباسي الثاني العشقية من تهتك وفسق عريض وخاصة عندما انتشرت عدد من الظواهر التي لم تكن قد عرفت منذ الجاهلية أو تلك التي طرأت على الحياة المدنية ودخلت إلى المجتمعات العربية من باب واسع جديد ، ومن تلك الظواهر مصاحبة آلات الموسيقى والعزف والقصف والشرب وحضور القيان والجواري وما خلفه ذلك جميعا على يد عدد من الشعراء المتهتكين والمغالين في الحس والمادية من أمثال أبي نواس وديك الجن والحسين الخليع وغيرهم ممن أسف إسفافا كبيرا ولم يرع حرمة أبدا في شعره وتهتكه والأمثال كثيرة أورد عددا لا بأس به منها صاحب الأغاني في مجلدات عدة ، كما أورد غيره مثل الجاحظ عددا آخر منها في كتابه المحاسن والأضداد ويمكن الرجوع إلى تلك المصادر للوقوف على هذه النصوص وطبيعتها . ولعلنا لا يمكن لنا أن نجزم بأن المدنية والترف هما فقط السببان المؤديان إلى هذا المستوى المتدني من الحسية ، فهناك الشعر الأندلسي والذي لا يمكن أن يقال عنه بأنه لم ينم في عصر مدني تام ، بل انه لربما نما في مجتمع مدني متميز أكثر حظا مما هو قد تهيأ للشعر في الشرق العربي ، ومع ذلك وجدنا شعر ابن زيدون وغيره بل وموشحات فنية جميلة تتناول المرأة من زوايا متعددة ليس فقط الحس والجسد ، ولو زعم زاعم أن سبب تهتك شعر الشرق عموما في تلك الفترة إنما هو بتأثير الجواري والقيان القادمات من مختلف أصقاع الدنيا إلى بغداد وغيرها من حواضر الخلافة ، فإننا لا شك سنورد له أيضا عددا من الأمثلة التي تدلل على أن المجتمع الأندلسي أيضا إنما كان منفتحا على الشعوب من حوله بما تحمل من ذات العوامل ، مما لا يستقيم معه أن يستحضر كسبب لما آل إليه حال شعر العشق في الشرق في تلك الفترة .

وإذا كان ذلك في العصور السابقة فان عصرنا الحالي أيضا شهد كمثل سوابقه عددا من الشعراء ممن ذهب إلى هذا الجانب أو ذاك وآخر ربما توسط في الحالين ، وإذا كان لنا أن نذكر شعر نزار قباني مثلا فهو بلا شك قد بدأ شعر المرأة حسيا مغرقا في المادية أول أمره ثم انه ما لبث أن اعتدل إلى غير ذلك في أواخر قصائده الغزلية منتحيا جانبا من الاعتدال والتأنق في فنه الغزلي الرائع الذي يمكن لنا أن نساوي أثره في عصرنا بأثر شعر أئمة شعر الحب والغزل في الموروث الشعري العربي القديم .

إن جميع ما قدمناه هنا يدلل على عمق هذا الجانب ، أي جانب حضور المرأة الطاغي كموضوع في الموروث الشعري العربي فما هو حال حضورها في الجانبين الآخرين الذين اخترناهما آنفا ؟

- المرأة المتلقية والناقدة

أما في هذا الموضع فقطعا للمرأة شأن ٌ ما هو بالتأكيد صائرٌ إلى أن يكونَ أوسع دائرة وأكبر مساحة من دورها كشاعرة من حيث العدد والكم ، فهتا هي جزء من السامع المتلقي والذي ربما كان مجرد سامع متفهم أو غير ذلك ربما ، وان كان متفهما فان له أثراً يتبع فهمه هذا ، فهو أما ميال لما سمع ربما حفظ وروى أو ربما تفاعل مع ما سمع فأكد أو نفى ، أو حتى ربما ذهب شأوا ابعد من ذلك فانتقد وبين وأفصح وصرح وهذا أعلى من كل ما سبق مرتبة ومنزلة على الإطلاق وهو دور النقد .

إذن فان المرأة ربما كانت راوية للشعر أو ربما كانت مقاربةً له فآتية بما هو مخالفٌ أو موائم ٌ من موقع الحفظ والتفاعل مع المقام أو ربما كانت ناقدة مميزة ، والحقيقة أن هذه الأدوار جملةً وتفصيلا كانت أيضا مما تمتعت المرأة بدورها فيه على امتداد عصور الشعر العربي ، ولقد روى لنا الجاحظ كما روى صاحب الأغاني مثل هذه الأحاديث التي ربما أدخلوها تحت باب فصحاء النساء وحكاياتهن كما أوردها صاحب المستطرف أو تحت باب الأجوبة المسكتة أو غير ذلك من العناوين المختلفة وكلها تؤدي ذات المعنى المنشود .

ومن ضمن هذه الحكايات العديدة التي تحفل بها كتب الأدب وسيره نورد هذه الحكاية التي تدلل على حفظ النساء للشعر وتفاعلهن معه ما روي عن شاعر وقف ينشد قصيدته وسط جمع من الناس حتى إذا ما وصل إلى بيته الذي يقول فيه :

إن النساءَ شياطين ٌ خلقن َ لنا /*/ نعوذ ُ بالله ِ من شرِّ الشياطين ِ

حتى أوقفته إحدى النساء الحاضرات وقد أوغر صدرها ما اتهم به بنات جنسها لتوه قائلة : لا والله ، بل قل :

إن النساءَ رياحينٌ خلقن َ لنا /*/ وكلُّنا يشتهي شمَّ الرياحيــــنِ

وغير بعيد عن ذلك ما روى عن كثيّر عزة وقد مرَّ بطريق مرة ، فإذا بعجوز عمياء على قارعة الطريق تمشي ، فقال لها : تنحي عن الطريق ، فقالت له ويحك ، و من تكون ؟ قال أنا كثيّر عزة ، قالت قبحك الله ، وهل مثلك يتنحى له عن الطريق ، قال ولم ، قالت ألست القائل :

وما روضة بالحسن طيبة الثرى /*/ يمج الندى جئجائها و عرارها

بأطيب من أراد أن عزة موهنـــا /*/ إذا أوقدت بالمجمر اللدن نارها

ويحك يا هذا لو تبخر بالمجمر اللدن مثلي ومثل أمك لطاب ريحها ، لمَ لا قلت مثل سيدك امرئ القيس :

وكنت إذا جئت بالليــل طارقــا /*/ وجدت بها طيبا وان لم تتطيب ِ

قيل فقطعته ولم يرد جوابا .

إن هاتين الحكايتين تنمان عن تذوق للشعر وفهم عميقين كما وتنمان أيضا عن بديهة حاضرة وذاكرة وافرة للمرأة سواء أكانت صبية غرة فرحة بشبابها الناضر ومعتزة بجنسها يملؤها الفخر لتخوض صراعا وأمام الملأ معلنة الحرب لانتصافها لقيمة المرأة ودورها ، أم هي عجوز لم يقعدها طول العمر ولا تقلب الزمان عليها أن تهب الشعر والأدب حظه من العناية وذلك بأن تقف أمام فحل من فحول الشعر العربي متحدية متوعدة.

لقد ترافعت المرأة أمام القضاء عن حقها شعراً ووقفت أمام خليفة رسول الله عمر بن الخطاب ذلك الذي له من الهيبة ما له لتشكو زوجها فقدمت إليه شاكية باكية ، فقالت يا أمير المؤمنين : إن زوجي يصوم النهار ، ويقوم الليل فقال لها : نعم الرجل زوجك ، وصادف أن أحدهم ويدعى كعبا كان في مجلسه ، فقال يا أمير المؤمنين إن هذه المرأة تشكو زوجها في أمر مباعدته إياها عن فراشه ، فقال له عمر : كما فهمت من كلامها فاقض بينهما .فقال كعب عليَّ بزوجها فأحضر ، فقال له كعب : إن هذه المرأة تشكوك ، قال الزوج : أفي طعام أم شراب ؟ قال كعب : بل في أمر مباعدتك إياها عن فراشك ، فأنشأت المرأة تقول :

يا أيها القاضي الحكيم انشده /*/ ألهى خليلي عن فراشي مسجدهْ

نهاره و ليلــــه لا يرقـــــده /*/ فلست في أمر النســــاء ِ أحمدهْ

فأنشأ الزوج يقول :

زهدنـــي في فراشـــها وفي الحـللْ /*/ أنيّ أمرؤ ٌ أذهلنـــي مـا قد نزل ْ

في سورة ِ النّمل ِ وفي السبع الطولْ /*/ وفي كتاب ِ الله ِ تخويــفٌ يجـــل ْ

فقال له القاضي :

إن َّ لهــــا حقــــاً عليك َ لم يزل ْ /*/ في أربـع ٍ نصيبهـــا لمـن عقل ْ

فعاطها حقها ودع عنك العلل ْ

ثمَّ أوضح له أن الله إنما أحل النساء أربعا وبما أن له امرأة واحدة فله ثلاث أيام يتعبد فيهن ما شاء ولكن حقها الرابع حكما من الكتاب ، فما كان من عمر إلا أن قال :لا أدري من أيكم أعجب ، أمن كلامها أم من حكمك بينهما ، يا كعب اذهب فقد وليتك البصرة .

نعم لقد رافعت عن حق من حقوقها ربما كثير من النساء حتى في عصرنا هذا قد تمسكُ عن الإفصاح حول شيءٍ من هذا فما بالك أن تطلبه جهرا وشعراً وأين أمام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة القوي الذي كانت تخشاه أعتى الجبابرة في الجاهلية وتخاف من حكمه الخصوم ، ولكنها كانت مؤمنة بعدالة قضيتها وصدر الحكم لها ، بل وأتبع ذلك انتصارٌ آخر هو نصيرٌ لحقوق المرأة يتولى حكم البصرة إن نظرت إلى ذلك بمقياس ما .

وقد جلست المرأة حكما وكانت حيث الناقد الخبير بين الشعراء أنفسهم من الرجال أو رو اتهم من الرجال ، ومن الذي اشتهر في كتب الأدب أيضا ، هذه الرواية التي حكاها أبو عبيد الله الزبيدي عن حكم السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما بين رواة جرير وكثيّر وجميل والأحوص ونصيب ، إذ اجتمعوا وتنازعوا أي من أصحابهم أشعر ، فقالوا نحتكم إلى السيدة سكينة وكانت تجلس مجلس النقد والأدب لتبصرها بالشعر ، فخرجوا حتى استأذنوا عليها وذكروا لها أمرهم ، فقالت لراوية جرير أليس صاحبك الذي يقول :

طرقتك زائرة القلوب وليس ذا /*/ وقت الزيارة فارجعي بسلام ِ

وأي ساعة أحلى من الزيارة بالطروق ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، فهلا قال فادخلي بسلام . ثم قالت لراوية كثير أليس صاحبك الذي يقول :

يقـــر بعيني مــا يقـــر بعينـــها /*/ وأحسن شيء ما به العين قرتِ

وليس شيء أقر بعينها من النكاح أيحب صاحبك أن ينكح ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ثم قالت لراوية جميل أليس صاحبك الذي يقول :

فلو تركت عقلي معي ما طلبتـها /*/ ولكن َّ طلابيها لما فات من عقلي
فما أراه هوى ولكن طلب عقله ، قبّح الله صاحبكَ وقبّح شعره ، ثم قالت لراوية نصيب أليس صاحبك الذي يقول :

أهيم بدعد ما حييت ُ فان أمت /*/ فواحزني من ذا يهيم ُ بها بعدي

فما له همة إلا من يتعشقها بعده ، قبّحه الله وقبّح شعره ، هلا قال :

أهيم بدعد ما حييت ُ فان أمت /*/ فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

ثم قالت لراوية الأحوص أليس صاحبك الذي يقول :

من عاشقين تواعدا وتراسلا /*/ ليــلاً إذا نجـم الثريــا حلّقــــــــا

باتــا بأنعم ليلـــة وألذهــــــا /*/ حتى إذا وضع الصباح تفرقــــا

قبحه الله وقبح شعره .هلا قال تعانقا . فلم تثن على واحد منهم ، وأحجم رواتهم عن جوابها .

منتهى القدرة على التمحيص والممارسة القوية بل والتوجيه الحقيقي وليس فقط الحكم على المعروض من النصوص بل والقدرة على اقتراح الصائب والسليم المبني على الحكم الصادر ، ليس فقط النقد وكفى بل القدرة على بناء لائحة الاتهام ومبرراتها وتقديم الأدلة عليها واقتراح مسارات أخرى ، فهل بعد ذلك من شك في قدرة هذه المرأة العربية المتمكنة أكانت أديبة أم من العامة أن تتذوق الشعر وتتلقاه تلقي القادر عليه ؟!

وإذا كان ذلك في عصور انقضت فان المرأة العربية المعاصرة أيضا لا زالت تمارس هذا الدور الإيجابي مع الشعر العربي في مراحله المختلفة وبأشكاله المتعددة ، وقطعا لن نهمل هنا الإشارة إلى أشكال الشعر البدائية منها كالحداء وما تفرع عنه من موزون العامة كالزجل والنبطي وغيره ، فالمرأة تقوم بدور مميز في هذا الأمر وان زعمنا أنه قطعا أقل كثافة وقوة مما كان عليه حالها في تلك العصور .

والنقد الأدبي في عصرنا الحالي عموما يعاني من أوجاع وأمراض عديدة ربما قد نتطرق إليها في موضع آخر ، إلا أن ما يعنينا هنا أنه لا يجب أن نغفل ذلك ونحن نوجه بصرنا يمنة ويسرة لنبحث عن ناقدات عربيات مجدات يشار إليهن في هذا المقام ، إذ أن النقاد من الرجال أيضا قلة والنقد بعامة في انحسار وفاقة فلا يجب إذن أن يصار إلى استنباط حكم بأن عددهن قليل أو منعدم أو يكاد لسبب فيهن بخاصة بل إنما هو عرض عام .

وإذا كنا قد ذكرنا صالونات الأدب العربي القديمة والشعر أساسا كما تقدم من روايتنا لمجلس السيدة سكينة فان عصرنا أيضا قد شهد صالونات أدبية أيضا نذكر على سبيل المثال صالون الأديبة مي زيادة وغيرها كثير بلا شك وإذا كنا بصدد ذكر عدد من الناقدات العربيات فان الأمثلة أيضا كثيرة وقد لا يتسع المجال لهن جميعا ولكننا لا بد من ذكر المبرزات منهن كعائشة عبد الرحمن ولطيفة الزيات وسلمى الحفار الكزبري وروحية القليني وغيرهن .

إذن وقد انتهر بنا الأمر إلى أن نقفر على دور فعال لهذا المخلوق الجميل في هذا المحراب الجميل وهو محراب الشعر ، لا بد لنا أن نخلص إلى أن المرأة العربية كانت ومما تقدم بلا شك جزءا رئيسا من هذا اللون الرفيع من ألوان الأدب موضوعا وواضعا كما هي موجهة لحركة هذا اللون أيضا . ونحن إذ نخلص إلى هذه الحقيقة لنتمنى على النساء العربيات أن لا يقعدن عن إتمام ما بدأنه سابقاتهن في هذا المضمار وأن يعمدن إلى أن يصلن ما انقطع ولنا في ذلك ثقة تامة بقدرة نفر لا بأس منهن بذلك .

- المرأة الفاعلة في الشعر

أما هذا الجانب فهو بلا شك جانب مختلف تماما عن النظرة التي بدأنا بها نظرنا نحو ما سبق ، فان كان عامل التكوين قد أسبغ على المرأة صفات بعينها أدت إلى أن تتسيد جزءا لا بأس به من الموروث الشعري العربي كموضوع فيما رأينا ، فان تلك العوامل هنا ليست بذات درجة التوتر ولا بذات الفاعلية التي تجعل المرأة تندفع إلى فعل خارج إطار ما حددته لنفسها من تشكيل ومنذ البدء ، ولعل عددا محدودا منهن قد آثر أن يكسر هذه القاعدة لأسباب ما ليست منطلقة من واقع التحدي ، بل ربما كانت أسبابهن تسمو إلى غير ذلك حقا ، ونحن نرى أن المرأة الشاعرة أو حتى المرأة الناقدة ربما كان جزءا من أسبابها محاولة من قبلها لاستشفاف أجوبة ما تخص محاولاتها هي للحصول على أجوبة محددة للغزها هي وعلاقتها بالآخر ومن داخلها هي وليس نتيجة لأثر خارجي .

وهنا لا بد لنا أن نتطرق إلى رؤى أخرى قد يراها الآخرون في هذا الجانب ، فمثلا هنالك من يرى أن الشعر كصنعة أو كفن ٍ إنما هو عملية عقلية صرف وأن الخيال فيه إنما هو أيضا محكوم بقولبة لغوية هي أيضا تحتاج إلى جهد يفرغ فيه ، وطبعا هم لا ينفون قطعا أن الاتحاد الإدراكي الشعوري لا بد منه أثناء قرض الشعر ، ونحن لا نرى في ذلك شيئا من الحقيقة ولا نتفق مع هذا التوصيف بشيء ، فإذا كان الشعر كذلك ولو سلمنا بهذا فان للمرأة أيضا ملكات لغوية حقيقية ، وهنالك عدد منهن في هذا المجال يمكن الاستدلال به ، كما أن القدرة الكلامية نفسها قد ثبت بالتشريح الفسيولوجي العلمي الحديث أكثر تطورا في المرأة منه في الرجل . ولا يمكن لنا أيضا أن ننفي قدرة المرأة في الجوانب التركيبية أيضا ولا أن نقول باستلاب درجات حسها ، بل على العكس تماما إذ لطالما ذكرت المرأة عند مجرد ذكر العواطف ، فهي أكثر من الرجل قطعا تأثرا بالعواطف والمشاعر .

وهنالك من أعاد تجرأ المرأة وولوجها هذا الجانب إلى كونه تعبير ما عن شعور المرأة الفينوسي بالتفوق والانتصار أكثر من كونه ربما إفراز ما للإحباطات السلطوية وصوت احتجاج على الاستلاب وربما التهميش في القضايا الأساسية ، ولعل كلا الأمرين قد يصح منهما شيء ما كحافز ومؤثر فعلا ولكن ذلك لا يصلح أساسا لكي يجيب بشكل نظري عام عن السؤال المحق فيما يدفع المرأة للشعر ؟

قطعا إن الحافز الرئيس لا بد وأن يكون حقا هو أكبر من شعور بالسلطة إن حدث ذلك الإحساس فعلا ، وأقوى من مجرد الرد على الاستصغار وان حدث أيضا ذلك ، إذ أن المرأة قطعا قد أدركت بداية أن سلاحها الفتاك في لغزها المحير وفي ضعفها المفترض بل وتمادت في ذلك دوما فما حاجتها إلى أن تستبدل سلاحا أقوى وقد أثبت فاعليته بأسلحة قد لا تقوى على المواجهة ؟ أو في أحسن الأحوال قد لا تضمن النصر طويلا أمام انكشافها المتوقع ؟

لا بد إذن من أن يكون ذلك العامل هو أقوى من كل هذه الافتراضات جميعا بحيث لا تستطيع المرأة معه إلا وأن تصدح بشعرها وتصل به إلى شأو بعيد ، ولعلنا نتوقع أن حافزا كهذا هو حافز ساحر عميق يتجاوز واقع الخطط والتحضير ، انه بلا شك حافز تكويني يتقاطع طبعا مع عوامل الفطرة والملكة والموهبة لتؤلف جميعا سببا وجيها وحقيقيا لتفسير هذا الحضور الأنثوي الفاعل في عدد من النصوص وعلى امتداد الموروث الشعري العربي .

إن شاعرات عربيات مبدعات كالخنساء وليلى الأخيلية وعاتكة وغيرهن كثيرات ممن اشتملت كتب الأدب على ذكرهن وذكر أشعارهن ، هي نماذج أنثوية مميزة ورائعة وتدلل على المرأة كعامل فاعل منتج دللت على تلك العلاقة بين المرأة وبين الشعر وتركت بصمات بقيت إلى عصرنا هذا لبنات جنسهن حاديا ودليلا أيضا . وإذا كنا قد وجدنا المرأة كموضوع في الشعر العربي هي ركن قصيدة الغزل المكين ، فما هو موقع أقدامها كفاعل وما هي موضوعات شعرها ؟

إن الخنساء وهي تتصدر عصرين معا بقصيد الرثاء ، تلك القصائد البديعة المبكية لكل من قرأها في كل عصر وأوان سواء في الجاهلية وهي ترثي أخاها صخرا أو حتى في صدر الإسلام وهي ترثي أبناءها الشهداء الذين قالت عنهم : الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم جميعا . وهذا الموضوع الإنساني النبيل يلتقي حقا مع المخزون العاطفي الكبير الذي تختزنه المرأة ويرد على من تقول بعكس ذلك من جهة ، ويدلل على قدرتها الفذة على التحكم في هذه العواطف بل وتحويلها إلى إبداعات مجلية .

أعينيَّ جودا ولا تجمــــدا /*/ ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل /*/ ألا تبكيان الفتى السيــدا

طويل النجاد رفيع العماد /*/ فتى ساد عشيرته أمردا

وقولها :

يا صخرُ ورّادَ ماءٍ قد تناذرهُ /*/ أهلُ المياهِ وما في ورده ِ عارُ

وان صخراً لوالينا وسيدنــــا /*/ وان صخراً إذا نشتــو لنحّـــارُ

وان صخراً لتأتــمُ الهداةُ بــه ِ /*/ كأنـــهُ علــم ٌ في رأســه ِ نار ُ

حتى تراها وقد ضجت بعواطفها إلى أبلغ ما يمكنها بقصيدتها التي استهلتها بعد طول بكائها ونحيبها تلوم عينيها اللتين ربما تلكأتا قليلا عن الاستمرار في البكاء :

قذى بعينيك ِ أم بالعين عوّارُ /*/ أم ذرفت مذ خلت من أهلها الدارُ

لقد برعت الخنساء في شعرها أيما براعة وقد وقفت يوما بعكاظ باكية مبكية بشعرها الأخاذ أمام النابغة الذبياني صادحة بقصيدتها السابقة وبهذا البيت مستهلة فما كان منه إلا أن يقول : لولا أن أبا بصير (ويعني بذلك الأعشى) قد أنشدني قبلك ِ لقلتُ انك أشعرُ من بالسوق . وقد أورد أيضا صاحبُ جواهر الأدب السيد أحمد الهاشمي في هذا الموضع قول جرير لما سئل من أشعر الناس ؟ قال: أنا لولا الخنساء ، قيل ففيم فضلتك ؟ قال بقولها :

إن الزمان (وما يفنى له عجب ٌ ) /*/ أبقى لنا ذنَبا ً واستؤصلَ الرأسُ

إن الجديدين في طول ِ اختلافهما /*/ لا يفسدان ِ ولكن يفســـدُ النــاسُ

وقد أورد أيضا في ذات الموضع أن الرسول عليه السلام كان يعجبه شعرها ويستنشدها ويقول : ( هيهه ِ يا خناس ) ويومئ بيديه . فماذا تبقى أكثر من ذلك ليدلل على تفوق هذه المرأة النموذج ؟

وإذا كانت الخنساءُ علما في شعر المراثي ، فان ليلى الأخيلية كانت أيضا علما في شعر الرثاء وهناك من قام بتفضيلها على الخنساء ولا أرى ذلك قطعا ، وان كانت ليلى في رثائها لتوبة العقيلي قد أجادت أيضا وأغنت ربما جوانب أخرى قصائد الرثاء ، فان مبعث كلتيهما مختلف تماما ، كما أن رثاء الخنساء قد امتد حتى أصبح أعمق ما فيها من ملامح وشهد لها بذلك كثير من العرب ، أما ليلى فمختلف على مكانتها في قصيدة الرثاء . ومن قول ليلى المشهور في رثاء توبة :

أعيني ألا فابكي على ابن حميِّر ٍ /*/ بدمع ٍ كفيض ِ الجدول ِ المتفجِّــرِ

كأنَّ فتى الفتيان ِ توبة َ لم يُنـــخ ْ /*/ بنجد ٍ ولم يَطلــــع مع المتغــــوِّرِ

وإذا كانت ليلى الأخيلية قد انتهت راثية باكية لتوبة بن حميّر فإنها لم تكن قد قصرت على شعر الرثاء جهدها ولا أقامت عليه صومعتها ، بل إن كثيرا من الأشعار قد وردت في غير هذا الموضع وخاصة ما أورده الجاحظ في كتابه المحاسن والأضداد من مماحاكاتها الشعرية مع أبي نواس وغيرهم من الشعراء المتهتكين ، ولكن مصادر أخرى تنفي عن ليلى هذا تماما والثابت في كتب الأدب أنها جابهت توبة يوم أن ظنت أنه ربما أراد بها ريبة بقولها الفصل :

وذي حاجة قُلنا له لا تبح بها /*/ فليس إليها مـــا حييت َ سبيل ُ

لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه /*/ وأنت لأخرى صاحب ٌ وخليلُ

وهنالك من عمد إلى الشاعرات فقسمهن إلى قسمين اثنين ، شعر الحرائر وشعر الجواري والقيان وذلك يصدق قطعا ربما للعصر العباسي ولن يكون صالحا لغير ذلك مما سبقه وقد لا يصح تماما لما بعده ، وقد أوضح ذلك الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه النفيس الشعر والشعراء في العصر العباسي ، وأورد من شاعرات الحرائر الأميرة الشاعرة علية المهدية والفارعة بنت طريف وولادة المهزمية ، كما أورد أمثلة على شعر الجواري والقيان أشعار عنان وفضل وعريب وسكن .

وقد غلب على شعر القيان جميعا موضوع واحد بعينه هو شعر الحب والغزل، أما الحرائر منهن فقد تنوعن في أشعارهن بين من تغزلت و ارعوت عن الإفصاح تماما لموضعها الاجتماعي والسياسي كعلية ، وبين من بكت أخيها كالفارعة بين من أنشدت فخراً كولادة المهزمية .

ومن شعر ولادة وهي غير ولادة بنت المستكفي الأندلسية نلقى هذه الأبيات :

لولا اتقاءُ الله ِ قمتُ بمفخر ٍ /*/ لا يبلغُ الثقلان ِ فيــــه ِ مقامي

بأبوة ٍ في الجاهلية ِ سادة ٍ /*/ بزوا العلا أمراءَ في الإسلام ِ

قومٌ إذا سكتوا تكلم مجدهم /*/ عنهم فأخرس َ دون َ كل كلام ِ

أما علية فلقد لاقت من عشقها ما حرصت أن لا يبوح به شعرها ولكنها لم تستطع أن تكتم ما تعانيه كثيرا حتى صدحت أخيرا بقولها :

قد كان َ ما كُلِّفته ُ زمنــــا /*/ يا طلُّ من وجد ٍ بكــم يكفي

حتى أتيتكَ زائراً عجلا ً /*/ أمشي على حتف ٍ إلى حتفي

وإذا كان حال الحرائر الكثيرُ من الحيطة والحذر فانه غير قائم ولا وارد عند القيان بل ربما ذهبن فيه إلى أقصى ما يمكن أن يتصّور فيه من حدود .

وإذا كان ذلك من موقع الشعر فان المرأة الناقدة أيضا كان لها بصمة واضحة فيما سبق من عصور ومما وصل إلينا من قصص كثيرة تدلل على هذا الدور وقد أورد صاحب الكامل في اللغة والأدب العلامة المبرد نماذج من هذه القصص كما أورد أيضا أبو علي القالي البغدادي عددا آخر في كتابه ألأمالي في لغة العرب .

أما في العصور التي تلت ذلك فغير بعيد عنا شاعرات عربيات مبدعات من أمثال باحثة البادية السيدة ملك حفني ناصف والشاعرة عائشة عصمت تيمور في مصر وفدوى طوقان في فلسطين ونازك الملائكة في العراق وغيرهن ممن قد لا يتسع المجال لذكرهن جميعا ، وإذا كانت أغراض الرثاء والفخر والغزل قد غلبت على أغراض شاعراتنا العربيات فيما سبق ، فان شاعراتنا المحدثات جميعا قد انطلقن إلى قضايا أكثر إلحاحا وأعلى منزلة بما يتجاوز الهموم الذاتية إلى الهموم العامة رغم أن كثيراً منهن أو جلهنَّ قد بدأن الشعر رومانسياً وغنائيا إلى حد كبير قبل أن يتحولن إلى أطر أعمق وأكبر مثل هموم الجماعة وهموم الأوطان وقضايا التحرر والتقدم الإنساني والعربي الإسلامي بخاصة ، وهكذا برهنت هؤلاء في هذه الموضوعات على أن للمرأة ما يسمو عن عواطفها المباشرة وحدتها المسكونة بالتكوين إلى أرحب من ذلك بكثير وأرقى منه بدرجات إذا ما نضجت تجربتها واتسعت آفاق مداركها واقتربت من السؤال الحقيقي وإجاباته الوجودية الزاخرة . وإذا كانت هذه النماذج قد سبقت فان نماذج أخرى هي لا تزال في طور التشكيل الإبداعي الخاص بها من أمثال الشاعرة سعاد الصباح في الكويت وثريا العريض في السعودية من الجيل التالي لهن ، ناهيك عن شواعر أخرى من الجيل الشاب الذي ما فتأ يدق باب الخزان بقوة مع الاحتفاظ بحق المبدع غسان في الاستعارة ومنهن قرأنا لشاعرة إحداهن عراقية هي الشاعرة أمل الجبوري والأخرى فلسطينية هي أماني بسيسو وأخرى مغاربية هي حبيبة الصوفي وغيرهن كثيرات .

لقد صدحت باحثة البادية تحث النساء في بلدها على الجد والحكمة والحشمة والفضيلة وتراقب ما طرأ على أحوال المرأة من تغيير :

سيري كسيرِ السُّحب ِ لا /*/ تـــــأنــيْ ولا تتعجَّــــلي

لا تكنسي أرض الشوا /*/ رع ِ بالإزار المسبــــــل ِ

أما السفورُ فحكمـــــه ُ /*/ في الشرع ِ ليسَ بمعضل ِ

ليسَ النقابُ هو الحجابُ /*/فقصـــــــِّري أو طوِّلــــي

فإذا جهلت ِ الفرق بينهما /*/ فدونـــــك ِ فاســـــــألي

لا أبتغــي غير َ الفضيلةِ /*/ للنســـــــاء فـــأجملــــــيِ

وإذا كانت قضية باحثة البادية هي النساء وحالهن في مجتمعنا العربي بعد أن حلَّ به ما حل من متغيرات وما يتعرض له من تأثيرات عديدة الأمر الذي كان شغلا شاغلا ليس فقط للنساء والأديبات منهن على وجه الخصوص بل كذلك حتى للشعراء العرب من عمالقة عصر التجديد في تلك الفترة ، ويحضرنا قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم بك والتي ألقاها في مدرسة بور سعيد والتي كانت نداءا للمرأة وتوجيها للمجتمع أيضا وقد ذهب بعض أبياتها مثلا ونذكر منها هذه الأبيات :

أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً /*/ بين الرجال يجلنَ في الأسواق ِ

يدرجنَ حيثُ أردنَ لا من وازع ٍ /*/ يخشيـن رقبتــــهُ ولا من واق ِ

ربوا النساءَ على الفضيلة ِ والتقى /*/ فالشرُّ في التقييــــد ِ والإطلاق ِ

فالأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتــــــــها /*/ أعددت َ شعبا ً طيب َ الأعـراق ِ

إن هذا لعمري دليلٌ واضح على تفاعل المرأة الشاعرة والمرأة الأديبة مع ملحات عصرها وقضايا بني جنسها وما يمكن أن يتهدد أخطر قضايا الأمة. وربما لم نقف هنا على شعر عائشة كثيرا لانصرافها فترة طويلة في رثاء ابنتها توحيدة والتي ماتت شابة في مقتبل العمر إلا أن لها شعراً أيضا كثيرا في موضوعات الأخلاق والحث عليها.

أما هناكَ في فلسطين السليبة فان لشاعرتنا فدوى طوقان هما أكبر هو قضية الوطن والشعب والإنسان في عمق هذه القضية الكبرى ، وفدوى ما فتأت تقدم إبداعاتها الشعرية الفذة في سبيل هذه القضية بل والقضية القومية العامة ثم وفي سبيل حرية وكرامة هذا الشعب المقاتل وان كانت قد بدأت شعرها رومانسياً ذاتيا ، كما وان كانت قد تلقت جزءا لا بأس به من تعهد أخيها الشاعر الأديب إبراهيم طوقان بأدبها ورعايته له وحرصه على أن يخرج كأبهى ما يكون ومما هو لا شك فيه أيضا أن مساندة إبراهيم لها لم تقف عند حد الأدب ، بل انه لا بد من الإشارة لدوره الكبير في غرس الوعي الوطني والاستجابة الوطنية بأعلى درجاتها أيضا لدى شقيقته الشاعرة الناشئة وإبراهيم أحد شعراء فلسطين وقضيتها الذين يشار إليهم بالبنان في حقبة المواجهة الأولى مع المشروع الصهيوني في فلسطين ، وأذكر هنا أيضا أن لفدوى إعجابا شديدا بشعر وشخصية أحد شعراء فلسطين الأوائل أيضا في تلك الفترة عوضا عن شقيقها إبراهيم هو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود ، شهيد معركة الشجرة في فلسطين وربما كان أيضا هذا من العوامل التي ساهمت في تشكيل تجربة فدوى الشعرية لاحقا .

ونعلم فيما نعلم أن فدوى قد بدأت بشعرها مبكرة عموديا ثم انتقلت إلى الشعر المستحدث (شعر السطر الشعري) لاحقا أصدرت دواوينها بدءا من وحدي مع الأيام الرومانسي الصبغة مرورا بأمام الباب المغلق ذي الطابع المرمز وحتى الليل والفرسان المنطلق باتجاه قضيتها الأم ، وقد يصبح من نافلة القول أن نسم شعر الشواعر العربيات حينما كتبن يوما ما القصيدة العمودية بأنه لا يتسم بسمات الصنعة المتقنة مقارنة بما عرفناه عن شعر العربيات السابقات كما سلف الإشارة ، ولكن شعرهن الذي كتينه على هيئة السطر الشعري كان بلا شك أكثر نضوجا وقوة من جهة وحاملا لسمات إبداع مرتقب لا يلبث أن يصبح أكثر رسوخا وتحققا مع الارتقاء الزمني ومراكمة التجارب .

لقد كتبت فدوى في اتجاهات قومية متعددة ولم تقف عند قضية شعبها وان كانت نظرتها وتفاعلاتها القومية دائما من منطلق إيمانها بتعانق القومي والوطني دائما وأنه لا انفكاك من ذلك ، وربما من هنا نلمس الصدق الواضح يوم أن رثت بشعرها زعيما قوميا كالراحل عبد الناصر ، ولعل مقارنة بين رثاء من سبق كالخنساء وليلى ورثاء فدوى يدلل على ما ذهبنا إليه آنفا من نوعية ما طرأ على اهتمام الشاعرة العربية ومذهبها في تأطير الأولويات والتزام ما يترتب على هذا الترتيب .

وربما اكتفينا هنا بإيراد بعض من اسطر فدوى الشعرية والتي تظهر ألق التصميم ومرتبة الرقي في شعرها وهي قصيدة تعكس واقع التشتيت القهري واللجوء القصري الذي تعرض إليه شعب فلسطين اثر اغتصابها وتحكي لكم بلسان حال شيخ مسن وقف على بعد أمتار قليلة من بوابة وطنه الذي ابعد عنه :

أتغصب أرضي؟

أيسلب حقي وأبقى أنا حليف التشرد أصبحت ذلة عاري هنا

أأبقى هنا لأموت غربياً بأرض غريبة

أأبقى ؟ ومن قالها؟ سأعود لأرضي الحبيبة

سأنهي بنفسي هذه الرواية

فلا بد ، لا بد من عودتي

كان بعينه يرسب شيء

ثقيل كآلامه مظلم

لقد كان يرسب سبع سنين

انتظار طواها بصبر ذليل

تخدره عصبة المجرمين

وترقد تحت حلم ثقيل

أهوى على أرضه في انفعال يشم ثراها

يعانق أشجارها ويضم لآلي حصاها

ومرغ كالطفل في صدرها الرحب خداً وفم

وألقى على حضنها كل ثقل سنين الألم

وهزته أنفاسها وهي ترتعش رعشة حب

وأصغى إلى قلبها وهو يهمس همسة عتب

رجعت إلي

وكانت عيون العدو اللئيم على خطوتين

رمته بنظرة حقد ونقمة

كما يرشق المتوحش سهمه

ومزق جوف السكوت المهيب صدى طلقتين

إذا هنا نستطيع أن نقول أن شاعرة كفدوى أمكنها أن تقول كامرأة قضية هي جوهر قضية شعبها بلا شك أنها معاناة الحرمان والظلم والإحساس بالاستلاب لكن ليس طويلا أمام اتخاذ القرار بالمواجهة والعودة إذ لا بديل عن ذلك مطلقا ، وإذا كان ذلك من الناحية القيمية المحضة فان هذا الشعر الذي يعد أعذب ما فيه سلاسة وبساطة فكرته من ناحية ودرجة الاقتدار العالية في صوغ هذا المشهد من الناحية الفنية واللغوية معا متعانقا مع كل عناصر القصيدة الحديثة ، انه يدلل ببساطة على المستوى الذي أشرنا إليه سابقا وباختصار هو التوهج الإبداعي لدى شاعرة عربية هي فدوى طوقان .

وذا كانت فدوى وغيرها من شاعرات العرب المحدثات قد وجدن ضالتهن في القصيدة المحدثة ، فان الفضل يعود بشكل أساس إلى شاعرة مبدعة كانت أول من كتب وحدد المعالم الحقيقية لهذا النوع من الشعر من بنات جنسهن ، إنها نازك الملائكة ، ولا يمكن أن نتجاهل أن نازك نفسها قد نظمت القصيدة العمودية أيضا وبدأت بها ومن ثم كتبت السطر الشعري مفتتحة هذا اللون عبر قصيدة الكوليرا عام 1947 ، وان تحقق أن بدر شاكر السياب كان أول من كتب هذا اللون سواء في أزهار ذابلة أم قبل هذا الديوان أم بعده ، فانه لا شك أن لنازك الريادة فيه على بنات جنسها ، وهذا مما لا يرتقي إليه مراء على الإطلاق .

ولعل قضية فدوى الوطنية كانت أكثر إلحاحا وأقرب زمنا مما أدى إلى انتقالها سريعا من الرومانسية إلى قضايا الالتزام الوطني مما هو الحال لدى نازك التي استغرقها الأمر وقتا أطول بكثير من عاشقة الليل والشظايا وشجرة القمر ومأساة الحياة والملحمة الشعرية وغيرها من المجموعات الشعرية إلى أن نصل أخيرا إلى للصلاة والثورة وبعد هذا ما تبقى.

إن دراسة نازك للفنون الموسيقية قد ألقى بظلاله بلا شك على درجة رعايتها للمنظومة الموسيقية في القصيدة المستحدثة ولدرجة انشغالاتها بالحرص على النسق الفني المبدع فيها ، كما أن دراساتها للأدب الغربي ونيلها درجة الماجستير عام 1959من وسكونسن قد أثرى اطلاعاتها الأدبية ومهد لكي نشهد توظيفات أدبية من نوع مميز في قصيدة السطر الشعري المستحدثة من جهة ، وأدى من جهة أخرى لخلق نوع من التوافق والتصالح الداخلي بين افتراضات الشعر المستحدث ومبرراته وبين بعض من الأدوات التي أمكن دمجها واستخدامها عبر الرمز والانفتاح على تجارب الآخر .

ولقد رأينا أن ننقل هنا بعضا من أبيات نازك العمودية من قصيدة الخطوة الأخيرة والتي يتضح منها حرصها على الموسيقى العالية كسمة من سمات شعرها في نوعيه وقد عمدت إلى التنويع في القافية خلال القصيدة على نمط الثنائيات وهو لون كان معروفا حتى منذ عصور أقدم من ذلك والقصيدة طبعا مغرقة في الرومانسية ربما الحائرة :

اشهدي أيتها الأشجارُ أنّي /*/ لن أُرى ثانيةً تحتَ الظلال ِ

ها أنا أمضي فلا تبكي لحزني /*/ لا يعذِّبك ِ اكتئابي وابتهالي

خطواتي في الدجى لا تحسبيها /*/ إنها آخرُ ما أخطـــو هنــــا

إنها رجعُ أغـــان ٍ لن تعيـــــها /*/ سوفَ تذوي مثلما أذوي أنا

سوفَ أُلقي العودَ في الظلِّ وأمضي /*/ أيُّ معنىً ، بعدُ ، للعود ِ الرقيق ْ

سوفَ أحيا يا سمائي فوقَ أرضي /*/ سوفَ أطوي النور َفي قلبي العميق ْ

آهِ يا أشجارُ ، لا ، لا تذكرينــــــي /*/ فأنا تمثــــالُ يأس ٍ بشـــــــريِّ

ليسَ عندي غيرُ آثـــــــار ِ حنيني /*/وبقايــــــا من شقـــائي الأبديِّ

إن نازك كشاعرة رومانسية وقفت شعرا كثيرا على مناجاة القمر والأشجار والنهر والليل وغير ذلك من مفردات ولوازم الطبيعة ورومانسيتها ، وربما كانت هذه القصيدة حقا خير مفتاح لفهم ما كان عليه شعرهن وما ربما لا زال عليه شعر بعض من شاعرات العرب المحدثات .

وإذا كنا قد وقفنا على نماذج من جيل الرائدات المستحدثات ، فإننا بلا شك لا بد لنا من الإشارة إلى جيل تلا ذلك الجيل من شاعرات مجدات ومنطلقات إلى آفاق أوسع في تجاربهن الشعرية والأدبية مستفيدات قطعا من تجارب من سبقهن من جيل الرائدات وعاملات بجد على تطوير تجاربهن الخاصة وأدواتهن المميزة ، وهنا يمكن الإشارة وبقوة إلى سعاد الصباح من الكويت والتي ما فتأت تتعهد شعرها بكثير من الرعاية والاهتمام الجادين ، وإذا كان هذا من باب الشكل الفني المحض فان هموم هؤلاء الشاعرات من أمثال سعاد الصباح في الكويت وحنان عواد وثريا العريض وسعيدة الفارس وغيرهن مما قد لا يتسع المجال أمام الإشارة إليهن جميعا أو إلى تجاربهن الشعرية ونصوصهن بشكل مفصَّل ، ولكن لا بد من التأكيد على أن همهن العام قد أتم دورة كاملة ليستشف عمقا قوميا خلاقا من باب قضية القضايا في فلسطين ، وبالقطع إن لكل منهن سمات خاصة وربما قضايا وطنية أو ثقافية متعددة داخل إطار القطر الواحد ، إلا أننا كنا بصدد الإشارة إلى مدى ما اقتحمته الشاعرة العربية من عوائق ومدى ما وصلت إليه من وعي قومي ونضوج فكري وشفافية إنسانية عالية عبر هذا الباب وهذه النصوص التي آثرنا هنا إيرادها .

إن سعاد الصباح التي تسعدك بشعرها الجريء كما في قصيدتها سيمفونية الأرض قد استطاعت أن تغلق الهامش بين الهم القومي ولحظة الحقيقة وما يترتب على تعانقهما معا ، إن النصوص التي نحن بصددها قد كتبت خلال انتفاضة فلسطين الأولى والتي امتدت بين الأعوام 1987-1993ولكنها لا زالت تحمل درجة عالية من الكثافة النوعية في الرسالة والاتجاه كما في التشابك الفني والاندماج معا ، باختصار إنها لا زالت تنبض بالحياة كما أنها لو كانت منذ دقائق ، ليس فقط لقدسية الموضوع أو لزمانيته المتجددة بل لتجذره الفني وصدقه العاليين .

رائعٌ هذا المطر ْ

رائعٌ هذا المطر ْ

رائعٌ أن تنطق الأرضُ ،

وأن يمشي الشجر ْ

ها همُ ينمونَ كالأعشاب ِ في قلبِ الشوارعْ

ففتاةٌ مثلُ نعناع ِ البراري

وفتىً مثلُ القمر ْ

كعصافيرِ المزارع 

ويعودونَ إلى خيمتهم دونَ أصابع ْ

فاتركوا أبوابكم مفتوحةً

طولَ ساعات ِ السَّحرْ

فلقد يأتي المسيح ًُ المنتظرْ

ولقد يظهرُ فيما بينهم ْ

وجهُ عليٍّ

أو عمر ْ

قاومي ..أيتها الأيدي الجميلة ْ

قاومي ..أيتها الأيدي التي بللها ماءُ الطفولة ْ

لا تبالي بأكاذيب ِ القبيلة ْ

لم نحرِّرْ نحنُ شبراً من فلسطينَ ....ولكن ْ

حرَّرتنا هذه الأيدي الرسولةْ

جزء من قصيدة سعاد ويمكن له أن يختصر فكرة عن تجربة شعرية مميزة ذات نكهة خاصة .

وإذا كانت تجربة سعاد الصباح الشعرية يمكن أن تدلل من باب واسع على تجربة بنات جيلها فان هنالك تجارب أخرى وأيضا ربما إن أمكن الإشارة في منطقة الخليج مثل تجربة ثريا العريض وغيرها من الشاعرات الخليجيات الأخر ولكن ربما بضوء أقل خفوتا وكثافة ، ربما ذلك لأن سعاد قد انصرفت بكلية جهدها الأدبي إلى الشعر قصدا بينما أقامت الأخريات أمام توزيع في الجهد ما بين الكتابة النثرية والصحافة وغيرها من الفنون والاتجاهات مما هو بلا شك قد حرمنا ربما من الوقوف على تجارب كانت ستغني المشهد الشعري النسوي أو بمعنىً أدق الأنثوي في هذه المنطقة هذا من جهة ، وأما من جهة أخرى فانه لا بد هنا من الإشارة إلى انطلاق بعض من شاعرات هذه المنطقة إلى شعر العامية أو ما يعرف هناك بالشعر النبطي وهو من الخصوصية التي لهذه المنطقة وربما لا ينهض لأن يعمم عليه على المستوى العربي العام لعوامل الاختلاف المعلومة بالضرورة هنا .

ولعل نصاً آخر أيضا لثريا العريض حول نفس الموضوع وفي ذات التوقيت هو قصيدة "لا نفتح الباب ..للصبح " ربما يصبح ملحا إلى حد بعيد ولو حتى لمجرد استشفاف بعض من الملامح والفروقات ربما إن لم يكن فنيا فعلى الأقل على هامش المحيطات والملامسات للتجربة ذاتها ، فبينما نلمس نوعا من الوضوح الشديد في نص سعاد الصباح ، يمكن لنا أن نستشف نوعا من الحشرجة الخفية في نص ثريا ، ربما حشرجة ما قبل الانكشاف النهائي ، كما نلمس في ذات الوقت أيضا بلا شك جرأة وقوة في طرح تقاطعات ربما ليست بالعادية فهي استثنائية قطعا .

حين دقَّ الصباح على الباب

ما كان نبعُ الجفاف ِ نضب ْ

كان َ تحت َ سكون ِ الرماد ِ

حريقٌ بأضلعنا يلتهب ْ

قلتُ: يا سيدي

لا تضيء عندنا

أو تجيء بوعودكَ تبني لنا وطنا ً

هداياك َ مرفوضة...

إذ نعضُّ على وجع الأمس ِ

نبكي ..وأنت السبب !

لا نفتح ُ الباب للصبح !

وحدها نجمة الليل تبصر

كيف احتدام الغضب

وحدها نجمة الليل تسمع همس الجراح

ودمدمة الحزن حتى الصباح
......
.......
.......
لذا سيدي

لا نفتح الباب للصبح

نبقى على هامش الليل

في أرضنا نغتربْ

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|