{env}

الصفحة الأساسية > النثر > دراسات > مسائل أساسية حول الشعر العربي المعاصر

.

مسائل أساسية حول الشعر العربي المعاصر

السبت 11 نيسان (أبريل) 2015

- مسائل أساسية حول الشعر العربي المعاصر

الورقة الأولى

ما هو الشعر ؟ ولماذا ؟

ربما يبدو مثل هذا العنوان فضفاضا قليلا ومتشعبا إلى حد كبير ، إلا انه بلا ريب يطرق وبشكل مباشر باب الأزمة التي يطيب لكثير من محدثينا هذه الأيام عبر الصحف والمنتديات الأدبية أن يذكرونا بها في دوار كدوار النحل، لكن دون ما أي اثر ملموس لمحاولة اقتحام لب المعضلة ووضع اطار تصحيحي إن جاز القول يصلح لان يشكل رافعة لهذه الأزمة التي تتطور وبشكل متسارع حتى كأنه اصبح يفوق تسارع الجاذبية لامنا الأرض، مما أودعنا جميعا في حالة انعدام وزني كامل إزاء هذا الانحدار العجيب في إمكانية الفعل والتغيير.

ولعل كثيرا منا قد قرا أو سمع ربما الكثير من العناوين من جنس ، أزمة الشعر و انحدار الشعر أو غياب النقد أو النقد في أزمة أو ربما فقدان الشعر لوظيفته أو حتى ربما اكثر انفعالا وتطرفا مثل العنوان القائل هل يلزمنا الشعر ؟ وما هو دور الشعر في حياتنا العربية المعاصرة ؟ ولعل مثل هذه العناوين تلقي ظلالا حقيقية حول عناصر أساسية في تشكيل طبيعة الفهم المؤسس للشعر على نحو خاص تماما ربما لبعض محركاته قيمة فعلية في التراث الحقيقي للشعر العربي أو حتى الشعر بالمطلق ، ولكن ليس ذلك هو كما يقولون عين الحقيقة ، فما الحقيقة إذن ؟

وللدخول من باب يتشح بالسواد الكثيف بل والاختلافات الأزلية نبدأ أساسا في تحديد ماهية الشعر ولا نقول تعريفه أو توصيفه كما يطيب لكثير من الاصطلاحيين والمدرسيين تناوله قصرا . ولعلنا نتذكر من مورثاتنا العتيقة ما عرفت العرب الشعر به على انه كلام موزون مقفى وانتهى الموضوع وكفى الله المؤمنين شر القتال والولوج في اكثر من هذا ولو بقليل ، وتوصيف كهذا لا بد انه سيقود إلى تأسيس مختلف المسائل العضوية في الشعر على نحو خاص تماما يجعل من العسير على الكثيرين من المجادلين لاحقا فيما سواه إقناع مريدي هذا التوصيف بغير ذلك ، وذلك ربما كان على أساس أن أهل مكة أدري بشعابها ، فكيف يكون لغير ساكني هذه الشعب رأي آخر ؟ ومنطلق هذا يبدو على أساس ما من حقيقة أن العرب الأوائل وهم أهل الشعر وفرسانه الأول أدرى بما برعوا فيه وسادوا ، واكثر من هذا قليلا حينما يتسلحون بما قال به القدماء من أن الله اختص أمما بعينها لحرفة وموهبة إذ اختص اليونان بالفلسفة واختص الهند بالطب والفرس بالحرب والعرب بالكلام ، ولذا فهم سادة في أمرهم وعلى العالم أن يتبع ما يروه في هذا الأمر .

وان كان فيما سبق جزء من الحقيقة إلا انه لا يصلح مستندا حقيقيا لهذه الدعوى ، فالشعر مطلق وان كانت العربية لسانا مميزا له ، فهنالك السنة أخرى يتوجب أن لا يتم إغفالها ، وهذا يسعد المنتصرين للعالمية والمنادين بها ليل نهار ، عوضا عن إن الاصطلاح نفسه ليس بمسلم به نصا مقدسا لدينا إذ يعوزه الكثير من التشكيل وان احتوى وصفا لعناصر من عناصر تركيب الشعر بكل عام ، وقد كان من خطورة تسليم البعض بهذا المفهوم تمرسهم خلف شكل محدد من النصوص أدى إلى موقف رافض بالمطلق لكل شكل آخر ولد أو ربما سيولد لاحقا ، بل تطور الأمر إلى المزاوجة بين رفض هذه النصوص المغايرة لما ألفوه من شكل وبين إلباس غيرها من الأشكال عنصر المؤامرة على الشعر واللغة وربما على العرب كأمة وكيان بل لقد تطرف البعض ورأى في هذه النصوص المسكينة خطرا على الإسلام . وهنالك أمثلة كثيرة على أصحاب هذا الاتجاه التوجسي الخاطئ تماما.

ومثل هؤلاء وجد من قام بتقييس مصطلح آخر تماما ولكن في اتجاه زئبقي تماما ، وإذا كان الخطأ عند السابقين في التحديد فان الخلل عند هؤلاء المعاصرين في عدم التحديد وإبقاء الحبل على الغارب وكان المسالة تؤخذ بالنقض والنقيض وهذا لعمري لا يعدو إلا أن يكون رد فعل لا اكثر وليس هو نتيجة بحث عن حقيقة ما ولا هو نتاج معرفة ودراسة ، بل ربما كان من باب في التسكين السلامة . وهؤلاء أنتجوا وسمحوا بإنتاج عدد هائل من النصوص التي تعكس هذا الانفلات مما أدى إلى ما هو قائم حاليا في الساحة الأدبية بل وربما الثقافية بشكل عام من حالة الاشتباك المزمن الذي برر لكثير من العناوين التي بدأنا بها هذا الحديث.

إذن ما هو الحل ؟ ربما يكون في تحديد مفهوم اقرب إلى الحقيقة اغلب الحل وليس كله على أية حال ، ونرى أن مفهوما ذا طابع جريء وربما وليد الحاجة له سيلقى أيضا الكثير من العنت والاتهام ، ولكن لا باس في ذلك فالمهم أن لا يزيد من حالة الاشتباك هذه بل ربما يساهم في إثراء نقاش موضوعي طمعا في حلها أو التخفيف منها ، ونرى أن الشعر كما الإنسان إذا اتفقنا على انه كائن حي نكون قد اجتزنا نصف المعضلة ، فهل الشعر حيا أم هو جامد ؟ لا ريب أن كلا الفريقين سيتفقان معنا في ذلك . إذن لنبدأ من نشأة هذا الكائن الحي قبل أن ندخل في توصيف أعضاءه وخلاياه وعددها وتنوعها وأدوارها ، فكيف نشا الإنسان ؟ انه بلا شك نتاج طبيعي لالتقاء عنصري الحياة بصدمة المفاجئة الزمنية والمكانية ومن ثم بدا التوالد ، وهذا عين ما نقصده في الشعر .

فالشعر بهذا المفهوم هو نص تولد نتيجة طبيعية لعنصر الإحساس أو الدافقة الشعورية المميزة لدى متلقي يمتلك آلية لغوية
وفنية عالية ، إذ لا يكفي مجرد الإحساس الذي يشترك فيه كل بني البشر لتوليد الشعر فان كان هذا هو الجاميت المذكر أو المؤنث سمه ما شئت فلا بد من حاميت أو مورث من النوع الآخر لحدوث النتيجة ، وبهذا لعمري يكون كل بني البشر أنصاف شعراء أو قل مشروع شعراء ، أما النصف الثاني فملكة وموهبة أولا ، فان تم تعهدها بغذائها المحدد من الصقل كانت الدربة عالية وكان النص مكتمل الخلقة لا مشوها أو يعاني من مرض وراثي كما في الإنسان. وإذ تم تحديد عنصر التكوين فنحن بذلك قد اجبنا على جانب من الموضوع آثار في ما مضى أساتذة كبار لنا حوله عددا من الدراسات حيث تناول أستاذنا د.شوقي ضيف في أحد كتبه هذه المسالة إذ بدا بالسؤال هل الشعر صنعة ؟ واعتقد انه إذا ما خطر لنا أن الشعر وليد المفاجئة فمن مندوحة القول انه ينفي تماما عنه شبهة الصنعة ، فان نتج نص ما عن صنعة كان بدون أدنى شك اقرب إلى الدمى منه إلى الإنسان الحي وهكذا أن تشابه في صورة الأعضاء فهو ليس ذلك الكائن الذي ننشد .

والآن بعد أن تم تحديد المبعث ننطلق لتحديد الشكل ، فكما للإنسان من خلايا تتشابه جميعا في كونها خلايا إلا أنها تختلف في صفاتها الإضافية فبعضها يتحدد ليؤلف أعصابا وأخرى تؤلف عضلات وهكذا فان الشعر تتأسس مكوناته على هذا النحو تماما أي أن النص لديه صفات أساسية لا بد من توفرها لنميز معالم هذا الكائن ، وان كانت بعض هذه الخلايا قد تتطور في مناحي معينة فان القول يصدق أيضا على خلايا الشعر إن جاز التعبير ، فاللغة هي عمود النص الفقري دونه لا يكون أبدا قادرا على الوقوف أو ربما العيش ، وان كان فيه ما هو معتل الفقرات ظهر بلا شك نصا يعاني من شلل عضال أو تشنج في اقله ، أما أعصاب الشعر فهي الموسيقى بلا شك فبدونها يكون النص جافا لا قدرة له على توليد مؤثرات في غيره وهو المتلقي هنا الناظر إلى هذا الكائن بعد ولادته ، فإذا كان فاقدا للحس اصبح لا أمل فيه ولا يعول عليه في الحياة ، أما عضلات هذا الكائن الوليد فهي بلا شك الخيال والصور التي هي حركة فعلية لما بعد تلقي المؤثر الحسي .

وكما أن الخلايا تورث في مورثات وقد تتحور هذه المورثات لاحقا حينما تمارس الخلايا نوعا من الرفض والجموح محدثة طفرة ربما هي حميدة فتعيش بها وتنعم حينما الإبداع حاضر أو ربما خبيثة فتقضي على الكائن وتموت حينما الزلل والضياع قائم ، ونعني بذلك أن لكل نوع من هذه المورثات شيفرته الخاصة حتى في نفس النوع ، فالخلية العصبية لدى فلان ليست مكررة تماما لدى سواه ، إذن فاللغة واقع في اختلافها ولتأثيرها أيضا ما يصاحب موسيقاها الخاصة بها وهكذا ، أما الرحم الذي ينشا فيه الكائن فهو الأمة وتراثها التكويني المميز ، فان استبدلته بوعاء مؤقت كطفل الأنابيب ربما لم يأت على نحو سليم تماما وحتى هذا الطفل لا بد من إعادته إلى رحم أمه ، فان نشا في غير رحمها وتغذى من دم غير دمها لا يمكن أن يكون ابنا لها حتى وان أطلقت عليه ما تشاء من أسماء .

إذن فالشعر عربيا كان أم صينيا لا بد له من أن يمر في هذه المراحل وهو بذلك يكتسب تميزه لكنه يظل في النهاية شعرا وبذا لا أجد إطلاقا معنى لترجمة نص شعري من غير العربية إليها ، بل سيكون مجرد وصف ركيك لهذا الوليد حتى وان اجتهدنا في تدقيق الوصف ، وسيكون اكثر صدقا بالتأكيد أن ننظر إليه كما هو أن أسعفتنا الوسيلة بلغته بدلا من أن ننظر إلى وصفه ، ولكن على أية حال فان الترجمة تبقى معقولة ربما لإثراء البعد المعرفي المجرد بعيدا عن الالتصاق الفني والحقيقي الخصب في هذه المسالة .

وقد يقول قائل ما أن هذا المفهوم أدى إلى اكثر من فضفضة للمسالة فما عدنا قادرين على فهم ما هو المفهوم الناجز عن هذا السرد ، وربما كان هذا القائل من أنصار حب القولبة والتوصيف أو ربما الاختزال ، ولا باس عندها أن نقول له أن الشعر لدينا هو كل نص نتج عن نبض شعوري في قالب لغوي موسيقي سليم وحرك خيالا في المتلقي فان كان هذا فهو شعر بلا شك وأما غيره فشيء آخر غير الشعر ، ربما يقترب منه أو يبتعد لكنه ليس هو. وبالتالي فانه أن نشا عن غير ما شعور بل استشعار ربما أن جاز التعبير اصبح صنعة وظهرت فيه الكلفة الواضحة كما هو حال عدة نصوص حتى لدى القدماء من مداحي ونادبي غيرهم ، ولكن ذلك لا يعمم على شكل شعر بعينه كان يشكل جزءا لا باس به من الموروث الشعري العربي ونقصد به شعر المديح والمراثي ، وان كان قالبه اللغوي ضعيفا فهو يعاني مرضا يمكن للنقد أن يميزه ولكن لا يمكن أن يكون شعرا إذا ما كان في لغة ركيكة مفككة يفقد فيها عنصرا أساسيا لكينونته مثلما هو حال معظم النصوص الحديثة وجزء لا باس فيه من نصوص وصلت إلينا من عهد التفكك والانحطاط الذي مر به شرقنا العربي بل وفضاؤنا الإسلامي بشكل عام . وليس المقصود هنا دخول مفردات جديدة إلى القوالب اللغوية ولا حتى بعض الاشتقاقات اللغوية الاجتهادية ، بل نوعية اللغة من حيث هي لغة بمفهومها التركيبي والتوصيفي ودرجة نضوجها ، فان بدأت بتوفير هذه المكونات قبلت وبعد ذلك يتم فرز درجة تطورها ونضجها وقوتها وما إلى ذلك من تصنيفات نقدية على أن لا يفهم من ذلك أننا نطمح إلى لغة الشعر الجاهلي على انه مقياس أعلى السلم الغوي ، ففي هذا نظر حيث اللغة تكون بسلامتها ولكن أيضا بوظيفتها كلغة أي أداة تفاهم وتواصل ، فلا بد من اخذ ضرورات التطور المعرفي والحياتي بعين الاعتبار .

وهنا قد يسال سائل السنا بذلك نكون قد أزلنا ما يعرف بالشعر الشعبي أو العامي من دولة الشعر ؟ والحقيقة أن هذا اللون أو ما نعتبره أبا شرعيا له كان قد ظهر أيضا فيما مضى وعرف آنذاك بالزجل وقد اعتبره أستاذنا شوقي ضيف تطورا على الشكل النصي من حيث القافية وتراتبيتها فأورد أمثلة أخرى على هذا التطور والتوليد كالقوما والدوبيت وغيرها من الذي تخرج على يد مدرسة الموشحات . وفي هذا العصر لا زال جزء لا باس به من النص العامي يحتفظ بمسمى الزجل الشعبي وخاصة في المشرق العربي في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن ويطلق عليه العرب في الجزيرة العربية مسمى الشعر النبطي وهنالك أسماء أخرى أيضا في دول المغرب العربي ، ولكن السؤال هل هذه النصوص هي شعر أم لا ؟

وللإجابة نعمد إلى قاعدتنا فنقول انه إذا ما حمل بقية الخواص المميزة للشعر وتوقفنا عند القالب اللغوي فقط أمكن لنا أن نجتهد فنقول انه نعم شعر ولكن بشروط قالبه اللغوي ، أي بكلام مفصل تابع لنوع لغته التي هي تفرع ولن نختلف لنقول هي بلا شك لغة اقل تطورا ورقيا من اللغة الفصحى الأم التي تميزنا بها عربا وحفظها لنا القران الكريم الذي يوم تنزل جاء بهذا الوصف القرشي مع أن جزيرة العرب حفلت آنذاك بلهجات ووصفات عديدة ، فهي إذن قضية محسومة لا مجال للخوض فيها وبذا يكون شعرا شعبيا ملاصقا لصفته لا مبتعدا عنها وبدرجة ولا يصح أن ينظر إلى انه قابل لان يلعب دورا بديلا ليس بمقدوره أن يقوم به ولا يصح أن يحمل ما لا طاقة له به ثم أن أية محاولة لذلك لا بد وان تفشل وتبرر لكل من ينظر إليها بعين الشك ذلك بلا ريب من حيث أنها مبعث لفرقة وليس لوحدة ، حيث تنوع اللهجات يؤدي إلى تنوع هذا النمط وهو بالتالي يفرق الأمة بمساحة تنوع هذه الأنماط المتعددة وهنا يصبح لا بد من التنبيه ودق ناقوس الخطر.

والآن نصل إلى عقبة يحسبها الكثير بالكأداء ، أي الموسيقى أو بشكل اكثر تحديدا الوزن والقافية .وهنا نقف قليلا حيث كانت هذه المعضلة سببا آخر كما تذكرون ناتجة عن الوصف المدرسي للشعر والذي سبق الإشارة إليه لتعمد إلى إثارة فرقة دامية نشا عنها رفض من البعض للآخر في ساحتنا الشعرية العربية ، ونعني بالتحديد الشعر الذي سمي بالشعر الحر أو الحديث قبل أن يطلق من تطرف من مريديه العنان إلى أنفسهم ويقدمون لنا شكلا تلو الآخر مرة بمسمى قصيدة النثر ومرة بقصيدة ما بعد الحداثة واحسبهم يعملون الفكر لتسمية شاذة جديد يفاجئون بها أنفسهم ولا يفاجئنا أو لنقل قبل أن يدهشونا بما وصلت إليه أفكارهم .

فما هي قصة الوزن والقافية عندنا ؟
ولكن قبل أن نشرع في الإجابة لا بد أولا من التنبيه على أن الموسيقى ليست محدودة الموارد بالوزن والقافية فقط بل أن ما ذهب إليه عدد لا باس به من نقادنا وأساتذتنا من تسمية مورد آخر يوم أطلقوا عليه لقب الموسيقى الداخلية والذي ينشئ برأيهم عن الأخيلة والصور وتراتبية وقعها في خيال المتلقي .وهذا هو بحق مورد لا باس به أيضا فكيف نحصر الأمر في وزن معروف وقافية محددة ؟ إذن فهنالك مورد آخر ولعل أنصار الفريق الآخر سيحتجون به أمام أنصار الشكل الثابت المدرسي .ولكنه أيضا حجة على أنصار الاندفاع والذين أمعنت الفكر قليلا لتحديد تسمية لهم حتى لا نتهم أو نقع في مغالطة موضوعية ، وإذن هل هنالك موارد أخرى للموسيقى غير القافية والوزن والأخيلة المتدافعة ؟ نعم أن في نوعية السبك اللغوي الناتجة عن حركة الأحرف المختلفة وتحولاتها الصوتية متناغمة ما يحقق أيضا مصدرا إضافيا لهذه الموسيقى الداخلية . والسؤال هل لو امتاز النص بهذه الموسيقى الداخلية واغفل الموسيقى الهيكلية من وزن وقافية يكون النص شعرا تاما ؟ واحسب أن مريدي قصيدة النثر يتوقفون هنا لمعرفة الجواب ......

والحقيقة أن كثيرا من العجب يتملك السامع إذا ما أمعن النظر في هذه التركيبة العجيبة في التسمية – قصيدة النثر – إذ لماذا هذا الإصرار العجيب على حشر اسم وصفة الشعر لقطعة نثرية ما ؟ فما الضير في أن تبقى بمسمى النثر إذا ما كانت نثرا ؟
وكيف يمكن أن نقبل هذا التزاوج اللاشرعي والذي احسب أن النثر يحتج عليه شرعا ويعده امتهان لكرامته واغتصاب لسمته
ومكانته ؟ وإذا ما حسب أحد ما أن هذه دعابة أو من نوع المماحكة فهي ليست كذلك بل هو تساؤل مشروع فيما أرى ، وعلى أية حال أتوقف هنا عند نوعين من النصوص لا أسمى ولا افصح منهما على الإطلاق في كلام العربية ألا وهما القران الكريم والحديث الشريف ، إذ هما اللذان لا يصح لسان بغير الدربة عليهما وهما مصدر عظيم لألوان البلاغة والفصاحة حتى أن القران الكريم إنما كان في صورة من صور إعجازه مكونه اللغوي الخارق والفريد وهو غير ما الفته العرب من فنون وضروب في الفصاحة فيما قبله ، ولذا وقفت أمامه عاجزة وكان هو تحديا حقيقيا وما زال ، فما الشاهد هنا إذن ، الشاهد أن الله سبحانه وتعالى يعطينا أيضا درسا في تسمية الأشياء بأسمائها فقد اسماه القران والكتاب والذكر إلى الأسماء التي نعلمها لكنه رفض عنه صفة الشعر وانه مع إيماننا انه أسمى أعلى فإنما نلجأ لهذا لنقول أن تسمية الجديد باسمه هو عين الحقيقة والفضيلة تماما ،وفي هذا كما احسب درس لمن لا زال يصر على خلط الأمور . وما ينطبق عليه ينطبق على الحديث الشريف مع فارق المقام بالطبع.

حسنا ولو تجاوزنا ذلك وشرعنا في الاحتكام إلى المكونات لقلنا أن ما عرفناه من الموسيقى هي مجموع التراتيب التي سجلها الخليل بن احمد الفراهيدي ونسقها في دوائره العروضية المشهورة والتي تعرف بالبحور الستة عشر ، ولكن نعلم أيضا أن تلميذه الأخفش قد أضاف واحدا على هذه البحور وسماه المتدارك وقيل إنما هو قد تدارك أستاذه به وقيل أيضا المحدث وهنا نتوقف عند هذا لنقول أن إمكانية الإضافة والإحداث والاستحداث واردة طالما أنها لازالت ضمن التراتبية العروضية وهذا يحسب للخليل وعلمه لا عليه ، ونعلم أيضا أن عدة أنماط من التفعيلات قبلها العروضيون أسموها أشكالا أخرى لنفس التفعيلة وكان شاهدهم في ذلك كله اتساق النغم والتراتبية الموسيقية للبحر الواحد حتى ولو كان بأشكاله المتعددة وان كانوا قد اشترطوا التزاما بها أن جاءت في موقعي العروض والضرب فإننا نرى أن ذلك طوق يمكن تجاوزه ولكن فقط ضمن النسق الموسيقي المدرك سماعا واتساقا لا غير ، اعلم أن من ذهب مع الفريق الاندفاعي شن يوم بدا الشكل الموسيقي الجديد للشعر حملة على أنصار وحدة البيت ، فماذا قال أنصار وحدة التفعيلة يومها ؟ قالوا إننا ندعو إلى شعر حر طليق وانتم تدعون إلى شعر يقيدكم به الخليل ببحوره وتراتبية تفعيلا ته ، أما نحن فإننا أحرار بتفعيلتنا الوحيدة نكررها ما شئنا في السطر الشعري الواحد ، أما انتم فمقيدون إلى عدد الخليل ، وهذا غير صحيح إطلاقا إذ أن الخليل لا زال يحكم هؤلاء حتى وان ظهر انهم قفزوا على حاجز التراتبية فانهم ما زالوا بالمطلق مرتبطين إلى علمه وتفعيلته ، عوضا عن أن التقييد الحقيقي هو في اختيارهم لمبدأ وحدة التفعيلة حيث بذلك قيدوا أنفسهم إلى تفعيلات خمس فقط يبنون بها القصيدة في سطرها الشعري بينما هي عند الكلاسيكيين لا زالت بعددها المعروف.

إذن ما الفيصل في موضوع الوزن ؟ الحقيقة هي أن الشكل المؤسسي للسطر الشعري وبالتالي القصيدة في شكلها السطري هي ملتزمة بموسيقى الخليل ولا زالت تدور في فلك تراتبيته الموسيقية وان تغير عددها ، وبهذا نقول أن توفر ذلك في قصيدة السطر وهذا ما اقترحه لها اسما ، تكون قد وفرت شرط الموسيقى ولو من باب خلفي . ولعله من المفيد هنا أن نتذكر معا أن شعر البيت أيضا تعرض لما يشبه الخروج عن نطاق الثابت فيما وصل إلى علمنا من نصوص حتى انهم بدعوا في إضافات وتعديلات اخبرونا بها أن هنالك أنواعا حتى من نفس البحر فهنالك المذيل وهنالك المرفل وهي إنما تصف إضافات أو اختصارات على التفعيلة ذاتها ولم يجد نفعا فيها القول بالأشكال المختلفة والذي سبقت الإشارة إليها ، وإذا كان قد تم استيعاب ذلك ضمن الدولة الخليلية فما المانع من حدوث تطوير آخر في المستقبل ضمن نفس النسق والسياق ؟

أما فيما يتعلق بالقافية ، فإنها بلا شك تبقى معضلة أيضا ، وعلى أية حال فإنها ليست بالقيد المقدس أيضا حتى على القدماء ، إذ أن الرباعيات والموشحات والمخمسات وغيرها إنما كانت إرهاصا لهذا التفوق والتجاوز لهذا القيد المقدس ، فكيف جاز أن نقبل البداية في هذا ونعتبره ابنا شرعيا لتطور القافية ونرفض فيما بعد الحديث عنه على أساس انه لقيط لا اكثر ؟ ثم لماذا يجوز القبول بما ورد من القدماء ويقفل أمام المعاصرين الطريق ؟ ونحن في هذا إنما نطرق المسالة من حيث المبدأ لا من حيث ما هو قائم مكتمل للعيان ، وقد يحتج المدرسيون فيقولون أن وحدة البيت في هذه الأصناف المذكورة لا زالت قائمة وان اختلفت أو بمعنى أدق تعددت القافية أو الروي ،وفي ذلك حقيقة بلا شك غير أن ما نتناوله هنا هو شكل مختلف لذلك وهو ما لا ندعي إنكاره على الإطلاق ولكننا نصر على انه ليس بكثير غربة فيما هو فيه إنما هو شكل مطروح للرأي وليس من الحكمة التسلح بالرفض المسبق له إطلاقا.

ونعلم فيما نعلم أن أنصار السطر الشعري ورواده ومن هؤلاء السياب ونازك وخلافهم قد أسس لقافية مركزية في القصيدة أخر ثانويات وهم بهذا إنما يكونون قد وضعوا إطارا عمليا يصلح مدخلا للاحتكام والمقارعة ، ولعلي اترك الاستفاضة في هذا المقام حول هذه النقطة بالذات لأنفذ إلى رأينا في هذا بان ما التزم من هذا النمط بهذه الأسس التي انطلق عليها شعر السطر الشعري هو عندنا بلا ريب شعر محقق ، وقد يسال سائل لم هذا الهيام في مقام صاحبة العصمة القافية ؟ ولعل هكذا سؤال لا بد من أن يقفز إلى ذهن الكثيرين ، والحقيقة أن الضرورة لها تنبع من ذات النظرية الموسيقية في الشعر وليست بخارجة عنها مطلقا ، بل حتى أن تراتبيتها تصبح جزءا أصيلا من نسق المنظومة الموسيقية للقطعة سواء أكانت في الشعر العربي بل وحتى فيما سواه من شعر بلغات أخرى .وإذا ما كنا قد أسلفنا بان هذا النمط على النحو السابق وصفه هو شعر فإننا أيضا وكما أسلفنا في موضوع الشعر الشعبي لا نقوى إلا أن ننزله مقاما تاليا للشعر البيتي وليس في هذا كثير جرم .

وإذا نخلص إلى القول أن في هذا النمط الشعري المعاصر بلا شك جرأة ما ولها ما يبررها وربما كان فيما يلي من أوراق متسع لتناول جوانب أخرى في هذا المجال ، ويبقى لنا بعد أن طرحنا هذه النظرية الجنينية للشعر أن نقول أن النقد الذي هو في حقيقته تميز للغث من السمين والذي أسس على مفهوم نقد الصيرفي لأنواع ما يعرض عليه من عملات ذهبية أم فضية يجب أن يوجه الآن وليس تاليا إلى ما هو أولى ومن نفس باب الاشتقاق العملياتي للموضوع ، إذ أن الصيرفي سيعمد أولا إلى فحص ما يعرض عليه ليقول لنا هل هذه عملة أولا قبل أن يقول لنا درجة نقاوتها ومميزاتها ، ولذا فالنقد الأدبي يجب أن يقول لنا فيما هو معروض عليه الآن وفي ضوء ما تقدم هل هذا شعر أم ليس بشعر ؟ قبل أن يستطرد فيشرح لنا مزاياه ودرجة رقيه ، واحسب ذلك فيما احسب من ضرورات بل من اضر الضرورات .

وفي الورقة القادمة سنتناول معا وظيفة الشعر وهل فقدها ؟ وما دور النقد قبل أن نخلص إلى موضوعات أخرى قادمة بإذن الله .ولكم التحية سادتي .

- الورقة الثانية

ما وظيفة الشعر ؟ وهل فقدها ؟

تذكرون طاب مساؤكم و أطال الله بقاءكم أننا خلصنا في ورقتنا الأولى إلى نظرية يحسن أن نستذكر منها كينونتها الحيوية في آلية ولادة الشعر وحياته وانه أشبه ما يكون بالكائن الحي في تكونه وتخلقه من جهة ثم في أثره وتأثيره من جهة أخرى ، وإذا كان هذا الكائن الحيوي قد ارتبط بالحيوية وشبه بالإنسان مثلا في تخلقه وولادته ، وقلنا انه ربما اعتل كما يعتل الإنسان أيضا ، فهل هو سائر إلى ذات المصير بالموت أيضا ؟ وهل يكون هذا الموت صفة ذاتية فيه كما الإنسان ، بمعنى أن اجله قد انتهى ؟ والحقيقة أن هذه نقطة يجب التوقف عندها . فالشعر يمتاز عن الكائن الحي ولا احسبها ميزة حميدة بنوعين اثنين من الموت الذي قد يعتريه ، أما أحدهما فيلد بها صفة ملازمة له أن كان معتلا لعلة من العلل التي فصلناها في ورقتنا الأولى وبالتالي ليس من جديد في هذا ، أما الأخرى فموت مرهون بالغير أي المتلقي في ظروف معينة ، ولكن لا يكون موتا تاما وإنما يكون موتا سريريا أن جاز القول أي يبقى في حجرة الإنعاش ما شاء الله له أن يبقى حتى تتوفر له ظروف العودة من جديد ولعل هذا أشبه إلى السبات في الطيور منه إلى الموت العام... وهذا جل أزمته في هذه الأيام كما كان يوم انحدرت الأمة في عصر التخلف المنصرم منذ أوائل القرن التاسع عشر وما وصلنا من نصوص تؤكد ذلك ...

وحتى لا نستطرد في مجرد وغير محدد نتجه إلى سؤالنا الذهبي في هذه الورقة ، ترى ما وظيفة الشعر بعامة ؟ و هل له من وظيفة محددة أم أن دوره الوظيفي يأتي تاليا لكينونته ؟
أما تفصيل ذلك فنراه قصدا على غايته أو بدقة اكثر على بابه الذي جاء فيه ، فان كان موجها في دعوة ما وقد تشوبه هنا شبهة الصنعة التي ذكرناها في الورقة الأولى والتي برأينا قد تفقده هالة الشعر وصولجانه ، فانه بذلك يكون مرهونا بما جاء لأجله من دعوة ولا نفصّل في نوعها هنا ، وبذلك لا بد أن يجزم بأنه من الفئة الموجهة كما الإعلام الموجه وان له دورا ووظيفة في ذلك وبذا يكون مرهونا بآليتها سلبا أم إيجابا ، حياة أم موتا وهو ما لا نعتقد بأهمية تتبعه لما في ذلك من وضوح شديد من جهة ولما له من مرتبة اقل من الناحية الفنية من جهة أخرى ، وربما أوردنا خلال هذه الورقة أمثلة على هذا النمط فيما سيلي من تفصيل ، وعلى أية حال( ولحسن الحظ) فان مثل هذه النصوص قليلة فيما وصل إلينا من تراث وتكاد تقتصر على دعوات شاذة دينية أم اجتماعية أم سياسية كانت فيما مضى ، مثل نفخات الشعوبية والقرامطة والإسماعيلية وغيرها مما أضافه بعضهم من شعر الزندقة وما شاكله .

أما الأغلب الأجل فدوره يأتي تاليا لكينونته ولا شبهة لصنعة فيه ، بل هو نقي نقاء البرد أو أن شئت بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب عليه السلام ، وهذا ما نحن بصدد الحديث عنه ، فما هي أنماط وظيفته التي يؤديها هذا الشعر تاليا لوجوده وولادته ؟
ونرى أن الشعر لا يلبث أن يصنف من هذا الباب إلى ثلاثة أدوار اجتهدنا في رصدها ونراها في أحد هذه التالية :

1- دور فني جمالي 2- دور إعلامي 3- دور مؤسسي

أما الدور الأول ، فهو لا يلبث أن يلتقي مع دعوة الفن للفن التي أطلقها بعضهم فيما هو معروف وتقترب من هذه السمة بقليل أو كثير بعض أبواب التصنيفات القديمة وبخاصة فيما عرف من شعر الوصف .وربما قابل ذلك في عصرنا هذا عدد من المتسميات والمصطلحات اللاتينية كما اوردها الغربيون ، ولكنه لن يكون بأية حال بعيدا عن هذا المجال ، وهذا الدور الفني الجمالي الذي ربما أسميناه الفوتوغرافية أن شئت هو في حد ذاته غير فاقد لقيمته الجمالية ولكنه ربما فقد من يطمع فيه في عصر كعصرنا لم تترك المدنية الحديثة ولا الاختراعات المتلاحقة ربما له فرصة ليحيي ، بل انه حتى و للعيون المادية أي عيوننا نحن ليس بمقدورها أن تلحق بما ينثر بين يديها من أدوات ووسائل جديدة لجذبها والتأثير فيها مباشرة دون ما حاجة لنص ينقلك إلى صورة ، بل أن بعضا من برامج الشبكة وأدواتها اصبح يمكن المستخدم من تغيير ملامح الصور الفعلية مطلقا لخياله أو ربما لرغباته العنان فيما هو عامد إليه من تغيير وتحوير . ولكن ذلك بالتأكيد لن يعدم من أصحاب الاختصاص من يلوذ به لدراسة أو لدراية . وهنا لا بد أن نشير إلى حيوية اختيار نصوص ذات جمال فني للمناهج المدرسية على الأقل لتؤدي دورا ما في إثراء خيال أبنائنا ولكن من غير ما تعقيد ولا مغالاة لان واحدهم لا يلبث أن يمل وينصرف عنها غير آسف عليها إلى ما يمتع به ناظريه حقيقة لا خيالا ، وبذا نكون قد أصبنا عكس ما قصدنا من غير أن نحقق هدفا ولا يعود لنا بعدها أملا لا في هذا النمط ولا في غيره ونكون كمن قضى على تقبل النشء للشعر بعامة فيما سيلي من عمر هذا الجيل أو ذاك ، ولذا احسب أننا ندق ناقوس الخطر هنا ولذا فلواضعي المناهج دور وعليهم مسؤولية خطيرة في هذا الشان . وعليه فان وصف البحتري للربيع أو وصف بشار بن برد أو المتنبي للبحيرة والأسد وغيرها مما شاع في هذا الباب لا بد وان يعاد النظر فيه من جديد .

إذن فالنمط الجمالي بذلك يكون قد ضاق عليه الحال إلى أن اصبح ربما في آخر سلم الأولويات والاهتمامات العديدة حتى من الدارسين والنقاد المخلصين المهنيين أن وجدوا إلا من رحم ربك ، وربما أن مثل هذا النمط الممعن في الذاتية وليد لدعة يحسد عليها من يستمتع بها في كل عصر واوان ولكن بالتأكيد لا اعلم له كبير شان خاصة في معاصرتنا منذ فترة ليست بالقليلة بل أن نماذج كهذه ربما هي الآن في ندرة اللوحات الشهيرة في متاحف الكتب القديمة ولا احسب عليها من الغبار قليل ، وأنه لا بد من التنبيه فان هذا ليس تقليلا من شانها ولا من فنيتها ولا هو ظني بها من حيث هو شعر ولكن لأنها على ما اعتقد لا يصاحب فيها المقال المقام للامة وما تمر به .

2- أما الدور الثاني فإنني سابدأ بالدور الإعلاني منه فهو ولا شك كسابقه من حيث هو مختص بحالات انقضى عصرها في شكلها القديم وعادت إلينا في شكل مداح البلاط من غير ما نية لله أو قصد يراد به خير الأمة من خلال تقديم نصح أو تشجيع على خير أو حب زلال وإنما تكسبا في المراد وغاية في شهرة أو مراد من نحو ذلك وهو أيضا بلا شك قد ربما أحاطت ببعضه شبهة الصنعة في بعض النصوص ، إلا أن نصوصا أخرى لا يمكن أن ينفى عنها صفة الشعر لسبب ما ومن هنا تظهر الصفة الإعلانية والدور الإعلاني لهذا النمط . ولشديد الحسرة فان شعرا من هذا القبيل يتصدر كثيرا من وسائل الإعلام والإشهار من غير ما عناء يذكر . وبمثل شعر المدح الذي لا يذكر إلا وذكر ضده أي شعر الهجاء والقدح وان اختلفت المسميات العصرية فهو لا يعدو كونه البحث عن قلنسوة جديدة لهما للتخفيف من ظلهما الفج والجاف ، ولربما قال قائل بان كثيرا من أبيات الحكمة بل و حتى عدد من التشبيهات الفنية البديعة لربما احتواها هذان النوعان وان على ذلك اكثر من دليل ، ونقول نعم لا باس في هذا إلا أن ذلك كله لا يعدو تطرية لهما ويسقط بسقوطهما عامة ولا يمنع الاستفادة مما ورد منها بخاصة ، أي انه يؤخذ ما فيهما من فائدة ويطرحان موضوعا لسقوط همتهما ومقامهما على الأغلب إلا ما رحم ربك ، كان تكون مدائح نبوية أو هجاء في أعداء الأمة والملة ، فهما ما يمكن أن يؤخذا بعامة وخاصة أيضا . بل لعلي اكمل فأقول أن مثل هذه النصوص تنتقل من هذا المقام إلى مقام خاص سيأتي الحديث عنه لاحقا . وفي هذين النمطين أي المديح والهجاء يصح فيهما ما يصح في شعر الوصف من حيث البقاء والفناء ، فهما محكومان لغرضهما ينتفيان بزوال الغرض وزوال الداعي لهما والمشجع عليهما ، ونراهما يكثران في غير ما قاعدة تتعلق بالرخاء والشدة ، بل هما يزدادان حينما يزداد إقبال المحرض عليهما من ساسة وقّادة وحكام وحتى أمراء وخلفاء فيما مضى ، وعندما يرفضهما المعني بهما لا يلبثا أن يموتا كمدا وحسرة ، ولعلي أورد هنا الحادثة المشهورة لورود الشعراء على الخليفة الراشد الخامس الأموي عمر بن عبد العزيز ورفضه السماح لهم جميعا بالدخول عليه اللهم إلا جريرا الذي وقف أمامه ليقول :

كم باليمامة من شعثاء أرملة / ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك تكفي فقد والده / كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
انا لنرجو إذا ما الغيث أبطأنا / من الخليفة ما نرجو من المطر

ليكون ثمن ذلك درهم واحد دفعه إليه مزاحم مما بقي معه من مال الخليفة ومزاحم هذا خادم عمر وحاجبه ، ليخرج إلى مجمع الشعراء الواقفين أمام الباب ليصيح بهم أمام إلحاحهم لمعرفة ما جرى معه ،" جئتكم من عند من لا رغبة له ببضاعتكم والله إن هذا الدرهم عندي لأغلى من كنوز الأرض."

وننتقل إلى النمط الثاني وهو شعر المراثي وهو بلا شك على الأغلب شعر إنساني خالص ولديه حيويته الخاصة ونمطه الذي لا بد أن يؤثر في نفس المتلقي مهما كان العصر الذي يعيش فيه ، بل إن بعضا من شعر المراثي كان من الفرادة بمكان أن أدى ترجمته إلى غير العربية ليكون محتفظا بذات الأثر البليغ والقيمة الإنسانية الخالدة أورد هنا مثالا مشهورا لأبيات مالك بن الريب في رثاء نفسه كما في مقدمته المشهورة كما لمسته بنفسي عن قرب من أحد الأصدقاء الغربيين ومطلع قصيدته :

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة / بوادي الغضا أزجى القلاص النواجيا

وهنالك ما تعدى الشان الخاص والغنائية المباشرة في الرثاء كما في قصص عديدة أمام أنظارنا من مراثي الخنساء التي ما فتأت الدهر كله في أخيها راثية إلى ابن الرومي من شعر العرب إلى العديد من الشعر الحديث ، وقد يكون المفقود أكثر من مجرد قريب للشاعر قرابة الدم ، بل ربما كانت قرابة ملة وعقيدة كما هو حال شاعر الأمة حافظ إبراهيم راثيا الإمام محمد عبده في قصيدته الشهيرة الميمية يوم رثاه قائلا :

سلام على الإسلام بعد محمد / سلام على أيامه النضرات

أو كما رثى العديد من شعراء العربية زعماء كبار من وزن الراحل جمال عبد الناصر أو غيره من زعماء العرب الراحلين ، وهذا النمط من الشعر ربما حتى تعدى إلى ما هو اكبر من ذلك إلى رثاء مدن بأكملها وحضارة تامة كوقوف أمير الشعر العربي شوقي بالأندلس راثيا الحاضر في الماضي وهو ما عد جديدا في مذهبه تخطى الوقوف على الأطلال التي كانت لازمة الشعر الجاهلي في غير ما هو غرض للرثاء ، وبهذا نرى أن هذه القيمة الإنسانية البارزة لهذا النمط من الشعر مرهونة بنبلها وقيمتها الإنسانية كلما علت ومن هذا الباب نرى أنها غرض ودور باق لا محالة تفريجا لهم الشاعر والمتلقي معا وتقديرا لحس إنساني رائع يصل أحيانا كثيرة إلى توحد المتلقي مع الشاعر لدى سماعه أو قراءته لهذه النصوص توحدا تاما من غير ريب . ولعل ارتباط هذا المقصود من هذا الشعر أي رثاء المرثي بالموت والحياة التي هي صفة البشر تجعل من تكرار الجنوح إليه والركون إليه عملية مستمرة وتحصيلا للحدث المدرك المتكرر بكل ما فيه من تشابه أكيد قاسمه الأعظم هو الموت وفقدان الأحبة بفعل هذا المتجبر الذي لا يفر منه أحد لحكم اله الكون الأعظم ولذا لا احسب من يمكن له أن ينكر على الشعر أهميته في التخفيف وممارسة دوره الكبير كلما طرأت إليه حاجة ألح على النفس ملح .

أما النمط الآخر هنا فهو جملة من الأغراض الجزئية كشعر الحكمة والشعر التعليمي والشعر التوثيقي وشعر الاخوانيات وهي كلها في مجملها يحكمها الدور الذي هو منوط بها معلوم بها بالضرورة ، أما شعر الحكمة فلا احسبه فاقدا لقيمته البتة لأنه إذا كان شعر المراثي لازمة للموت فان شعر الحكمة لازمة الحياة وهو لا بد وان يركن إليه العامة كما يركن إليه الأديب في نثره وروايته كلما اقتضى الحال ذلك ، وتجرى أبيات الحكمة على لسان العامة استدلالا وتوجيها مجرى الماء في الساقية إذ انك تسمعها تتردد كثيرا بينهم حتى وان لم يعلموا قائلها ومناسبتها وترى أبياتا أو حتى أشطارا من أبيات أحيانا لازمة لهذا وذاك في معرض حديثه الخاص والعام من نوع " تجرى الرياح بما لا تشتهي السفن " إلى " ما الحب إلا للحبيب الأول " إلى آخر ذلك مما يتكدس في شعرنا العربي القديم بل وحتى الجديد من نمط " إذا الشعب يوما أراد الحياة " أو من نمط "ألام مدرسة إذا أعددتها " وهذا دليل على حيويته وبقائه ، ولربما اعترض من يدفع بان الحكمة ليست بغرض مستقل في الشعر وإنما تأتى ضمن القصائد ، ولا ننكر هذا وهو لا يمنع ما نحن بصدده من مقال .

أما الشعر التعليمي والتوثيقي والتربوي فان غرضه قائم لا شك بديمومة الحاجة إليه وان كان حصرا لفئة ولو محدودة من الناس إلا انه باق بلا شك وتمتلئ به الكتب الدراسية تلك وقد يظن ظان أننا بصدد ألفية ابن مالك في اللغة واعتقد أن ذلك وان صح فإنما هو غير مقتصر على اللغويات بل قد يتجاوز إلى غيرها أيضا كما في بعض الدراسات الإسلامية . ويبقى من ذلك كله شعر الاخوانيات واحسب انه قليل لم يتجاوز في كثير من الأحيان من قيل له ومن سمعه في ذلك المجلس إلا قليل منه اصبح مادة للتندر والطرف فيما يشبه الكوميديا المبكرة والسخرية المقننة في أحيان أخرى بل ربما كان هذا بمثابة إرهاصات مبكرة لنشوء فن النقد والسخرية أو ما عرف لاحقا بشعر الفكاهة أو الشعر الساخر. وقد يوجد أصناف أخرى لم يرد ذكرها لعدم شهرتها من ناحية ولعدم فائدة الحديث عنها من ناحية أخرى واحسب أننا تعرضنا لمعظم الدور الإعلامي للشعر وهذا يكفينا في هذا المقام.

ولا يغيب عن ذهننا أن ننبه إلى انه لربما وردت نصوص بعينها مشتملة على غير ما نوع من الأنواع معا ولكن المعول عليه دائما هو غرض الشعر الأساس حين إطلاقه وإنشائه وبذلك فقط يمكن الركون إلى قاعدة صلبة يمكن الاتكاء عليها حال النظر التفصيلي في أنواع وأنماط الشعر من حيث أدواره .

3-أما الدور الثالث وهو الأهم في جميعها قطعا كما نرى فهو الدور المؤسسي ويمكن أولا أن نعمد إليه فنحصره في ثلاث مؤسسات كبيرة قبل أن نبدأ حديثنا عن كل منها ونراها لا تعدو التالية من المؤسسات :

مؤسسة الحب أي المؤسسة الغزلية ومؤسسة الأرض أو المؤسسة الوطنية ومؤسسة الرسالة أي المؤسسة العقائدية

ولعلنا نبدأ فنوضح حقيقة ماثلة تقررها هذه الأنماط الثلاث الخالدة من الشعر والتي نراها أبدا مقيمة مع حركة الإنسان أينما حل وإلام اتجه ، فالأولى أي مؤسسة الحب تتناول علاقة الرجل بالمرأة تلك العلاقة الأبدية الخالدة التي بدأت بآدم وحواء عند الخليقة وستستمر إلى ما شاء الله ، والثانية مؤسسة تربط الإنسان بأرضه ووطنه وهي أيضا خالدة بقاء الأرض وسكانها ، أما الأخيرة منها فهي أعلاها شانا وانطلاقا منها يتم توجيه الأوليتين من هذه المؤسسات أي علاقة الإنسان بعقيدته وفكره أعلاها شانا بالتأكيد تلك الناجمة عن علاقته بربه الواحد القهار .

إما مؤسسة الحب فقد شهدت تنوعا هائلا منذ مختلف العصور الشعرية وحتى يومنا هذا إلا أنها لازالت في جوانبها الأساسية محتفظة ببريقها المعهود وأساسها الجميل ،( وننبه هنا إلى أننا لسنا بصدد تتبع تاريخي بل إنما بصدد استعراض لتواجد هذه الأنماط وتفصيل انتماءاتها) ، ولعلنا لا زلنا نذكر الحب العذري وقصائده الجميلة وشعره المثالي البديع وهو ما بقي حتى عصرنا هذا كما لا زلنا نذكر أبطال هذه القصص الإنسانية الرائعة من الشعراء ومعشوقاتهم اللواتي خلد الشعر أسماءهن كقيس بن الملوح وصاحبته ليلى بل لقد اصبح واحدهم يعرف بصاحبته كان يقال كثير عزة وقيس ليلى وجميل بثينة وهكذا ، وفي ناحية مضادة تماما ورد إلينا نصوصا كثيرة من الشعر الخليع وما امتزج به من فسق عريض بل ومن ذكر للخمر وأدوات هذا الفسق حتى لقد ذهب بعضهم إلى فصل شعر الخمر ككائن منفصل في الشعر دعوه الخمريات وهو ما قد بدا في العصر العباسي الثاني على يد أبى نواس وتطور لاحقا على يد الحسين الضحاك وغيرهم وصاحباتهم المعروفات سواء من الجواري والقيان بل وحتى في أحيان أخرى من بعض الحرائر كالشاعرة ليلى الأخيلة .

وهنالك من وقف بين هذين الاثنين وتوسط في هذا الأمر وهم النسبة الأعم والأكبر وكان عشقهم أيضا مضرب المثل أيضا كالشريف الرضي ولا باس في أحيان إن وجدتهم يميلون إلى هذا النسق الأول أو الثاني أحيانا إلا انهم في المعظم قد توسطوا بلا شك ولن نعدم مثالا على شططهم إلى النوع الآخر الذي احتوى مداعبات وشقاوة بالغة في أحيان كثيرة كفعل عمر بن أبى ربيعة وترصده النساء إلا انه لم يمل كل الميل بل التزم جانبا حذرا في قصيده على الأغلب ، ونجد أيضا من نزع إلى العذريين قليلا بالمقابل كما فعل أبو فراس الحمداني وان قال قائل أن غرضه الأساس كان العتاب لابن عمه سيف الدولة الحمداني على تركه أسيرا لدى الروم فترة من الوقت مما أسس لفرع شعر العتاب من باب الاخوانيات لاحقا ولم يكن طالب غزل في الأساس ، وإنما ذلك قد تعرض له أثناء عتابه وشكواه كما قد فعل كثيرا أبو الطيب المتنبي في بعض من قصائده وهو الذي لم يطرق الحب قلبه ولم يشغله كثيرا وإلا لكان وصل إلينا المبدع البكر من الصور والمعاني الجميلة .

ولعل شعر الغزل المتجرد أو مناجاة المحبوب الأول كما بدا قديما أوصلته رابعة العدوية إلى قمة مجده ثم توالى على العناية به المتصوفة الذين جاءوا من بعدها لا يمكن لنا أن نضمه إلا إلى المؤسسة الثالثة كأحد الفروع والأشكال منه وان طرأ على الذهن انه يشبه شعر الحب والعشق إلا أن الموضوع هنا كما بدأنا تصنيفنا به هو علاقة الرجل بالمرأة ولا يتسق بذلك هذا النمط الشعري مع قاعدتنا بل انه يبدو اكثر التصاقا بالمؤسسة الثالثة منه إلى شعر الغزل .

ولو ترصدنا التغيرات والإضافات والتحولات على شعر الحب من حيث الشكل والتنفيذ لاحقا لوجدناه أساسا لكل إبداع في مجال الأغنية والأصوات ، فقد بدا بالقصيد ومر بالموشحات والأدوار وانتهى بالأغنية الحديثة التي لا زالت تستند إلى الفكرة الأم في شعر الغزل والحب .

وهنا نسأل سؤالنا الأساس هل غاب دور هذا النمط من الشعر وهل ما عاد له من وظيفة في حياتنا المعاصرة ؟ واترك الجواب لكم مع يقيني بما سيكون عليه .!

والآن ما دور مؤسسة الأرض والوطن ؟ والجواب لديكم سادتي ، إذ أن عصرنا بالذات يدلل على عمق قيمة هذا الدور وأهميته البالغة في الحياة العربية فلنا قضايا لا زالت جرحا مفتوحا عميقا منذ قرن من الزمان على تراب فلسطين ، حتى أنها شكلت دالة لعدد كبير ليس فقط من شعراء فلسطين بل ومن الشعراء العرب والناطقين بالعربية ثم امتد إلى ما ترجم من العربية إلى غيرها من اللغات أو العكس . فالشعر المناضل بدا أيضا قديما قدم الأرض وعلاقة الإنسان بوطنه و أرضه وأهله ولربما كانت النصوص التي وصلتنا لم تعالج هذا الموضوع مباشرة كما نعهده اليوم بل اتصلت إليه من أبواب أخرى تودي إليه لاحقا وضمنا ، ولعلنا نعني بذلك مدح القبيلة والتغني لديارها وديار المحبوبة والثار لحربها مع الأعداء بل والبكاء على جروحها وأطلالها إن درست ، وان معظم المعلقات بدأت بالديار والوقوف على المنازل أولا من نمط :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل / بسقط اللوى بين الدخول فحومل
و
هل غادر الشعراء من متردم / أم هل عرفت الدار بعد توهم
و
عوجا على الطلل المحيل لعلنا / نبكِ الديار كما بكى ابن حذام

ولعل منطق ذلك أن العرب في الجزيرة العربية عاشوا دهرا بدوا رحل وطنهم حيث القبيلة والأهل والأحباب وليست أرضا بعينها في جزيرة العرب ، ولما اتسعت الديار الإسلامية أصبحت دار الخلافة كلها الأرض والوطن واصبح أعداؤها هم الذين يجب أن يحاربوا للذود عن الوطن وهكذا وصلتنا الحماسيات على يد ملكها المتوج أبى تمام ولربما كانت فتح عمورية أعلاها شانا في هذا الباب :

السيف اصدق أنباء من الكتب / في حده الحد بين الجد و اللعب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به / نظم من الشعر أو نثر من الخطب
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهمو/ صفر الوجوه وجلت اوجه العرب

والأمثلة كثر على ذلك ، أما في بعض محطات هذا النوع من الشعر فقد كان له باب آخر كما في حالة الشاعر الأمير امرؤ القيس الذي كان له ملك يطلبه وتعلق به تعبيرا عن وطنه وقضيته و أنشأ القصيد تلو القصيد بعد قولته المشهورة "اليوم خمر وغدا أمر " ، ولعل من علم سر حياة أبى الطيب المتنبي أدرك أن له طلبا ومرادا في الولاية والملك مما جعله يتصل بكافور طلبا لنصرته ويركن إلى سيف الدولة دهرا أملا في النصرة من دون ما جدوى ، ثم امتد الأمر إلى زمن صلاح الدين الأيوبي ليرده ذلك الشاعر الفلسطيني العربي يتلو بين يديه قصيدته " يا أيها الملك " طمعا منه في نصرة الأقصى والقدس ليهب صلاح الدين وقد اغرورقت عيناه بالدموع نجدة وحمية ، ولعل هذه كانت من أوائل النماذج الوطنية المباشرة التي تحدثت عن ارض وقضية في الشعر العربي ، ثم لا يجب أن نغفل عددا من القطع الأندلسية التي بكت الأندلس ردحا من الزمن ولكن دونما جدوى منها ، وحتى إذا ما امتدت الخلافة لتصل إلى الأتراك العثمانيين وجدت أيضا في مصر شوقي يصدح وضمن هذا الباب مهللا لحروب السلطان العثماني وانتصاراته :

الله اكبر كم في الفتح من عجب / يا خالد الترك جدد خالد العرب

ولعلنا ندرك أن العصر الحديث هو أهم شاهد على دور الشعر في مؤسسة النضال المباشرة وتحفيز الجماهير على الالتحام بقضيتها الوطنية والنصرة لها والتغني بالأوطان وأمجادها وتوثيق أيامها وكفاحاتها وهذا ليس فيما اعتقد حكرا على العرب بل انه في شعر الآخرين أيضا ويكفي أن ندلل على أهمية هذا الشعر وشعرائه بمثال من فيتنام مباشرة إذ أن القائد الموهوب هوشي منه كان اعظم شعراء الفيتنام وأكثرهم تغنيا بوطنه وقضيته .

إذن فهذه المؤسسة في تعبيرها المكثف المباشر إنما كانت ثمرة لعصر قريب حينما كانت معظم الشعوب وبضمنها الشعوب العربية والإسلامية تخوض معاركها الخالدة ضد الاستعمار الخارجي والاستغلال الداخلي والأمثلة كثر ولا شك إلا أن أكثرها بروزا إلى الآن كما الشعر العربي الذي تناول قضية العرب والمسلمين الأولى في العصر الحديث فلسطين.

أما آخر هذه المؤسسات فالشعر العقائدي الفكري الذي يدعو إلى قضية بعينها ولربما كان هذا النمط من الشعر أكثرها وضوحا منذ أن بدا وذلك لان قضيته محددة ، والنظر لن يدعنا طويلا حيارى حتى يدلنا على عدد من النصوص القديمة والحديثة التي تدلل على هذا النوع وتصلح له أمثلة جيدة ، وكما أسلفنا فان القضية الخالدة أي قضية علاقة الإنسان بربه كانت منذ الأزل هاجسا له في فكره وحياته ، ولعل أول النماذج الدعوية الإسلامية هي تلك التي تقابلك على لسان حسان بن ثابت شاعر الدعوة الإسلامية ، ثم لا تفتا تريك شعر عبد الله بن رواحة وغيرهم من الصحابة في حياتهم المجاهدة ، ولعلك لم تنس شعر الزهد والمتصوفة وغيرهم من المتأخرين ، ثم لن تلبث أن تقرا في مختلف العصور نماذج دعوية إسلامية واضحة تتعدى الزهد إلى فلسفة الدين الإسلامي الحياتية ، ولربما اعترضتك قصائد لجماعات إسلامية كانت إفرازا تاريخيا ذا صبغة دينية اشتطت عن الجماعة كالرافضة وغيرها من الجماعات ، وفي عصرنا هذا نجد أن الحركات الإسلامية قد أفرزت شعرا دعويا خاصا بها وشعراء كثر قاموا بالمهمة المحددة من جديد خير قيام .

وكما أن هنالك شعرا اهتدى شاعره إلى القضية الأساس برؤية واضحة فان هنالك من اتخذ له فكرا شاذا من وجودية أو الحادية ومهما تعددت الأسماء فالنتيجة واحدة وقام ينتصر لهذه الفكرة شعرا ويطعم شعره بها عاكسا هذه القناعات ومحاولا أن يكون لها حلفا من المتلقين أيضا . ولربما ألبست مثل هذه الأفكار لباسا وطنيا أو سياسيا لإحالة اسمها إلى الشعر السياسي ولكن جوهرها لا يزال على حاله ومن السهل الوصول إليه في اغلب الأحيان ، وهذا لن يعدم أن يستفاد من القيمة الفنية والوطنية إن وجدت في مثل هذا النمط إلا انه لا يؤخذ جملة على الإطلاق.

ولعلنا قبل أن نختم هذه الورقة نشير إلى أن أبا تمام في الحماسة قد صنف الشعر إلى عشرة أبواب فيما ذهب عبد العزيز بن أبى الإصبع إلى قسمتها إلى ثمانية عشر وذكرها على النحو التالي " غزل-وصف-فخر-مدح-هجاء-عتاب-اعتذار-ملح-ادب-زهد-خمريات-مراثي-بشارة-تهاني-وعيد-تحذير-تحريض-باب السؤال والجواب" ، وهو تقسيم على ظاهر النص ويختلف عن قاعدتنا التي اعتمدناها هنا على أية حال.

إذن تحدثنا هنا في هذه الورقة عن وظائف الشعر وأدواره المختلفة من حيث هو مقصود بأداء وظيفة معبر عن علاقة ما اجتماعية أم فكرية أم إنسانية وهو ما ننبه عليه إذ أن ما تحدثنا عنه يبدو من حيث هو دور شعري كصنف محدد بذاته وسنأتي على الحديث لاحقا حول المشكلات التي تواجه الشعر والشعراء العرب في العصر الحديث سواء من داخل البيت الشعري أم من خارجه ونحاول الإجابة على السؤال هل فقد الشعر وظيفته ؟ ، فإلى الورقة التالية لاحقا إن شاء الله .

- الورقة الثالثة

جوانب الأزمة واسبابها

كنا قد شرعنا في ورقتنا الثانية سابقا في تحديد أدوار بعينها للشعر العربي اعتمادا على إطار عام وقاعدة بعينها في تفصيلها
لذلك وناقشنا هذه الأدوار من حيث هي ومن حيث استمرار الحاجة إليها من عدمه في حياة الأمة العربية وتركنا المجال أمام الفاريء الكريم ليحكم بنفسه ويستنتج الحاجة إلى هذه الأدوار اعتمادا على ما تقدم من سرد وتقديم ، وتوصلنا تاليا إلى سؤالنا الممعن في الأهمية والحيوية أيضا والذي لا شك يلح علينا جميعا في محاولة تقديم إجابة عاجلة له ، ألا وهو إذا كانت بعض هذه الأدوار التي تحدثنا عنها لا زالت بذات الأهمية بل قل ربما بعضها قد زادت أهميته حتما ، فلماذا يعاني الشعر من أزمة حاليا؟ وما طبيعة هذه الأزمة؟ وما المشكلات الحقيقية التي تواجه هذه الأدوار ؟ وبالتالي ما المعضلات التي تواجه الشعراء العرب حقيقة كسؤال يتولد عن جملة هذه الأسئلة ؟

وقبل أن نشرع في الإجابة الفعلية لا بد لنا أن نعود فنؤكد مذهبنا في النظر إلى الشعر وحسبما أوضحنا وقدمنا وبالتالي فإننا حتما بصدد مناقشة الأجوبة التي تعني هذا الشعر وهؤلاء الشعراء ، ولسنا مثلا بصدد الحديث عن ما البسوه قصرا ثوب الشعر وما هو بذلك ، وعلى سبيل المثال لما يطيب لبعضهم أن يدعوه الشعر النثري وأحيانا شعر ما بعد الحداثة وهكذا من أسماء طنانة رنانة لكنها لا تكاد تدلل على شيء ذي بال . وبالتالي فإننا قطعا لا نتحدث عن أزمة هؤلاء المستشعرين في صخب وجلبة ولا عن المستنقذين لهم وهم من ليس لهم من علاقة بالنقد لا من قريب ولا من بعيد اللهم سوى بعض مفردات ينثرونها هنا وهناك مفككة الأوصال والدلالات قطعا .

إذن ما هي جوانب أزمة الشعر الذي نقصد ؟ وأين مكمن العلل ؟

والحقيقة أننا سنعمد إلى تصنيف هذه الأسباب إلى ثلاثة مصادر لا إلى مصدر واحد ونراها كالتالي :

1- ذاتية
2- منعكسة ومترابطة
3- خارجية

أولا : أما الأسباب الذاتية (أزمة النص والمبدع) .

يحلو لعدد من المطلعين في كثير من مؤلفاتهم بل وفي أحاديثهم أن يطلقوا قصرا على الأسباب الذاتية مصطلحا خاصا هو غياب النص أو أزمة النص وهم يعنون بذلك تلك الأسباب الذاتية التي يعاني منها الشعر العربي المعاصر منذ فترة طويلة وبالتحديد منذ السبعينات ربما ، فهي إذن أسباب كامنة في نقص النصوص الجادة وقلتها من الشعراء المبدعين حينا وهو الأعم الأغلب من المحددات في هذا الجانب هذا من جهة واحدة ، أما من الجهة الأخرى و كما هو ملموس تماما أيضا فهو قلة الاهتمام بما لدى الشعراء الشباب وإهمالهم ، بل و في أحيان كثيرة تبرز محاربة لما لدي هؤلاء القادمين الجدد من حيوية ونشاط وطموح حقيقي حتى إن بعض هؤلاء المحاربين بكسر الراء يعمد إلى الدعوة جادا لمحاصرة هؤلاء الشباب وقتل مواهبهم بدلا من رعايتها لأسباب متعددة لا تمت صدقا وتأكيدا لا إلى الموضوعية ولا إلى البراءة بصلة من أي باب من أبواب المنطق الأدبي ولا البشري ولا يستساغ معها أيضا بأي حال من الأحوال النظر إليها وإعارتها التفاتة جادة ، وهذا حتما قد ساهم أيضا في تشكيل واقع مر لطبيعة الأزمة الذاتي بل و قد عمل سلبا فحد من فرص تجاوزها مستقبلا على الأقل في المدى المنظور.

وان شئت أن ترسل النظر في التاريخ القديم الذي أسست وقائعه وأحداثه تاليا لما قد بلغه الذين توالوا على هذا الأمر من بعد ولو من باب الفضول أو في محاولة لفهم ما حدث عن طريق البحث المبسط البدائي و لمقارنة الأحوال ، فانك بلا شك ستجد أمرا مختلفا تماما فيما سبق من عهود وما هو واقع حاليا في أيامنا هذه ، وهذا ما قد يدفع كثيرين من المهتمين إلى تشاؤم كبير ، فإذا كانت الأحوال على هذا النحو من التأزم والتخبط العنيف في هذه الأيام فان السؤال القادم سيكون حتما على نحو لا بد وان يكون فيه كل القلق مشروعا و يتطلب وقفة صادقة للجواب عليه فورا ، وان سؤالا من نمط لأي عصر سنؤسس نحن تاليا ؟ هو سؤال ملح ذو ملمح تراجيدي مأساوي تماما .

ولنلق نظرة إلى الماضي الشعري ، فخذ مثل أيام الشعر البكر لدى الجاهليين و ما كانت عليه حال القبائل العربية يوم يبرز منها شاعر و كيف كانت تحتفي به احتفاءها بزعيم جديد طلع إليهم بل ربما اكثر قليلا أو بمثل حفاوتهم بزعيم أو هي بمثل سعادتهم بفارس موعود لهذه القبيلة ، بل لقد عرف عنهم كثيرا من القصص في احتفاء شعراء القبيلة الأفذاذ أنفسهم بهذا الشاعر المقبل فلا يمتنع واحدهم أن يسر وينتشي لهؤلاء القادمين الجدد ويستعد ليوم يتذاكرون فيه الشعر أمام القبيلة و ربما أمام عدد من المحكمين من سادة القول واللغة في عكاظ أو ذي المجنة أوغرها من أسواق العرب الماضية ومواسمها السالفة العديدة والحافلة لاحقا ، ولعلنا ونحن نستذكر ذلك ونمر بكل هذا وننفذ إلى ما آل إليه الحال أيضا عند من قد جاء من بعدهم من العرب في عصور الدولة الإسلامية العلية المختلفة وخاصة في أثناء العصر العباسي الزاهر وكيف كانوا يتحلقَّون أثناء تناول الأدب والشعر في مجالس الخلفاء والقضاة والوزراء وعلى تنوع المذاهب والمشارب الأدبية التي كانت سندهش حتما إلى هذا التناغم والتوافق التاريخي والتواصل في هذه النظرة والتقييم عبر التاريخ السابق ، ثم أننا نعمد فنقارن حال هؤلاء جملة بواقع حال بعض ممن لدينا في هذه الأيام فنصاب بالمفاجأة وندرك حتما عمق الفرق والفارق وبالتالي ربما نبدأ لنفهم إرهاصات هذا العقم أو التعقيم المقصود إن شئت .وحتما لا نقصد أن نشيع أن انسجاما وتعاونا كليا كان هو القانون العام لتلك العصور بين أهل الشان الشعري أنفسهم وبان تقييما عاليا كان هو داب المجتمع لهم دائما ، ولا أن هذه التجمعات كانت دائما خالية من شد وجذب أ و أنها لم تكن تشهد مماحكات وحروب شعرية بين هؤلاء الشعراء ، لا فالحقيقة انه كانت هنالك العديد من هذه بين عدد من الشعراء بل وبين من تشيع لهم أيضا من نقاد ومحبين ومريدين ، بل إن منهم من ألف كتبه انطلاقا من حسه التشيعي هذا ولديك أمثلة عديدة بدءا من تناطح الاخطل وجرير والفرزدق مثلا إلى أيام أبى تمام وخصومه وكتاب الموازنة الشهير إلى الجدل حول من كان هو في يوم ما مالئ الدنيا وشاغل الناس أي أبى الطيب المتنبي والأمثلة كثير ، ولكن ذلك كله إنما كان انعكاسا لواقع شعري حي ومعركة لإثبات أو نفي درجات راقية بعينها لهذا الشاعر أو ذاك من داخل البيت الشعري ذاته وكان الشعراء لا بد وان يستجيبوا إيجابيا بطرح المزيد والمزيد من النصوص المبدعة لتكون دالة ومادة معا في هذا الخضم بين أيديهم وبين أيدي المحاربين عنهم أيضا لإثبات مكانتهم والحكم لهم ، إذن فهي حركة في الاتجاه الإيجابي ولذا انتعشت الحركة الأدبية واستمرت عبر القرون وتجدد العطاء ، أما اليوم فانه وان وجد في موقع بعينه أو فترة ما مثل هذه المحاورات فهي قد انطلقت من الاتجاه الآخر تماما ومن المنحى السالب المثبط واقرب إلى صراع الديوك وناظرتهم منه إلى المحاورات الأدبية الفنية لاختلاف الهدف واختلاف النوايا بل حتى واختلاف الهم الباعث لها في كثير من الأحيان وقطعا المبعث المولد أيضا وما يشوبه من شوائب عدة ولأسباب أخرى تخص المتلقي وهو ما سنعمد إليه تاليا ، إلا أننا هنا نطرق الباب من عنوان أهل البيت الشعري أنفسهم فنظرا لعدم مصداقية المحرك وقطيعته مع الأسباب الفنية الحقيقية نجد هؤلاء الشعراء وكان الأمر لا يعنيهم فيقنع كل منهم ما بما لديه أو بما سيوصله إليه صراع الديوك هذا من نتائج ويجلس فوق يديه لا يصنع شيئا سوى الصراخ الباهت في معظم الأحوال هذا فقط أن تسنى له ذلك ، ولذا فانه ما دامت هذه محركات الصراع وقوانينه غير الفنية تماما وغير المبدئية أيضا ولا هي حتما بالصادقة فلماذا يتعبون أنفسهم في مزيد من النصوص ؟.

ولربما قال قائل بان فترات مرت منذ عهد قريب كتلك التي شهدت مناوشات وحروب بين أنصار هذا التيار أو اللون الشعري وبين منافسيهم الذين لا يرون رأيهم ويرون أمرا آخر والذي جعل كثيرا منهم يصدر لاحقا على سبيل الإمعان في الانتصار لهذه التجمعات والمعارك مجلات أدبية تنطق باسم هذه التجمعات هو انتصار للإبداع وهمة من أهل البيت الشعري ونشاط من تلك المدارس والمجلات التي تحمل عادة ما كانوا يدعون إليه من أفكار ظاهرة للعيان بحكم النص المنشور هنا أو هناك وأنها كانت تجديدا في هذا القرن وكانت اكبر إنجاز شعري فاق ما قبله . وان كنا ننظر إلى هذا القول وهؤلاء المحدثين في رأيهم هذا بعين من الشك حيث قد نوافق على بعض من جوانبها فإننا لا ننسى قطعا ولا يجب أن نغفل بالتأكيد سابقيهم ممن كان لهم عظيم الأثر في تامين هذا التواصل الشعري والأدبي بين كل ما قد كان من اثر وتراث عظيم سابقا وبين عصرنا الحالي الجديد نسبيا ، ونعني حتما جيل التنوير الأدبي والانتفاضة الثقافية الأولى في عصر الانبعاث الجديد ولذا لا بد من ذكر دور بارز لمن يستحق ولمن هم أساطين وعظماء فعليون في هذا الأمر من أمثال رب السيف والقلم البارودي باشا وشوقي وحافظ وأبى ريشة وآبي ماضي وجبران وغيرهم كثير . فهؤلاء هم من مهد لحركة الأدب التالية ولم تكن مقطوعة الجذور عن ما سبق ولا فورة من عدم .

ولكن الآن و نحن في هذا الوقت أين نحن من كل ما قد مضى ؟ وهل نحن بخير بائن أو حتى مقبل مستتر قد حلت تباشيره وظهرت إرهاصات له ؟ والجواب المباشر كما أرى هو كلا ولا اعتقد ذلك للأسف الشديد ولو على اقل تقدير حتى زمن كتابة هذه السطور هنا .

وان كنا تسائل عن كل هذا فلنا أيضا أن نتساءل عن ذنب الشعراء أنفسهم في هذا المجال ومساهماتهم أيضا في تسليط سيف القطيعة مع النص القادم من غيرهم دونما شعور بالخجل أو الذنب أو حتى الاكتراث تجاه الأدب الذي يدعون فيه انهم ممثلون له بل ودونما نية لفعل فني على اقل تقدير ، أو حتى أن يقف واحدهم وقفة مسؤولة أمام نفسه وأدبه فيكون له كلمة جديدة في هذا الواقع الأليم .

و من زاوية أخرى ، فلعلنا نرنو إلى غياب التجمعات والروابط الفاعلة على ساحة الشعر العربي حاليا في مقارنة بما كان عليه الحال فقط منذ عدد قليل من السنين كما سبق ليزيد ذلك من إحساسنا بعمق الهوة وفداحة الكارثة ، فأين هي المنتديات الشعرية والتجمعات الأدبية الحقيقية؟ أين هو المجهود الشعري الساطع ؟ ( ونحن لا نقول هنا بانعدامه كلية ) ولكن ما يمكن أن يشار إليه هنا من وقائع لا بد وان توصف بالهامشية عددا ونوعا في ذات الوقت ،وهي ليست ذات تواجد فاعل ولا هي منظورة الأثر في الحياة الشعرية العربية ، بل قد يرى بوضوح شديد ابعد من ذلك في غياب الحماسة الحقيقية لقضايا الشعر ومستقبله المجهول .

وإذا كانت هذه صورة لبعضهم فلا يجب أن نغمط مجموعة من العاملين الصادقين من الشعراء حقهم وهم يتحركون ذات اليمين وذات الشمال يدعون إلى تجمعات أدبية صحيحة وكثير منهم يخصص جزءا لا باس به من وقته بل ومن ماله في كثير من الأحيان لتنفيذ مشروعات بعينها تصب في ذات الاتجاه وربما أخذت اتجاهات تحفيزية كما هو حال المسابقات والجوائز الشعرية المرموقة التي لا يسعنا إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل لأصحابها على حميتهم وشهامتهم الأدبية والشعرية بل والعربية مطلقا ، وهنالك أمثلة ولو محدودة لذلك ويحضرني هنا جائزة العويس الشعرية ، وهذا إنما يدلل على أن استدراك الأمر ممكن فعلا لو خلصت النوايا واتحدت العزائم .وكما أن هنالك تحركات أخرى من بعض من سعى في هذا العصر مستخدما أدواته وخاصة هذه الشبكة العنكبوتية وذلك إلى مد الجسور ومحاولة الحفاظ على التراث الشعري وإحيائه كما هو حال محاولة موسوعة الشعر الإماراتية عبر الشبكة وغيرها من المواقع التي تحاول أن تطرح الهم الثقافي والشعري وتنشط في هذه الاتجاهات ولديك مثلا شبكة البوابة الثقافية الأردنية ، ولعلنا أيضا نذكر في هذا المقام المشروع الرائد والفتي الذي تبنته شبكة أين لرعاية المواهب العربية من خلال الشبكة أيضا وهو لا بد سيقدم إضافة جديدة في هذا المجال ذاته .

ولكن هذه المحاولات لا زالت في طور الجنينية رغم أهميتها وتشكل ضوءا افضل ألف مرة من الظلام القاتم إلا إن جو الأزمة العام مخيم لا زال بظلاله الكثيفة المقيتة رغم هذه المحاولات الرائعة ، فالقانون العام لا زال شح الجيد ونقصه،
وقد كان الأمر ليهون عند هذا الحد من الأذى لو لم يتفاقم إلى مجموعات من أنصاف الشعراء وأشباههم من يدفعون دفعا إلى لبس ديباجة ليست حقا لهم ، وذلك بفعل وقصد بائن من عدد من أصحاب الغرض والمصلحة غير الحميدة قطعا لكي يبرزوا عناوين مشوهة للشعر العربي يؤدي حتما في جملة ما يؤدي إليه إلى عزوف المبدعين والمواهب الغض الطرية عن الخوض مع مثل هؤلاء في مناطحة الكباش هذه والتي ينقصها قطعا الشعر الحقيقي والأدب الرفيع ، مما يؤدي إلى خسارة الشعر العربي دماء جديدة وقرائح عديدة كانت ستضمن له تواصل الإبداعات العربية بلا شك لعصور قادمة أخرى تسلم فيها الراية إلى قادمين جدد ، وهي سنة الله في خلقه .

ثانيا :الأسباب المرتبطة والمنعكسة

فنراها في حزمة من الشواهد والمعوقات ولعلنا نوضحها في آلاتية من البواعث والمحفزات :

أ‌- أزمة المتلقي العربي
ب‌- أزمة التواصل والتوصيل
ت‌- مزاحمة الفنون الجديدة
ث‌- التشكيل السلبي
ج‌- أزمة النقد والنقاد

أ- أزمة المتلقي العربي
واعتقد جازما أن الأسباب الاجتماعية وطبيعة التشكيلات الجديدة الراهنة في مجتمعاتنا العربية هي السبب الأساس في أزمة المتلقي العربي ، أي أن تغير المفاهيم الاجتماعية والقيم التوصيفية داخل هذه المجتمعات أدت إلى وضع الشعر ضمن عملية
إعادة التشكيل وإعادة توزيع القيم والأولويات والاهتمامات داخل بنية المجتمعات العربية ، وبالتالي وضع الشعر والأدب والقراءة والثقافة أحيانا بعامة مرتبة اقل كثيرا في سلم أولويات هذه المجتمعات ، أي الأولويات القيمية والمفهوماتية للشعب.

ولا شك أن نوازع إعادة إعطاء القيم المتدنية للغة وفنونها بشكل عام في المجتمعات العربية كان فيما كان تحت وطأة عدد من الأوجاع الاقتصادية والاستهلاكية في أحيان أخرى كثيرة ، أي أن إعادة وضع القيمة المساوية لأي من هذه كان ضمن البرنامج العام الذي ابتليت به المجتمعات العربية والوطن العربي الكبير وخاصة بعد الاستعمار الخانق وفتراته المشؤومة ، لقد وضعت المجتمعات حتى للعلم نفسه وليس فقط للأدب قيمة اقتصادية ما وتعاملت معهما على هذا الأساس تارة بوضوح سافر مستفز ومقيت وتارة أخرى على استحياء خجول ، واليوم نشهد بعض الانقلابات في معادلات التقييم التي وضعتها هذه المجتمعات أنفسها من جديد خاصة على هامش البطالة لبعض المهن ولبعض حملة الشهادات العليا من تخصصات بعينها كانت قد أدرجت في الماضي القريب ضمن أعلى السلم التقيمي البائس هذا ، كما إن أثرا واضحا لبعض من مشكلات المجتمعات الاستهلاكية التي هي نحن وبكل أسف أيضا قد بدا يلقي بظلاله على هذه المجتمعات .

إذن فعدم اهتمام المتلقي هو محطة سريعة على طريق انحدار الذوق العام وغياب الشخصية والسمة الذاتية المميزة ،كما أنها أيضا نتيجة وسمة لهذه المجتمعات الاستهلاكية وتحصيل حاصل ، فهل نلوم المتلقي العربي فقط على ذلك أم نلوم المخططين والاستراتيجيين وواضعي الخطط أم ابعد من ذلك فنلقي باللوم على الاستعمار ومفرزاته ؟ والحقيقة إن كل هؤلاء شركاء في دمه وليس الذئب قطعا .وهكذا فالتخبط في عدد من الجوانب الأساسية في هذه المجتمعات نتيجة لما سبق مثلا وللمشكلات
المستفحلة في مجتمعنا العربي بسبب التوترات السياسية والاجتماعية أيضا نتيجة لانهزام واضح أمام عدد من الأعداء في عدة جوانب هامة في تشكيل الوعي الاجتماعي فانه لا بد وان ينعكس أيضا على هذا الأدب مثلما هو منعكس لا محالة على العلم والفن وجوانب أساسية أخرى في حياة المجتمعات والشعوب ، إذ إن الأدب في النهاية يفترض به أن يكون مرآة حقيقية
لحياة المجتمعات والأمم ومشكلاتها ومدى تطورها وهمومها أيضا ، ولكن بالتأكيد لا يفهم من هذا أن الأدب والشعر لا يمكن له إلا أن يكون انعكاسا لصورة ما وفقط ويقف عند هذا الحد ، حتما لا لأنه أيضا يمكن له أن يشكل رافعة قوية أيضا لتغيير واقع هذه الحياة كما أسلفنا في حديثنا السابق أدوار الشعر.

أما الملمح الآخر في أزمة المتلقي فهي جره إلى مصير قاتم بدعاوى باطلة على لسانه في إشارة إلى شعار بعض من الذين
فشلوا في تقديم أدب وفن حقيقي والذين هم أطلقوا شعارات من نوع الجمهور واختياراته أو بالعامية حاجة الجمهور والقارئ وأننا في عصر السرعة ، ومرة أخرى العودة إلى يافطات الاستهلاك القبيح ودعاويه ، وربما مورس هكذا دور من قبل عدد من الوسائل التوصيلية كالصحف والفضائيات والسينما وغيرها من أدوات التوصيل ، ولكن هذا كله غير صحيح إطلاقا لان القارئ والمتلقي العربي لا زال يتذوق ويميز بين الأدب الرفيع والأدب الهابط مهما اتهم زورا بغير هذا وهنالك عدة دلائل على ما نقول .

ب-أزمة التواصل والتوصيل

واللغة هي أول ما قد يرى في هذا الإطار فهي فجيعة بلا شك إذ إن المفترض أن هذه لغتنا الأم وان هذا لسان أجدادنا وكتبنا المقدس وان ما برع فيه هؤلاء على مر العصور هو هذه اللغة وفنونها المميزة بل لقد جاء إعجازها الديني الحقيقي لغويا ، فكيف يكون قد وصلنا إلى هذا المستوى من الانحدار الفعلي ؟ ولعل متتبعا حقيقيا للعرب وأدبهم عبر العصور سيصاب حتما بالذهول وهو يرى هذه الحالة العجيبة ، بل لربما أوصلته الفجيعة إلى أن ينفي صلة هذا المتلقي ولغته الحالية أصلا بأجداده القدامى . واحسب أن معه حقا في ذلك إذ لا يعقل أن يكون هكذا حال لغته وحاله معها مهما كانت الأسباب التي أوصلته لهذا الموقف ، ولعل أحدهم يشرأب منكرا علينا ولافتا إلى أن الأمية في العرب مستفحلة جدا فكيف تطلب من هذا المتلقي أن يفهم الشعر ويتفاعل معه؟

وأنا لا البث أن أعيد هذا السائل إلى حقيقة ساطعة عبر التاريخ ألا وهي أن العرب أصلا أمة أمية على الأغلب يوم كانت في جزيرة العرب التي بدا فيها الشعر وفنون القول ، وان بدويا ما في البراري لا يقرا ولا يكتب لربما جاءك بشعر ممتع جميل على أميته وجهله . إذن فالأمية ليست سببا رئيسيا وان كانت بلا شك تفاقم المشكلة وتتفاعل معها سلبا . وإننا هنا لا نقصد في تناولنا موضوع اللغة هذا الجانب وإنما اللغة لدى حتى مثقفي وأدباء هذا العصر الهزيل ومدى إلمامهم بمقتضياتها أو حتى حرصهم على شؤونها والأمر لدى العامة قطعا أسوا بكثير طبعا .

إن عددا من العوامل قد ساهمت بلا شك في انحدار نوعية اللغة ووصول العرب إلى من يتطوع فيطرح عليهم استخدام أبجدية بديلة حينا ، أو استخدام العامية أو ما يعرف باللهجات المحكية ، وليس هذا فقط بل ممارسة ذلك علنا ومن خلال بعض قنوات الفضائيات المشبوهة الدور ، والانكى في هذا الأمر أن تأتى مثل هذه الدعوات أحيانا من لدن بعض ممن استلبس ثياب الفكر والأدب ، وان كانت اللغة هي أداة التواصل الوحيدة بين العرب عامة وان هذه هي الأزمة التي تواجهها قناة التواصل فان قنوات التوصيل كما نرى أيضا تلعب دورا أيضا في هذا المجال ، وإذا كنا أشرنا إلى بعض منها الآن كالفضائيات مثلا فان عدة أدوات توصيلية أخرى تلعب مثل هذا الدور من الصحف والمجلات والسبنما والإذاعة والمسرح وغيرها بلا شك تؤدي عن قصد أو عن غير قصد أحيانا مثل هذا الدور الخطير الذي يواجه الأمة في لسانها الذي هو وعاء فكرها وتواصلها .

وإذا كنا قد تحدثنا عن هذه المؤسسات فإننا لا يجب أن نغفل عن دور المؤسسة الأخرى في مجتمعنا والتي تساهم أيضا في بناء شخصية ووعي معين ، فإذا كانت الأسر تأتى أولا والإعلام يأتي ثالثا فان المدارس والجامعات ومناهجها تأتى بلا شك في المقام الثاني بعد الأسرة بل ربما أحيانا قدمت عليها في دورها التعليمي هذا . وبالتأكيد فان حال اللغة في هذه المؤسسة لا يسر قطعا ، فالمناهج إما ممعنة في التعقيد وإما مسفة غاية الإسفاف ولا يوجد ما يؤدي إلى تكوين فكرة ما عن أهداف من وضع هذه المناهج أو من هو معني بالإشراف على شؤونها ومراقبة نجاحاتها واخفاقاتها تمهيدا لتصحيح الخلل فيها إن وجد ، وان ذلك لا شك سيقودنا إلى التساؤل عن دور المعلمين في هذا المجال . إن معظم مدرسي اللغة العربية في هذا الزمان لم يتجهوا إلى العربية كموضوع حبا فيه وبالتالي قد يصلح أن نتوقع منهم إبداعا ما ، ولا هم أيضا قد تلقوا تعليما مميزا في كثير من الأحيان للعربية وآدابها وبضمنها اللغة طبعا بل إننا ونحن نرى الصورة النمطية الكئيبة جدا التي قد رسمتها السينما الجاهلة في أحيان كثيرة لمدرسي النحو والعربية تدلل على عمق الخبث المستحكم أو الجهل القاتل في عقول كاتبي حوارات وسيناريوهات هذه المشاهد الساخرة منهم ومن لغتهم وحتى أحيانا تأليف أغان سمجة حول هذا الموضوع مما سيؤدي حتما إلى تشكيل رأي عام في المجتمعات أو انطباعية جماعية مع مرور الزمن وعند تكرار هذه الأنماط الشاذة سيحدث ويصبح جزءا من اللاوعي رفض مدرس اللغة ومادة اللغة وما يمكن أن يقوله تأسيسا لقطيعة فيما بعد مع اللغة نفسها ، فأي تخريب اكبر من هذا ؟ وهل يبقى بعد ذلك كله من دافع وحافز لدى من قد يكون صالحا بين هذا الجمع من أصحاب اللغة لكي يتصدر إلى عملية مواجهة مجتمع بحقيقة وضعه وتبني مواقف مكلفة للتغيير .ونحن بالطبع لا يمكن أن نستثني المعاجم اللغوية من المسؤولية أيضا ولا الحكومات التي قد تهتم بشيء من سفاسف الأمور فتضع لها ميزانيات كبيرة من نوع إيصال مثل هذه المواد الفيلمية إلى مسابقات دولية وتقديمها على أنها ثروة تراثية اكثر من اهتمامها بما جاء فيها مثلا.

ت-مزاحمة الفنون الجديدة

هنالك من طرح مرارا أن الشعر لم يعد ديوان العرب كما كان ، بل هنالك من اقترح أن تكون الرواية مثلا هي البديل الحتمي بل ربما زادوا أحيانا التاريخي جريا على عادة الجدليين في النسبة وولعهم بها . والرواية كما هو معروف فن في صيغته الحالية جديد على العرب ، ويتبعه مباشرة المسرح بالتأكيد فهو لازمة له ومن ثم السينما وطبعا الشاشة الصغيرة . وكما أن هنالك اليوم فنونا أدبية أخرى جديدة مثل الرواية والتي طرحها البعض بديلا للشعر على أساس حلول الرواية في التوثيق لمسيرة الأمة العربية وهو دور قام به الشعر العربي فعلا ، فان من طرح الأدوات التوصيلية الأخرى كالفضائيات ولربما الشبكة حاليا قد طرح ذلك وفي ذهنه الدور الإعلامي والإعلاني الذي كان يقوم به الشعر العربي في الماضي أيضا . وإذا كان هؤلاء قد طرحوا البدائل من الفنون والأدوات اعتمادا على دور بعينه قد سبق للشعر أن قام به ووزعوا تركته بناءا على ذلك فان جميع هؤلاء ومن قد يأتي بعدهم فينطلق من ذات المنطلق في طرح البدائل للشعر العربي عليه أن يعلم انه قد ارتكب خطأ جسيما بلا ريب .

صحيح أن الشعر قد لعب أدوارا كثيرة في حياة العرب كما سبق القول فيه ، وصحيح أن كثيرا من هذه الأدوار قد اختفى أو كاد وانه حلت محل أدواره تلك أدوات وفنون جديدة ، إلا انه يجب علينا أن نتذكر أن أدوار الشعر كثيرة وانه قطعا قد كان يشكل حلقة جمعية أساسية في حياة العرب وان مجرد طرح عدد من البدائل لهذه الأدوار يدلل على عظم الدور العملاق الذي لعبه الشعر فعلا في حياة العرب ما دمنا بحاجة لأكثر من عنوان ليحل محل أدواره المتعددة . طبعا هذا من جانب واحد أما من الجانب الآخر فان الشعر نفسه لا زال سيدا في هذه البدائل المطروحة ، فكيف نقول انه قد حل محلها ثم نستدعيه في مهمة عاجلة في عديد من نصوصها ؟ انه منطق غريب فعلا . كم من رواية ومسرح كان الشعر فيه حاضرا بسلطانه حتى قال بعضهم الرواية أو المسرح الشعري ليصفها ! وكم من أداة وفن جديد قد استخدم هذا الشعر في داخل بنائه العضوي أيضا فهل يصح بعد ذلك ادعاء بحلول وإحلال ؟

وفي الجانب المقابل أيضا أن هذه الأدوات والفنون الجديدة تخاطب ركنا مختلفا في الوجدان والفكر للمتلقي فهي تتعامل مع مستقبلات في هذا الإنسان وتلبي حاجة ما لديه تختلف كل الاختلاف عن تلك التي هي للشعر ، فعلى من قال بذلك فعلا أن يعمد إلى تغيير الخارطة الوجدانية للإنسان وقطعا العربي بشكل خاص ليقنعنا بقوله هذا .ومن المفيد أن ننبه إلى ركن أساسي في دعاوى بعض من هؤلاء القائلين بالإحلال ألا وهو استقدامهم لتجارب وحياة الآخرين من أمم أخرى والمفضل لديهم قطعا هنا هم الغربيون ومحاولة حشرها حشرا وتفصيلها على مقاسنا نحن . وعلى أية حال قد نتفق بان الفنون الجديدة والأدوات الجديدة ربما تزاحم الشعر في بعض من سابق أدواره لكنها لن تصلح لان تحل قطعا محله من حيث هو الشعر المستقبل على نحو خاص ولضرورة وجدانية ماسة تخصه هو دون سواه لدى المتلقي العربي .

ث-التشكيل السلبي

ماذا نقصد بذلك ؟ نقصد بذلك ما يحاوله البعض من طرح معوقات أمام الشعر باسمه في أشكال لا تمت إليه بصلة مطلقا ، وان كانت في بعض من أوجهها قد تقيم فيما بعد على أنها درجات ما من درجات الشعر الصغير . وللتوضيح نذكر هنا مثلا المقطوعات والنصوص التي يسمونها بالشعر الشعبي ، إن هذا النمط من الحداء والهزج وان تعددت أسماؤه بتعدد الشعوب العربية فانه يعود في نهايته إلى ذات الركن وهو ما اسميه بالشعر الصغير . وقد سبق لنا وان ناقشنا هذا الأمر في ما سبق ولكننا اليوم نناقش دورا اصبح يقوم به هذا النمط يشكل فيه معوقا أمام الشعر الكبير الذي نعرف. إن محاولات البعض سواء كانت بقصد أو بغير قصد لتغليف هذا النمط النصي وتلوينه وتجميله في عيون العامة الذين بلا شك سيستسهلون نتيجة لعدد من العوامل تناول هذه الوجبات وابتلاع هذه النصوص على أنها شعر هي محاولات تخريبية في نهاية الأمر قطعا .

لقد تجاوز أصحاب هذا الدور كثيرا ما هو مقبول قطعا وما عاد الأمر مجرد ظاهرة بل لقد اصبح حقا يشكل أزمة يمكن أن تؤدي لاحقا إلى تزوير كبير في جانب هام من ممتلكات الوعي الثقافي العربي ، والعجيب أن أدوات التوصيل المختلفة تلك قد نشطت و بهمة في إبراز هذا النمط النصي وكانت حتى الأمس القريب فقط تقف متلكعة عن الشعر الأصيل متذرعة بذرائع عديدة ، وهذا أن دل على شيء فإنما يدلل على تماثل قائم في المستويات والأهداف معا .

إننا بالتأكيد لا يمكن أن نقف منكرين لهذه النصوص من حيث هي وإنما لا يمكن أن نقبل دورا تخريبيا قاسيا تقوم به هذه النصوص يتلاقى مثلا مع دعوات مشبوهة سابقة من النمط الدعوة إلى اللهجات المحلية المحكية بدلا من اللغة الأم ، فمن هذا الباب نقف بحزم شديد ضد مثل هذه الأدوار وننبه إلى خطرها الأكيد في تشكيل وعي سلبي عن الأدب والشعر لدى المتلقي العربي من جهة ولدى من سيعمد إلى التواصل مع هذا الأدب من الآخرين من جهة أخرى ، سواء في عصرنا هذا أم ما سيلي هذا العصر لاحقا ولذا لا بد من وقفة هنا .

ج- أزمة النقد والنقاد

وهنا مربط الفرس كما يقولون ، فإذا كانت تلك المعوقات السابقة والأزمات قد تمس الوفرة مثلا أو التواجد من عدمه فان هذه الأزمة ترتبط بالنوع نفسه وهنا تكمن علة الخطورة .إن النقد كان ولا زال البوصلة التي تحدد الاتجاهات والإشارة الضوئية
التي تسمح بالمرور أو تمنعه ، هذا في ابسط أضيق الأدوار للنقد ، ويحسن أن نذكر هنا دورا رياديا آخر قد لعبه النقد في عدة أحيان بان يكون سابقا وموجها للنص لا تاليا له كما هو معروف عن دوره التقليدي . فكيف بنا إذا تعطل هذا الدور الهام والخطير أو تعرض هو أيضا للتخريب ؟

إن الشللية والتعصب الأعمى لفكر بعينه أو شخص بعينه لأسباب لا تمت إلى الأدب وطبيعة ومستلزمات الدور النقدي هي بلا شك أمراض يعاني منها النقد الأدبي العربي ، ولا تصبح هذه الفئوية فردية أحيانا بل إنها تتعدى ذلك لتدخل في إطار مؤسسي كامل تصبح معها الأحكام المسبقة نوعا من النماذج الجاهزة للاستخدام الفوري وبتفويض مسبق .والأمر لا يحتاج إلى كبير عناء للوصول إلى هذه الحقيقة التي تكرست أصبحت علامة فارقة على جسد الإنتاج العربي الأدبي.

أما من جهة أخرى فان قسما كبيرا ممن يدعي انه يمثل النقد حاليا لا يمكن أن يقبل كمتدرب حتى لدى ناقد مبتدئ في هذا المجال ، فما بالك إذا ما تصدر واحتل تحت ثقل أدوات لا تمت إلى طبيعة الموضوع بصلة مكانة متقدمة في مزادات النقد .؟
إن ذلك بلا شك سوف ينعكس على واقع الأزمة تدميرا .

ولا يمكن لنا أن نهمل مسالة تصدي بعض من النقاد العرب للنقد متسلحين بنظريات وعدد افتتنوا بها لمجرد أن الغرب أو الشرق قد استخدمها ، فتراهم ينشطون في إشهارها بوجه النصوص العربية ولا ندري اهو من قبيل الإرهاب أم التنطع الفارغ و انسحاب جملة الهزائم التي عاشها ويعيشها المشروع العربي إجمالا في عدد من القضايا الحساسة منذ فترة ليست بالقصيرة .

ثالثا : الأسباب الخارجية

يعمد كثير من المتحدثين هذه الأيام من المثقفين والسياسيين والصحفيين وغيرهم إلى وصلة جديدة قد أحبوها مؤخرا يتحفوننا بها صباح مساء حتى تسربت إلى الجمهور أيضا فاصبح منهم من يرددها . إنها تلك الوصلة التي تقول انه لا يوجد عنصر خارجي يؤثر في حياتنا منذ أمد بعيد . أو بعبارة أخرى إن أخانا هذا –أي المتحدث- لا يؤمن بالتفسير التآمري للتاريخ ولا للأحداث ولا إلى شيء ما . إن متحدثا كهذا إما أن يكون قصد مثلا انه لا يؤمن بان العنصر الخارجي موجود في كل صغيرة وكبيرة وبالتالي هو قد صدق ولم يوفق في التعبير ، فكان عليه أن يحدد ويوضح فيقول ليس دائما عنصر خارجي هو السبب في قضية بعينها ، وإما أن يكون من هؤلاء المعممين والمجملين عن قصد فهو أداة من أدوات هذا العنصر الخارجي أو عن غير قصد فهو جاهل بحقائق التاريخ والجغرافيا والحياة ومصالحها والأمم ومسيراتها ولنريح أنفسنا بالحياة جملة وتفصيلا.

ماذا يمكن أن يقال عن محاولات تركيا مثلا استبدال اللغة التركية أيام حكمها للمنطقة العربية باللغة التركية ؟ أو فرنسا في المغرب العربي ومحاولاتها المستميتة للوصول إلى هدف مشابه ؟ بل حتى قيامهم لاحقا بتشكيل ما يسمى بالفرانكوفونية؟
أو محاولات الكيان الصهيوني لعب مثل هذا الدور في فلسطين ؟

والأمثلة على محاولات الدول والحكومات المستعمرة سواء لدينا كعرب أم لدى الشعوب الأخرى كثيرة ، وهنا نحن قد قمنا فسلطنا ضوءا على الدور المكشوف والمعلن على المستوى الرسمي ، لكن أدوارا أخرى تلعب على المستويات المؤسسية في هذه الدول قد تكون اكثر خطرا وفتكا أيضا لطبيعة سريتها وعدم الإفصاح عنها . إن أدوارا قد تقوم بها جامعات معينة أو مثلا أفرادا من وزن بعض المستشرقين وجزء لا باس به منهم من الصهاينة سيكون خطرا أيضا ، لا بل إن بعضا من الأبواب الخلفية لأجهزة استخبارات معينة كالأمريكية مثلا ودورها المكشوف في قضية مجلة شعر مثلا هو دالة من ضمن عدد من الدوال الأخرى .

إن استخدام حتى بعض المؤسسات الدولية في غطائها الدولي كاليونسكو مثلا قد يصبح اكثر فاعلية في تمرير مخططات بعينها ، ولا تحتاج إلى أن يسافر إلى جامعاتها مثلا موفدي بعض الجامعات العربية ليأتونا وقد تشبعوا حتى النخاع بعدد من النظريات والأفكار حول أدبنا العربي الذي لا يصبح مميزا معه هذا الموفد إلا إذا درسه في السوربون مثلا اليوم وربما في المستقبل في الجامعة العبرية نفسها ؟! اعتقد جازما أن إنكار عوامل خارجية بعينها وتأثيرها التالي على الحياة العربية جملة وتفصيلا وفي مختلف الميادين وبضمنها الأدب والشعر والصحافة وغيرها هو إنكار للواقع تماما .

ونحن سنكتفي عند هذا الحد من سرد لهذه الأسباب والعوامل التي تشكل ولا شك سيفا مسلطا على الشعر العربي وتبين لاحقا طبيعة هذه الأزمة التي يمر بها هذا الشعر وهذا الأدب قبل أن نتابع إلى الورقة الرابعة وهي تتعلق بقصيدة النثر العربية .

- الورقة الرابعة

مسائل حول "قصيدة النثر العربية "

لعل كثيرا من الاختلاف أصبح فيما يبدو متوقعا دائما حول الشعر والقصيدة على مدار العصور ، والمدهش دائما أن الاحتداد ودرجة التوتر المصاحبة لهذا النوع من الممارسة الأدبية هي عادة في درجاتها القصوى، مع ما يتبع ذلك من تشنجات وردات أفعال قد لا تتيح كثيرا من العلمية والدقة في تناول المختلف عليه بهدوء وروية يفضي إلى فك الاشتباكات الحاصلة جراء طريقة التناول هذه وطريقة النظر في حيثياتها وما يتعلق بها، بحيث أصبحت النتيجة المعلومة سلفا هي التحزُّب المفضي إلى معارك مضنية قلما استفادت منها حركة الأدب وخاصة العربي منها ،ولربما باستثناءات محدودة حيثما وجد من يعود إلى مستوى الهدوء المطلوب بعيدا عن التشنجات وفي الوقت الذي يكون فيه الدرس النقدي الحقيقي حاضرا بعلمية ومنطقية وانفاتحية لا جزءا من هذا الاختلاف ولا مكملا لمراحله وصوره.

والملاحظة الثانية التي ترد إلى الذهن مباشرة أن مرات قليلة أمكن النفاذ إلى استخلاصات بعينها بعد أن ينجلي غبار التطاحن وأنه ربما كان قليلون هم من يهتم بالحصول على هذه الأستخلاصات جزءا من عملية تقييم تكون أداة في خدمة التقويم المفترض لما هو متوقع قادم من خلاف ، بل إن المضحك المبكي أن ذات المنهج وذات المآل عادة هو مصير هذه المعارك وبنمط من التكرار والنسخ العجيب حتى غدا مفترضا ومتوقعا، حال كثير من الأفعال في مجالات أخرى تهم الثقافة العربية والمجتمع العربي بشكل أكثر اتساعا يماس الحقيقة المدركة المعاشة ، ولعل هذا النسخ العجيب قد يشهد أحيانا ذات الأبطال لذات الرواية الناهضة بأداء ذات الدور مع ما يستلزم من تغيير الشكل الخارجي ومتعلقات الرواية القابلة طبعا للتغيير لانتقال الموضوع فقط ولكن العقلية والأداء والطريقة المسجلة حصرا لا تتغير.

أما الملاحظة الثالثة فهي الرفض المطلق للحيادية والتوسط بين أي من الفريقين المختلفين ، إذ لا بد من القطبية قصرا ووجوبا ولا يحتمل الأمر لدى فرقاء النزاع مجرد القبول بفكرة الحياد من أي كان صدقا لا توهّما وهم بذلك يبنون موقفهم هذا على افتراضات غير صحيحة تبنى على مستبقات من الأحكام هنا وهناك ، وهكذا تفقد الوسطية والحكمية دورها كثيرا في مثل هذه النزاعات لوجود هذا الرفض المسبق من كلا الطرفين لهذا الدور الفاعل والمستوجَب بداهة ، بل إن مثل هذا الرفض لهذا الدور من قبل بعضهم ربما قاد لاستقالة الوسطية نهائيا من المشهد وعجّل في أن تؤول النتيجة إلى ثأر مزمن لا أمل فيه ، ثابت ثبات السكون العضال وتخسر بذلك الثقافة العربية والمجتمع العربي فرصة لتجديد أو تغيير حقيقي مع ما يبشر به ذلك لو تم فعلا من أفق ومستقبل أفضل .

إن العرب كما عُرفت أمة قول وأصحاب كلام وربما كان هذا سبب إضافي لتكون مثل هذه المعارك الثقافية على أعلى ما يتُخيل لها أن تكون عندهم وتستدعي بؤرة عالية الشدة واهتماما ملحوظا بالتالي من المراقب ، كما وأنها تمرّر انعكاسا سريعا وحادا أثناء الاشتباكات بل وقبل النتائج في مرات كثيرة على المجتمع ذاته أي المتلقي العربي ، وهذا ما يشكل الملاحظة الرابعة في هذا المقام والذي يجعل ما تقدم في ثقافتنا العربية غيره في ثقافة الآخرين مهما كان نوعها وأيا كانوا هم وفي أي زمن كان.

إن الصيغ المنتهية تماما لدى الثقافة العربية والأدب العربي المكتوب المنطوق لا تتعدى ما عرف من نثر أو شعر حتى إذا جاء الإسلام أضاف تحديا حقيقيا لهذه الأمة بالقرآن الكريم ، فلا هو بالشعر ولا هو بالنثر المعلوم ، وقد وضع القرآن الكريم منذ البداية علامته المميزة تلك بنفسه من خلال الآيات القرآنية الكريمة التي أتت موضوعا لإعلان هذا التميز من خلال التحدي الأكبر لأمة كان شامة جنسها القول وفنونه ، وهكذا حسم القرآن المسألة لنفسه فأبقى دونه الشعر والنثر من غير جلبة كبيرة ، وتتالت العصور ورأينا أن جنس الشعر هو ما تعرض لكثير من الخلاف حوله وليس النثر من جهة ، إضافة إلى أن درجة هذا الخلاف ومستوياته كانت دوما الأعلى والأكثر جلبة وحدة في الشعر منه في النثر ، ولعل الحديث الشريف وهو من النثر أيضا قد أغرى بعضهم بتحريف بعضه أو التغيير فيه ورغم ذلك أمكن ببعض النظر الدقيق التمييز بين الأصل والمدخل عليه أو المنسوب له .

ويحار المرء عند هذه الملاحظة ، لم الشعر دائما ؟ ويبدأ في البحث عن أجوبة تشفي الغليل ، ترى هل ما كان من ذلك مرده إلى أن العرب قدمت الشعر وعدته ديوانها الأوحد واحتفت بشعرائها أيما احتفاء أكثر مما فعلت بناثريها ؟ أم أن الأمر عائد إلى أن النثر لم يكن يوما يستجلب كثيرا من الانتباه الخاص نظرا لكونه في نهاية الأمر هو ذات المستخدَم اليومي إلى حد كبير دون عناء أو كلفة وذلك قبل أن يصيب اللسان العربي الخلل والعلل فيما انبسط من زمان نتيجة التحولات العميقة بعد الفتوح العربية الإسلامية واتساع الدائرة بمن وفد من غير العرب إليها ؟ والعجيب في الأمر أن هذا النوع من الاختلاف لم يخف حدة لهذا السبب الأخير رغم كون هؤلاء الوافدين الأكارم على العربية والإسلام لم يكن لهم في مظاّن ثقافاتهم الأصلية ذات الدرجة من تقديم الشعر ربما على النثر من جهة أو حتى من إعطاء فنون القول أصلا هذه الأهمية التي كانت عند العرب ، فكيف كان تفسير امتداد ذات الآمر بينهم وعلى أيديهم ومشاركتهم أنفسهم شعراء ونقاد في كثير من معارك الشعر ذاته ؟

إذن لا يصلح إلا أن يفهم وكأن الشعر هذا مقصود لذاته بسبب مكانته وليس لشيء لآخر وهو الذي يستقر عليه المنطق في الحكم ، ونحن نعلم أن فنون الرواية والقصص إنما دخلت على الأدب العربي أيضا ربما من ذات الأبواب التي دخل منها أنماط الجديد من أصناف الشعر هذا فما أثارت جلبة ولا استقدمت هذا الاحتقان بل كانت سلسة الدخول وسلسة التربع على عرشها وسلسة الوصول إلى مبتغاها إلى حد ما ، فهل يمكن أن نفهم أن أصحاب النثر هم أكثر تسامح من أصحاب الشعر مثلا ! وهل يجوز الاتكاء على هذا الاستنتاج أم أن المسألة تتعدى هذا التبسيط لأن الموضوع هنا يتعلق بنمط تام الخلق ومميز الحدود منذ البداية ولم يشحذ أيا من رماحه مدعيا الحلول أو يسلك طريق الاستقصاء أو أعمل في هدم ما قبله متحديا فدخل آمنا سالما وانتهى غانما مكرما بينما الأشكال أو الأجناس الشعرية التي دخلت من ذات الباب قد دخلت شاهرة سيفها معملة القتل وواعدة بالتقتيل مما خلق هذا الوضع وافتعل الأزمة كون هذه الأجناس عند دخولها لم تكن مكتملة الحدود ولا تامة الخلقة لتنهض بذاتها فأرادت من باب التعويض اللجوء إلى العنف تغطية على هذا العامل الذاتي ؟

على أي حال فإن الواقع يقول أن هذه الأجناس الجديدة وموضوع هذا المقال هنا ما أطلق عليه أصحابه تسمية "قصيدة النثر العربية " قد أصبحت لا شك ضمن دائرة الوجود منذ ثلاثين أو يزيد وبالتالي فإن لا مندوحة عن تناول هذا الوجود بالرؤية والمتابعة ، وقد وجدنا أن أفضل السبل إلى هذا الموضوع أن يكون منهج الرؤية حياديا منذ البداية مع الإصرار على استبعاد الرأي الذاتي والمستبقات من الآراء والأحكام ، وقد تسنى لنا أن نخرج من هذه المطالعة وجزء كبير منها اعتمد على ما توفر من عدد من المواقع العربية إضافة إلى الاستعانة بأصول الكتب ذاتها إن وردت بعدد من الملاحظات أردنا أن تكون على صيغة مسائل تفتح المجال للنقاش لا أن تكون على شكل خلاصات نهائية ، وقد ظهر لنا أن أهم المسائل التي نراها حقيقية حول قصيدة النثر العربية ما يلي:

1- ضبابية المصطلح وهلامية المفهوم.
2- إشكالية الوعاء والحدود.
3- التباس النقد.
4- انفصالية المسار.
5- الزمانية والثقة.
6- الاشتباك الاجتماعي.

ضبابية المصطلح وهلامية المفهوم
أما هذه العلامة المميزة فنحن وجدناها حقيقة على أيدي منظري هذا التمرين الأدبي ، فلم يكن ممكنا الوصول إلى مصطلح محدد بذاته متفق عليه لديهم بل اتضح وجود اختلاف لافت وخلاف حاد بل والإصرار على عدم السعي حتى لإزالة مثل هذا الاختلاف ، وهناك من أبدى تحفظه على الاصطلاح بداية وعدّ أن جزءا هاما من سبب المواجهة التي حدثت مع الفريق الآخر كان نتيجة التسمية ذاتها التي تقدم إليها أدونيس في مجلة شعر صيف عام 1955، كما أن هؤلاء المعترضين المحتجين يرون أيضا أن هذه التسمية ذاتها قد أدت إلى إعاقة مسار المسمى وأدخلته إلى معركة لا داعي لها وصرفت جزءا من الشغل النقدي إلى التسمية بدلا من الموضوع ذاته ، وهم يرون أن الاستعجال وعدم الدقة في التسمية هو السبب بل ينظرون إلى أن التسمية ذاتها مسألة هامشية ما كان يجب أن تأخذ هذا الوضع"1".

وإذا كان هناك من معترض على التسمية فإن هناك من زاد فاعترض على المصطلح ذاته وهو حقيقة أبعد أثرا من مسألة التسمية فعلا وأجدى بالنظر رغم أن التسمية هي أيضا جزء ذو مكانة موحية على الأقل بسلامة المصطلح "2"، وقد امتد هذا النمط من التمايز ليصل إلى اختلاف حول من صاحب المصطلح ذاته ومن هو إمام هذا اللون ، فعدد من المنظرين يرون أن سوزان برنار في كتابها "قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن " هي أساسا صاحب المصطلح ومن وضع شروط هذا النمط عبر الثالوث "الإيجاز- التوهج-المجانية" وإنما قام أدونيس بدور النقل والترجمة وآخرون يرون أدونيس وقد استخلص هذا من مقدمة ذات الكتاب وعدَّه من اجتهاداته ، كما ذكروا بأن أنسي الحاج مثلا نقل ذلك حرفيا عن كتاب سوزان المذكور."3" بينما ثار أنسي على ذلك في مقابلة معه نشرتها أخبار الأدب قائلا " أنا صاحب أول وثيقة في قصيدة النثر المكتوبة بالعربية ديوان (لن) هو الكتاب الأول المعرف نفسه بقصيدة النثر والمكتوب بهذه الصفة تحديدا.. والمتبني لهذا النوع تبنيا مطلقا " *، وقد ذكر الخصائص أيضا موريس شابلان في أول أنطولوجيا عن قصيدة النثر بأنها ثلاث "الإيجاز-التوتر-الجزاف" حسبما يرى عدنان صائغ."4" .

وقد بدا واضحا أيضا أن الخلاف واقع حول من كتب هذا اللون أيضا فنسب البعض منهم إلى الشاعر الأمريكي والت ويتمان ذلك وقال به رائدا لهذا النمط بينما صحح الآخرون أن ويتمان هذا إنما هو علم لقصيدة التفعيلة أو السطر الشعري كما نسميها وأن هذه القصيدة أي التفعيلة أو الحر Free Verseبحسب نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر " إنما كتبها أيضا على ذات النسق أردن وإليوت بينما هذا النمط المختلف عليه أي قصيدة النثر أو Prose Poem إنما كتبت على يد آخرين وليس ويتمان من أمثال ربما بودلير ورامبو ومالارميه ."5".

لقد توسع الخلاف حينما انتقل من التسمية والمصطلح إلى المفهوم ومرتكزاته واحتدمت المسألة حينما بدأت تتناول هذه الأجزاء لترى رأيها فيها ، فهل السرد مقبول أم غير مقبول في هذا النمط ؟ ثم أيضا هل الفوضى المطلوبة والمصاحبة للنثر مطلقة أم لا بد من حدود لها تفرضها قوانين الشعرية المنظمة ؟"6" وكيف يجب أن يتم المشترَط من اللا عقلنة واللامفهومية مع ضرورة وجود المرتكز ؟ وماذا عن درجة الرمز ونوعه وسماته وهل الغموض مطلب أم معبر ؟ وكيف يمكن حل إشكالية ضرورة الانتقال من حاجز اللغة نظرا لمبدأ الهدم من أجل البناء بينما اللغة ضرورة أصلا لتكون القصيدة ؟ طبعا كانت قضية الوزن أساسا والقافية وتأمُّل التعويض بالإيقاع الداخلي وأثر الصورة وحديث كثير حول دور التجربة في تشكيل الإيقاع وهل هو عام أم خاص ؟ وغير ذلك من القضايا الرئيسة التي تجدها بمثابة المدخل الخارجي في الحوارات والاختلافات ، ويزداد الأمر تعقيدا في تناول مواد أخرى من نمط الغرائبية والسوريالية والعبثية والدعابة السوداء وقضايا الجمالية والحداثة والعلائق مع قصيدة النثر.

وهكذا فإن ما يخرج به المرء جليا هو أن لا شيء محدد حول هذه الجزء ولا زال دون التوفيق بمسافة واضحة وهو الأمر الذي دعا بعض منظري قصيدة النثر أن ينادوا بالحاجة إلى كتابة جديدة لقاموس أدبي وبلاغي محدد ربما للهروب من هذا الواقع الخلافي الكبير وإن ظهر على أنه دعوة لتوضيح المشتبه وتمييز المتشابه ."7"

إشكالية الوعاء والحدود

لعل الخلاف في هذه المعضلة القائمة الدائبة له ما يبرره عمليا طالما أن قصيدة النثر أصلا قد خلقت لنفسها جراء الرغبة في التصادم المبكر مع اللغة حاجزا عنيفا ، ومن خلال رفع شعار الهدم والبناء في اللغة والتناقض الحاد مع اللغة ذاتها حصل تناقض غير يسير الهضم ،ذلك أنه في الوقت ذاته الذي تشترط في " الينبغيات " كما يقولون هذا الشرط المسبق في الخروج على المألوف من اللغة فهي لا تنفك بحاجة لهذه اللغة إطارا ووعاء، والعملية ذاتها عملية الهدم والبناء المرفوعة شعارا إنما تتم على اللغة قبل أي شيء آخر"8" ! .

والإطار أو الوعاء أو اللغة المختلف عليها مشكلة حقيقية قطعا أمام حقيقة كون هذه هي نفسها الأداة الموصلة في النهاية لكل من فنون القول أصلا فلا يصح القول عن بدائل للجانب الصوتي كما حاول البعض من وجهة نظرهم الخروج من هذا المأزق عن طريق القول بالقصيدة "الدلالية" ويرد على ذلك محمد الصالحي وهو كاتب وناقد من المغرب بالشقيق بالقول" ويبدو اقتراح تسميتها "قصيدة دلالية " لكونها تستعيض عن الجانب الصوتي بالجانب الدلالي ، ولكون الجانب المعنوي فيها أبرز وأظهر، اقتراحا يزيد الطين بلة لأن المعنى وحده لا يصنع القصيدة ولأن المعنى في الشعر لا ينقل إلا من خلال اللغة ، أي من خلال الصوت" 9"، ولا أعتقد أن القصيدة هنا يمكنها مثلا الاستعاضة بالبصر والممارسة البصرية لأنها في النهاية قطعا هي ممارسة صوتية خالصة سواء كانت صامتة ذهنية أم منطوقة مسموعة ، ولذلك ما سيتلو لاحقا بالتأكيد من أثر مسائل الإنشاد والنبر والتنغيم .
وبالإضافة لمسألة اللغة فإن هناك مسألة كاليغرافية أو شكلانية تتعلق بالشكل الكتابي ذاته حيث عرّفت موسوعة برنستون للشعر قصيدة النثر بأنها " تأليف له بعض أو كل ما للقصيدة الغنائية القصيرة من خصائص مع استثناء واحد هو أنها تطبع على الصفحة كما يطبع النثر " وهو ما يشير من جهة ما إلى أهمية هذا الشكل الكتابي لتحديدها بينما لا يرى آخرون أن شكل الكتابة له ما يمكن الاتكاء عليه من الناحية الواقعية بل هو صيغة وسيطة كتلك التي تنتج أثناء التفاعلات الكيميائية وتكون غير مستقرة فإما أن تعود إلى وضعها الأصلي وإما أن تخلق شكلا جديدا تماما "10".
ومسألة اللغة تعرضت بالذات لهجوم حاد من قبل عدد من النقاد والباحثين كما فعل د.إبراهيم السامرائي في كتابه "البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر وقد استجلب فقرات عديدة من كتاب أدونيس "الثابت والمتحول" وكذلك عددا من نصوصه ليحاكم من خلالها "جهل " هؤلاء التام باللغة أصلا – على حد قوله- وليس فقط من خلال أخطاء التراكيب اللغوية و الدلالات وقواعد النحو والصرف بل حتى من خلال الإنقطاعات في داخل التراكيب ذاتها واستجلاب المحكي والعامي والمحاولات التي وصفها بالفاشلة للتفصيح"11".
وإذا كان ذلك هو اعتراض من الخارج فثمة قلق كبير أيضا من الداخل حول مسألة عن أي لغة نتحدث هنا ؟ ، وكيف نمسك ببنية إيقاعية مثلا في مبحث البحث عن بديل الوزن الخارجي لنص ذي شكل جديد في الوقت الذي لم نحدد إطارا ولا لغة لهذا الشكل الجديد بعد كما يرى الصالحي في ذات المطالعة .
وبالتأكيد لا يجب أن نهمل أن خلافا واسعا يدور ضمن هذه الحدود والإطار عندما يتطرق الحديث لمسألة الأدوات من خيال ورمز والإيقاعية كل ذلك طبعا بالإضافة إلى موضوع الوزن والقافية أساسا ضمن هذه الحدود والمحركات والمصادر في محاولة تفسير الشاعرية بالرؤيا ونسيج اللاشعور والعقل الباطن ودورها في إنتاج قصيدة النثر ، أقول الاختلاف حول جميع ذلك أوضح من أن يتم التجاوز عنه أو غض الطرف .

التباس النقد
هذه المسألة هي نتيجة واقعية لحقيقة الخلاف أصلا حول النص ذاته وهي تحصيل حاصل ، فمادام النص ذاته لم يتجاوز بعد الحدود القاطعة في التأصيل والإصطلاح والهيكلة فكيف نتوقع درسا نقديا صافيا غير ملتبس ولا مضطرب ؟ قطعا هذا غير ممكن ولقد شهدت بذلك قصيدة النثر إزاء مسألة النقد حدثا فريدا كونها تواجه أولا هجوما من فريق الناقدين المعترضين أساسا على الشكل الحديث للقصيدة بعامة وهم الذين لم يفصلوا النثر عن قصيدة السطر الشعري في محاربتها جميعا والقول بأنها من لغو الحديث لا أكثر ولا أقل وهي مجرد هروب من صعوبات بعينها في قصيدة البيت الشعري " العمود" من نمط التركيب الموسيقي وزنا وقافية وإيقاعا وضوابط اللغة وفنونها الموروثة مما علمناه ووصل إلينا من الموروث وعدم القدرة على خوض غمار التحدي الحقيقي داخل هذه المنظومة بالهروب إلى ما هو خارجها دون قيد أو ضابط ."12" إضافة إلى من هم في صف شعر السطر الشعري ولا يتقبلون هذا النثر المشعور أو المدعي حسب ظنهم شيئا لا يملكه من جهة ، ومن جهة أخرى بعض نقاد قصيدة النثر ذاتها فيما بينهم أنفسهم فكان هجوما نقديا متعدد المصادر.
أما نقاد ومنظرو قصيدة السطر الشعري فقد اصطفوا في مواجهة قصيدة النثر بقوة ومعلوم رأي الشاعرة نازك الملائكة في رفضها المطلق لقبول قصيدة النثر على أي اعتبار خارج كونه نثرا عاديا لا أكثر ولا أقل بل وذهبت تواجه منطق التسمية ومنطوق النمط ذاته في كتابها فتقول" ويفتح القارئ تلك الكتب متوهما انه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والإيقاع والقافية ، غير أنه لا يجد من ذلك شيئا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر"13" وكما هو معلوم فإن هذا إنما كان في أول الأمر الذي ظهرت فيه النماذج الأولى ولم يتوقف قطعا مثل هذا النقد بل ربما هو رفض مطلق أكثر منه نقدا وإذا كان ذلك أول الأمر فإن عددا من المقالات لا زالت على ذات المنوال الرافض الصلد حتى أن هناك من انبرى ليشتق تسميات جديدة مثلما ما فعل الباحث محمد الصواف كي يبعد به شبح الشعرية عن هذه النصوص فيسميها "النثعيرة""14" .
وطبعا طيلة الفترة الماضية وجدت عددا من الشعراء والنقاد ممن ينتمون إلى هذين الفريقين في مواجهة القصيدة الجديدة ذاتها كما حدث مؤخرا بإشعال معركة حامية الوطيس من على صفحات الأهرام القاهرية تقدمها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي"15"وهو قطعا لم يكن آخر الشعراء المؤيدين والمناصرين لأي من النمطين الأولين في مواجهة هذا اللون الجديد.
أما في داخل المعسكر المؤيد لقصيدة النثر فقد وجد من لمح إلى المعضلة النقدية هذه وربما عمم القول ليجوز إلى الشعر المعاصر ليدفع بذلك شبهة الخصوصية في هذا المجال مثلما أشار الأستاذ محمد اليوسفي من تونس الشقيقة في مطالعته عن "أسئلة الشعر ومغالطات الحداثة - إن قصيدة النثر، بما يثيره حضورها بيننا من تصدعات ، إنما تضع الخطاب النقدي في حضرة ما داخل أطروحاته ومسلماته من مغالطات جعلته عاجزا عن الإحاطة بما يعتمل في صميم النصوص وأصقاعها من صراعات وتحولات "، وقد استحضر اليوسفي أيضا لمحمد بنيس قوله " انظر أيضا ما يقوله محمد بنيس في الموضوع . يذهب بنيس إلى أن "قصيدة النثر ليست أساسية في الثقافة العربية". ثم يستدرك قائلا الجيل الجديد الذي يشتغل على قضية النثر هو بالنسبة اقي أكثر وعيا بقضايا قصيدة النثر، وبقضايا اللغة. ولذلك فان هذه القصيدة الآن تشتغل بذكاء ومعرفة . ولكن أخشى أن تكون غير واعية بأن الحدود بين ما يسمى بقصيدة النفر وقصيدة التفعيلة هي حدود وهمية، لأنك إما أن تكتب القصيدة أو لا تكتبها"."16"
ولوحظ في مرحلة من المراحل اشتباها بعودة بعض من شعراء قصيدة النثر مؤخرا للاقتراب من واحة قصيدة الشعر السطري "التفعيلة" أحيانا وزنا كما لاحظت ديما شكر في مقالها المنشور عن سركون بولص في الملحق الثقافي للنهار البيروتية "لعل في خيارات الشاعر بالاقتراب هكذا من قصيدة التفعيلة ما يفتح المجال لمساءلة قصيدة النثر إلى أين تتجه. يبدو إنها تتجه إلى آن تشارك هي أيضا باستنفاد ما في البحور العربية من إمكانات هائلة، إذ لا ريب أن النظر اليوم إلى الوزن كأداة للإيقاع كف عن اعتباره مفرطاً بالموسيقى والطرب، بل يمكن القول أن البحور الخليلية تحمل اليوم أيضا كل ما يلزم كي يكون الصوت خافتاً وهامساً بل مغرقا في التغريب إذا شاء الشاعر، وعاليا جهوريا إذا أراد. وله أن يقارب الموضوعات التي يريد بحرية ضمن القيود (كما درجت تسمية البحور الشعرية على يد شعراء قصيدة النثر) التي تفرضها هذه البحور " 17. بينما هناك في دعوة شاكر لعيبي في مقابلته مع موقع إبداعات عربية* بالعودة إلى استخدام القافية والإصرار عليها في قصيدة النثر ضمن تجربة خاصة به ما يثير ذات السؤال على حافة هذا الموضوع بحيث يبدو وكأنه نكوص إلى ما تم إنكاره على قصيدة الشعر السطري أولا فكيف يصبح الآن اكتشافا ؟ هناك في أصل المطالعات النقدية السابق ذكرها ضرورة أن تكون قصيدة النثر منفصلة عن كل ما حولها تماما قائمة بذاتها غير محتاجة لغيرها واليوم نجد حديثا مختلفا قليلا يحق لنا معه مثل هذه التساؤل حول حقيقة ما يحدث ومثلا لدينا الآن حديث حكمت الحاج التالي في مطالعته" البيان الأخير ضد موت قصيدة النثر العربية" قصيدة النثر العربية ليست قائمة بذاتها، إذ أن لعلاقاتها التجاورية مع الأنواع الأدبية والفنية الأخرى أهمية تذكر. إن جنينا سرديا [هو رغبة مكبوتة في القص والحكي] يتَخَلَّقُ دائما في رَحِمِ كل قصيدة نثرٍ عربية أصيلة"18.
هناك جلبة كبيرة تؤكد هذا الالتباس النقدي ويمكن مثلا في مصر التأكد من ذلك بيسر من خلال ما أوردته بيان الثقافة في حوارها الذي نقلته حول قصيدة النثر في مصر مع عدد من الشعراء والنقاد "19" وكذلك في لقاءات ومقابلات مختلفة تلمس فيها هذا القلق على مستقبل اللون ذاته "20" وليس فقط مجرد التباس نقدي ولعل صمت عدد من النقاد الأعلام عن تناول ما يحدث كما أشارت أرابيا مثلا في تقريرها من القاهرة بقولها "أما الدكتور جابر عصفور، أبرز نقاد مصر اليوم فقد اتخذ موقفا عقلانيا من القضية فلم يهاجم قصيدة النثر على رغم قوله إن نحو 90 في المائة من قصائد النثر رديئة"21.يثبت أن هناك جلبة كبيرة فعلا.
انفصالية المسار
إن تضاربا كبيرا نشأ حول مصدر هذا اللون بين عدد من الشعراء والنقاد أنفسهم ممن تحمس لهذه القصيدة أو حتى ممن تصدى لها ، ففي حين كان موقف أنصار البيت الشعري أو ما يحلو للبعض دعوتهم بالكلاسيكيين يصّرحون بأن هذا اللون كغيره مما سبق من نمط قصيدة السطر الشعري "التفعيلة" إنما هو نجتلب من خارج العربية بالتمام والكمال نتيجة الترجمة والإطلاع على الآداب الغربية كما أكد مثلا د.إبراهيم السامرائي في كتابه البنية اللغوية في الشعر العربي والذي نقتبس منه قوله " وأخلص قائلا مع القائلين أن حداثة هؤلاء عمل حيك على منوال جماعة غربيين هم أصل الإيحاء وأن أصحابنا الذين لم يوح إليهم مقلدون وشعراء بإلغاء هويتهم طواعية واختيارا بفعل هذا البريق الغربي الذي خطف أبصارهم " 22 وأشار أيضا لذلك غير مرة د.شوقي ضيف في مصنفاته الأدبية ود.مصطفى الشكعة وغيرهم كثير ، فإن منظري قصيدة السطر الشعري "التفعيلة" وعلى رأسهم نازك الملائكة قد اجتهدت في كتابها "قضايا الشعر المعاصر لتؤكد أن الصنف الذي دعت إليه له ما يبرره من رحم الموروث واستعانت بنماذج للبند العراقي كما بعروضية الشعر ذاته لتؤكد إنما الحرية التي نادت بها لا تعدو حرية توزيع التفعيلات في السطور لا أكثر ولا أقل وبنظام صارم لا يتجاوز ما حددته نظم الخليل لمجموعها في البيت الواحد ، وحينما أرادت الحديث عن قصيدة النثر انبرت تؤكد مرجعاتها الغربية ودعوتها الغريبة كما جاء في كتابها ذاته "ص153 .
وقطعا هناك ما لا يمكن حصره من الأدلة التي أوردها أصحاب النظرية أنفسهم منذ البداية دون حاجة لإنكار بأنه إنما دخل من الباب الفرنسي ومن نافذة برنار كما تقدم بينما نجد مثلا في موقف مضاد من حاول أن ينفي هذا الأصل الغربي بدعوات تأصيل لهذه القصيدة في الموروث العربي ذاته واختار مثلا كما يقول د. عبد العزيز المقالح " أساس قصيدة النثر هو الموروث الصوفي والإيقاع القرآني " ! وهناك من كان من المتحمسين لهذا الطرح آخذا على عاتقه مهمة إثبات هذه الصلة بين ابن عربي وقصيدة النثر ونقتبس من مقابلة لمحي الدين اللاذقاني التالي "ويمكن تلمس جذور قصيدة النثر في طواسين الحلاج وكتابات ابن عربي وخطابات النفري ومواقفه. لقد أهملنا هذه المؤشرات الواضحة وبحثنا في التراث الغربي, ثم جاء ذلك المصطلح المشبوه (قصيدة النثر) فاكتملت أخطاء عدم الثقة بالنفس بأخطاء الاستعجال"23 ولا شك أن أدونيس وسركون بولص وعدد كبير لن يسعدهم مثل هذا القول فهم غير مستعدين لتعديل أقوالهم الأولى في هذا الشأن ، أما اللافت العجيب فهو ما ورد في مقال لضياء خضير في دراسة من منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق بعنوان " شعر الواقع وشعر الكلمات " حيث ينقل عن برنار قولها "وسوزان برنار تقول إنه: عبر الترجمات قام الكتاب الفرنسيون بأولى المحاولات في قصيدة النثر التي تختلف عن الرواية وعن الكتابة الملحمية "24 .
وحتى إثبات ذلك فإن الأمر لا زال على حاله من تأكد وجود ما يحقق العلاقة العضوية والجنينية مع الرحم الغربي دون عناء كبير ، ولكن الأمر هنا يفترض سؤالا هاما بعيدا عن محاولات "الشرعنة" والتأصيل من باب الموروث وهو التالي ، لو سلمنا جدلا بأن لهذا القول ما يبرره ويدعمه فلا فلماذا لا نرى انفصالا حقيقيا في مسار قصيدة النثر العربية عن مسار قصيدة النثر في غيرها من الشعريات وخاصة الغربية ؟ ولماذا نرى إلحاحا على تعلّق قصيدة النثر العربية بكل ما هو في المسار الآخر وعزوفها عن إثبات ذاتها في مسار منفصل عربي حقيقي ؟
الشاعر قاسم حداد يورد على سبيل المثال حلا لقضية التأصيل هذه بالإحالة على الشاعر ذاته فيقول" ثمة خلل في الصدور عن إحساس بضرورة تأصيل كل ظاهرة فنية لمرجعية محددة، كأن تكون الكتابة، خارج الوزن، معطى منسوخا عن تجربة - قصيدة النثر الغربية، أو أن يكون لهذه الكتابة أسلاف في التراث العربي، مثل هذا التعاطي لم يعد مقبولا ولا جديرا بالمزيد من البحث فلا عقدة سلطة النص الأول/ التراثي، و لا عقدة النص الآخر/الغربي، يمكن أن تسعفا كتابة تتخل ق كل يوم إن الشاعر (كذات) هو المصدر الوحيد لما يمكن أن نسميه تراثا يولد الآن، فربما كانت .الأصالة هي أن تكون أنت (الأصل) لما تبدع، وباقي الأشياء تأتي فيما بعد"25
ثمة أسئلة عديدة في هذا المجال وتنتظر إجابات وأدلة حقا ، بيد أن اختفاء هذه الإجابات يثير قلقا عميقا دائما حول ما إذا كانت حقيقة كون الانفصالية هذه من باب الاستعارات النافرة والموسميات من المواقف .
الزمانية والثقة
عدة أمور تعرض في هذا المحور منها مثلا أن هذه القصيدة لا زالت في مرحلة التجريب والتجارب ولم يمض عليها زمن ذو اعتبار حتى يمكن معه إثارة الأسئلة الكبيرة حول منجزاتها ومصيرها ، وأن النصوص التجريبية الأولى قطعا لا شك تختلف اختلافا بينا عن النصوص التي تلت مع الرعيل الثاني مثلا من شعراء قصيدة النثر ومهما كان التعليل وأيا تكن الرغبة في التنميط فإن سببا وجيها مرده إلى الزمانية والتجريب قائم لا محالة شاخص كمشروع إجابة دون حرص على مدى ودرجة إقناعه أو حتى اقتناع أصحابه به أصلا.
إن هذه الزمانية ذاتها التي لم تمكّن ربما في ظن البعض الدرس النقدي من المتابعة الحقيقية أمام انفجار النص الموقوت وليس مجرد رفض عدد من النقاد والمتابعين فقط مثلا كرفض سهيل إدريس من زاوية الناشر الرفض التام التعامل مع النص مهما تبدلت الأزمان في مجلة" آداب" أو غيرها مهما تبدّل الزمن وسواء أكانت في مواجهة مجلة "شعر" أم خارج ذلك 26.
طبعا هناك عدد من الشعراء الشباب من لازال يصر على شعار مستقبلية قصيدة النثر ويجتهد في الجري خلف ذلك متحمسا ومتأثرا بمساهمات نقاد يبشرون بالشيء ذاته مثلا ذلك المقال الذي نشرته صحيفة الزمان لياسين النصير نقتبس منها قوله "لا بد من أن ننظر إلي قصيدة النثر بوصفها"نفي النفي" هي نفي للشعر الحديث، الذي كان نفيا للشعر التقليدي، وبذلك لا تعود قصيدة النثر كمطلق إيجابي إلي العمودي والتقليدي، بل تقفز فوق ركام الاثنين لتصبح ابتداءً يحمل في داخله النقيض، هذه البنية الجدلية " مثل ذلك القول هل ينسجم تطبيقيا مع فكرة الخروج التي حدثت بمعنى أنه كان لدينا قصيدة البيت وعندما حدث التخلي عن أسس الوزن والقافية المعروفة نتيجة النقيض الداخلي والتناقض تحصّل شكل قصيدة السطر والآن يتم ليس فقط إسقاط ذلك بل إسقاط اللغة وباقي العناصر كنقيض جديد داخل قصيدة السطر الشعري للحصول على قصيدة النثر فماذا يتبقى بعد ذلك ليقال عنه إن قصيدة النثر ولدت فوق الركام حاملة في داخلها النقيض ؟ أعتقد أن النتيجة التالية هي العودة بالشعر إلى ما بدأ تعابير وحركات وإيماءات ربما ستشكل النتيجة المنطقية للشكل الأولي المستقبلي بعد قصيدة النثر إذا سلمنا بما يقول ياسين نصير تطبيقا مباشرا للجدلية وقياسها مثلا على جدلية التاريخ في مفهوم الماركسية.
أما حول الجانب النقدي فقوله "نريد هنا استذكار أو توثيق ما نذهب أليه بآراء الآخرين فمثل هذا التوثيق أصبح سمة نقدية نقليه يفقد الناقد شخصيته حتى ولو رصف رأيا بموازاة ذلك الرأي.. إننا نحتكم إلي قناعات ذاتية وموضوعية أتت خلال الممارسة القرائية للنصوص وخلال استشراق منهجي يجمع الظاهرات الجديدة ولذلك ليس ما يقوله كمال خير بك أو كوهين أو برنارد أو غيرهم إلا أمثلة لتلك الاستشرافات الذاتية، وعليه فالموازاة النقدية في مثل هذه الظواهر هي المعول عليها في الكشف عن آليات فن واتجاه ونوع لا يمتلك الآخر ــ الناقد ــ الرؤية نفسها للنصوص، بل يمتلك رؤيته المستنبطة من نصوص قرأها هو وعليه فالكتابة النقدية كتابة موازية لبعضها البعض، وقائمة علي الكشوفات التي يستخلصها الناقد بنفسه، ولا بأس أن تكون ثمة دراسة مقارنة أو دراسة تاريخية للنقد شأنه شأن الشعر إبداع لا يقلد ولا يستعير، وإن استعار خرج من دائرة النقد إلي البحث. في ضوء ذلك، ما نقوله هنا، قولنا كله، قولنا المبني علي اقتناص خاص من أن قصيدة النثر قصيدة مستقبلية "27.
بيد أن مثل هذا التبشير لا يحدد رغم ذلك أيا من مرتكزات علمية حقيقية دون أن يتوشح بالتمنيات والآمال ولم يعد مثلا القول بأن هذه القصيدة كما ورد هي نفي النفي وبالتالي لها المستقبل وقطعا إلى حين طالما لو سلمنا بهذه الجدلية على غرار ما نقلنا فإنه إلى حين حتى يكبر هذا النقيض الذي بداخلها لتستمر الجدلية وقانونها فكيف يصير ذلك مستقبلا منتهيا وكفى؟ ربما لم يقصدوا المستقبل التام على غرار تطبيقات نهاية التاريخ مثلا ولكن على أي حال لا زال الأمر غير ناضج قطعا لقطع من هذا القبيل سيما وأن المخاوف والنكوص أيضا له ما يبرره من ذات الواقع نفسه الأمر الذي يطرح سؤالا عميقا عن الثقة بهذه التجربة والثقة بمستقبلها وحاضرها أيضا وهو أمر أقلق مثلا عدنان صائغ كشاعر لقصيدة النثر في حديثه عن اشتراطات النص الجيد وتساؤله – قصيدة النثر إلى أين ؟ نقتبس لعدنان أيضا "فتح ماكس جاكوب وتريستان تزارا وبول ايلوار وغيرهم الأبواب أمام العالم لتجريب الكتابة باللاوعي لمجابهة منطق القرن الشرس الذي أدى بالبشرية إلى الدمار والحروب، فانبرى الكثيرون لتقليدهم بالوصفات الجاهزة مما اغرق العالم ولنصف قرن بطوفان من الكلام الذهني المتكلس المبهم وكلهم يدعون انه حالة من حالات فيض لاوعيهم الشعري، إذ لم يروا في الدادائية سوى إغماض العينين عن محيطهم والكتابة وفق ما تمليه اليد الآلية وتمادى البعض إلى تجريب المخدرات أثناء الكتابة وفي اعتقاده أن ذلك هو من شروط الكتابة الدادائية. متجاهلاً الظروف الموضوعية التي أنتجت الدادائية وغيرها من المذاهب والمدارس الفنية والأدبية الأخرى ،وذلك هو فخ آخر من الفخاخ التي نصبتها قصيدة النثر للكثيرين ممن لم يتمعنوا في ظروفها .
الاشتباك الاجتماعي
هنا تكمن فعلا الساحة الأخطر والمساحة الأوسع لمراقبة المؤشرات الحقيقية الفعالة فيما يتعلق بقصيدة النثر ذلك أن المتلقي يقبع في هذا الركن وما دام أن مآل العمل الأدبي والفني في نهايته بين يدي هذا المتلقي ولا أحسب أن يختلف حول هذا الأمر أحد اللهمّ إلا من هو خارج منطوق الحقيقة ، ولعل نفر من هؤلاء للأسف الشديد قد وجد في ساحة بعض شعراء قصيدة النثر مما خلق فكرة مشوشة عن مجمل شعراء قصيدة النثر ، فقد سمعنا من يدعي الحرص ألا يفهم المتلقي نصه وفي اللحظة التي يحدث هذا الفهم يشعره ذلك بقلق عميق يدفعه إلى التخلي عن هذا النص ونبذه والبراءة منه ، ربما مثل هذا القول محاولة لمحاكاة ما ورد في التراث جوابا لسؤال من سأل لماذا لا تقول ما يفهم ؟ على صيغة ولم لا تفهمون ما يقال ؟ ولكن الفارق كبير قطعا .
ويحضرنا في هذا المقام قول ابن قدامة في توصيف الشاعر " إنما سمي شاعرا لأنه شعر من معاني القول وإصابة الوصف بما لا يشعر به غيره " فهذا لا يجاوز حد فهم الشاعرية ومحاولة إلقاء الضوء على أسباب هذه الشاعرية تفريقا عن باقي أصناف البشر كما رآه ابن قدامة وهو في كل الأحوال لا يجوز ذلك إلى حبس هذه الشاعرية وعدم تمريرها والاحتفاء بأنانية الامتلاك عن طريق تلغيزها ودفعها بعيدا عن هذا المتلقي حتى لا يشعر بما شعر به هذا الشاعر فتكون الممارسة الشعرية في نهاية الأمر هكذا أحادية الإنتاج والتلقي محصورة في ذات الشاعر فقط.!
فهل يا ترى وصلت قصيدة النثر أولا إلى هذا المتلقى ؟ وكيف وصلت ؟ وهل حرص شاعرها وناقدها أن تصل ممثلة له تمام التمثيل ؟ وهل كان حريصا على وصولها مهتما بوصولها على هذه الصفة ؟ وكيف تجاوب هذا المتلقي معها وما كان حظه منها متلقيا وموضوعا ؟ هنا ترد الأسئلة العميقة وتستوجب الملاحظة الدقيقة أيضا ذلك أن هذا المتلقي هو السند الأول للأدب والفن والمنافح العنيد عن حياضه بعيدا عن أي من التأثيرات المصلحية أو المنفعية البحتة والتحالفات المنظورة وغير المنظورة وفق منظور المؤامرات المحتملة على هوامش الصراعات .
ومن المنصف أن يقال أن قصيدة النثر احتفت بجزء هام من حياة هذا المتلقي في صلب اهتمامها ومشروعها وذلك من خلال تركيزها بأنها تطمح إلى التعبير الصادق عن هذا الهامشي واليومي أساسا ويصر شعراء قصيدة النثر على ذلك مثلما يقول لنا مثلا الشاعر حمد الفقيه " لا أوافق على ذلك ، لأن تجربة قصيدة النثر اكثر انفتاحاً على الواقع وعلى الأشياء وعلى الإنسان من أي تجربة شعرية أخرى ..انها اكثر تلمساً لهموم وحركة الإنسان .. اكثر تلمساً لوميض الأشياء" 29 فهو يؤكد أن تجاوز الأيديولوجيا هو تجاوز الظاهرة الغنائية اللغوية لحساب الإحالة اليومية ولحساب الهامشي.
وقد لمس عدد من المطالعين صعوبات ما على صعيد التوصيل والوصول إلى هذا المتلقي فانبرى ليؤكد أن ذلك ليس مرده إلى القصيدة ذاتها بل إلى غير ذلك تماما كما يقول صالح النبهان في أفق " في ظل هذه الإشكالية ، وجد أنصاف الشعراء ، ملاذهم الوحيد . لقد وجدوا لأنفسهم مخرجا من عزلة فرضتها عليهم قوانين الكتابة الشعرية السابقة . فمن ناحية ، لم يعد أحد يحاسبهم في انتماء النص وتصنيفه فضلا عن موسيقاه . ومن ناحية أخرى ، أغرقوا في رمزية لا مبرر لها ، وما هي من الرمز في شيء يذكر ، فأصبح النص الشعري ( ما بعد الحديث ) بحاجة إلى عراف ليفك طلاسمه وإن فعل فسيقدمه بطلاسم أخرى جديدة إلى المتلقي "30. وهو ذات السبب الذي وافق كثيرون على أخذه مبررا أوليا ويطالبنا أصحابه بالانتباه إلى هذه الحقيقة كما فعل عدنان صائغ في اشتراطاته مثلا.
في حوار مع د.عبد الله إبراهيم أجاب مثلا على سؤال من هذا النوع - هل اللغة تشكل عقبة ما بين الكاتب والمتلقي؟ " إذا كانت اللغة تعني كل وسيلة تعبير، فانا اعتقد ان الكاتب يعيش أزمة لان التواصل بدأ يخضع لأكثر من مؤشر بين المبدع والمتلقي، ويبدو لي أن هناك سلسلة من سوء التفاهمات، بالعلاقة التي تربط بين الكاتب والمتلقي، وكأنهما يبثان على موجتين مختلفتين، ذلك أن اللغة هي وسيلة تعبير وخلق للعالم، فإذا لم يكن هناك نوع من التجاوب، ونوع من التواصل والاتفاق والتواطؤ على معرفة وإدراك واستعمال هذه الوسيلة، فأظن أن الكاتب سيجد نوعا من العسر والصعوبة في إيصال أفكاره وإرسالها للمتلقي، وبالمقابل يجد المتلقي نفسه إزاء صعوبة كبيرة في فك الغاز ورموز هذه الوسيلة، وكلما أشيع نوع من الحرية، وكلما أشيع نوع من المشاركة، فان التواصل والتراسل يزداد وينشط بين الكاتب بوصفه مرسلا وبين القارئ بوصفه متلقيا، وأنا أظن أننا ما زلنا في عالمنا العربي الآن نفتقد التواصل، وقوة المشاركة التي تمكننا من إنتاج حوار جذري وخصب بين المرسل أيا كان(كاتبا مثقفا روائيا شاعرا مؤرخا ناقدا) فهو ينتمي إلى أحد النخب الاجتماعية الأخرى التي تفيد المستمع من جهة وبين المتلقي أيا كانت انتماؤه وهويته، فما زال التواصل محدودا، فلذلك يظهر لدينا نوع من الغربة الداخلية، فكأن الكاتب يرسل وهو مجهول للمتلقي، وكأن المتلقي يتلقى ضمن نظام يجهله الكاتب، فيجب أن يصار إلى نوع من التلاطف والاتفاق على شفرات مشتركة بين الاثنين بالنسبة للكاتب وهو يرسل وبالنسبة للقارئ وهو يتلقى واظن ان هذا التواصل محدود كثيرا، وهو الان يثير التباسا حول مسائل مثل: قصيدة النثر والتجريب والحداثة. وكثيرا من المشكلات المتصلة بعالم الادب وعالم الفكر"31
بينما رأى آخرون أن معضلة قصيدة النثر على مستوى المتلقي للشعراء الحقيقين وليس أنصافهم كما تقدم ونورد مثلا لذلك جواب أمجد ناصر كالتالي"اظن ان الجميع الان لا يكتبون انطلاقا من مقولات التحطيم الاولى ولا من اوهام تغيير العالم ولا حتى انطلاقا من مفاهيم ذات تصور نظري صارم. اظن ان غياب السجال لا يعني بالضرورة ان القصائد قد استقرت في الذائقة او قد قبلت في المنجز العريض قبولاً تاماً. بل اظن ان غياب السجال او النقاش حول المفاهيم، حتى في المفهوم الذي تقوم عليه قصيدة النثر نفسها، ولماذا قصيدة نثرنا العربية تختلف عن غيرها، ليس سوى تعبير عن نوع من الكسل الفكري او عن الاحباط من عزلة الكتابة الشعرية نفسها. ان عزلة الكتابة اليوم والشعرية خصوصاً، لا تحتاج الى برهان يكفي ان تحضر امسية شعرية عربية: وتسأل كم عدد النسخ التي يطبعها الشاعر لتعرف ذلك. واعتقد ان عزلة كهذه لا بدّ لي ان تنعكس على الكتابةنفسها والاسئلة التي تطرحها." 32
وإذا كانت هذه الأمثلة تشير إلى حقيقة الأزمة فإن إمكانية العودة عند منظري قصيدة النثر لكتابة القصيدة الأم هل يعتبر اعترافا بهذه المعضلة وهروبا من الإجابة عليها ؟ في بيان الثقافة ثمة ما يشير إلى شيء من هذا القبيل في هذا الملف حيث نقتبس من مقال مفيد نجم في هذا الملف "والحقيقة ان العديد من الشعراء عادوا إلى كتابة القصيدة الكلاسيكية كما فعل أدونيس, لكن جميع هؤلاء الشعراء ينتمون إلى الأجيال السابقة في الشعر العربي في حين ان جيل التسعينات وقبله بصورة ما راح يتخذ من طروحات أدونيس وشكله الكتابي أساسا في تجربته الشعرية, وتشكيل رؤياه ومواقفه خاصة على مستوى التجربة الصوفية في الشعر, بالاضافة إلى الحديث عن القطيعة التامة والاختلاف وانفتاح الكتابة الشعرية على الفنون وأشكال الكتابة الأدبية الأخرى"33.
هناك من وجد أسبابا أخرى ربما في بداية هذا المشروع غير إتهام الشعراء الآن بأنهم إنما أنصاف شعراء وبالتالي إنحاء اللائمة عليهم في معضلة المتلقي هذه في آخر الأمر مثلما فعل أنسي باتهام المتلقي نفسه ذلك المتلقي في الستينات "التلقي السائد في نظر الحاج، هو تلقي المحافظين والمقلدين الراكدين، تلقي الأدوات الجاهزة البالية التي يتقدمها حصر الشعر في موسيقى الوزن والقافية. إنه تلقي التعصب والاستهزاء والرجعية والسطحية وأدلجة الخطاب الأدبي بأغلفة مثل (حاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية)"34 فهل يا ترى يصلح مع متلقي الألفية الجديدة استخدام ذات الإتهام ؟ أم أن الأمر يحتاج لأكثر من مجرد توجيه اللوم لأنصاف الشعراء فقط .!
في الواقع هناك مجال متسع جدا للحديث هنا وثمة تساؤلات أعمق أيضا بيد أن ما يهمنا أن نطرحه هنا في ختام هذه المطالعة السريعة جملة من الأسئلة التي نأمل أن تجد لها إجابات شافية ونتركها هنا كما هي أملا في أن تستجلب هذه الإجابات :
1- لماذا يتحتم علينا مثلا أن نتعامل مع فرضيات ولو كثر عدد المتحمسين لها طالما لازالت فرضيات غير مستقرة على وجه من الوجوه لا في أسسها النظرية ولا في نتاجها التطبيقي ؟ وإن كان لا بد من التعامل فلماذا لا نثبت أصل الفرض والتطبيق ونجدده كلما استقر ؟
2- ماذا تغيّر حتى يبرر التضحية بالوحدة العضوية في العمل الأدبي وهنا طبعا قصيدة النثر بل والقصد لذلك والحرص عليه مع أن أوضح ما تناولته حركة النقد الأدبي منذ فترة معاصرة أيضا على العمل الأدبي الموروث كمثلب كان هذا الموضوع بالتحديد ؟ كيف يمكن إعادة الإعتبار للوحدة العضوية وعلاقاتها من جديد في قصيدة النثر ؟
3- طالما أن قصيدة النثر- كما يقول منظروها -وسط هلامي في طور التشكل النهائي ولا تزال في المرحلة الجنينية شوطا من أشواط التخليق فلماذا لا ننتظر في درس النقد النهائي اكتمال هذا المولود حتى يصبح معه الحكم على خلقته وخلقه منطقيا ومبررا ؟ ولماذا نستعجل الأحكام ؟
4- تستند قصيدة النثر إلى العقل الباطن كثيرا وتعوّل على مقدرته ليكون الباعث الأوحد فهل ينتج العقل الباطن في نهاية الأمر عملا كاملا أم أن ما ينتجه يصلح لأن يكون في أفضل الأحوال جزءا من عمل ليس أكثر ؟
إن الله تعالى قد كرم الإنسان فميزه عن سائر مخلوقاته باللغة وعلم آدم الأسماء كلها وجعلها الوسيط والحامل لهذا الفن ولو لم توجد اللغة هذه لما كان المجال في اتساع لنطالع لا قصيدة النثر ولا غيرها وكل ما يستطلع إمكانية الخروج منها لا بد عائد إلى ما بدأ به أول البشر فهل هذا هو الشكل النهائي الذي يفترض الوصول إليه ؟ أم أن هناك أشكالا أخرى يمكن معالجتها في طور التشكّل ؟
لم نورد في هذه المطالعة رأيا ذاتيا ولا انحزنا إلى رأي دون آخر وبقي أن نقول من واقع تجربتنا الخاصة أن كثيرا من النصوص التي اطلعنا عليها من أدب الشباب على نمطي البيت الشعري والسطر الشعري كانت ملتزمة تمام الالتزام بكل شروطهما على حدة وما حوت شعرا وكذلك هو الحال مع قصيدة النثر إلا أن نصوصا بعينها مما قرأنا لقصيدة النثر حوت شعراً حقيقيا فلماذا لا يتم التوقف عندها برهة من الوقت الذي تستحق ولماذا يجب أن تكون العلائق بين أصحاب الشعر دائما وفق قانون الإستقصاء غير الشعري إطلاقا ؟ إن من يشهر قانون الاقصاء ممارسة ليس محترما لشاعريته ولا لشعريته على ما نظن ونحسب.

ملاحظة

المراجع
1
محي الدين اللاذقاني - حوار أحمد عيد
http://www.jehat.com/arabic/gareeb/mohye.htm
2
ليس النص المهم بل المبدع- محمد حجي محمد
http://www.qhaddad.com/dia28.htm
3
بيان الكتب - مراجعات
http://www.albayan.co.ae/albayan/book/2002/issue228/reviews/1.htm
*
القنفذ المضطرب فوق النهار - مقابلة مع أنسي الحاج لعبلة الرويني
http://www.akhbarelyom.org/ADAB/issues/440/0300.html
4
اشتراطات قصيدة النثر- عدنان صائغ
http://www.nisabaonline.com/1y/files1/poeminprose1/adnan0.htm
5
قصيدة النثر تأملات في المصطلح-محمد الصالحي * نزوى
http://www.nizwa.com/volume10/p80_94.html
6
جمالية قصيدة النثر - عصمت النمر
http://www.aushtaar.net/Entry5/esmt_al-nemr01.htm
7
قصيدة النثر بوصفها لونا شعريا مخادعا - شاكر لعيبي
http://www.geneva-link.ch/slaibi/Poem%20en%20prose.htm

8
اتجاه قصيدة النثر في الأدب العماني المعاصر-نزوى
http://www.geocities.com/adaboman1/etejahalnather.htm
9
قصيدة النثر تأملات في المصطلح-محمد الصالحي * نزوى
http://www.nizwa.com/volume10/p80_94.html
10
ملف معركة قصيدة النثر في مصر
http://www.shakoomakoo.com/dossier.htm
11
البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر -د.إبراهيم السامرائي
12
لبنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر -د.إبراهيم السامرائي
13
قضايا الشعر المعاصر-نازك الملائكة
14
قصيدة النثر أو النثعيرة - الباحث محمد توفيق الصواف
http://www.alankaa.com/
15
شعراء مصر وقصيدة النثر
http://www.arabia.com/life/article/arabic/0,4884,57628,00.html
16
أسئلة الشعر ومغالطات الحداثة-محمد لطفي اليوسفي
http://www.nizwa.com/volume5/p70_76.html

17
عن شعرية سركون بولص -ديما شكر
http://www.alimizher.info/sargounweb/dima.htm
*
موت السجال في الثقافة العربية- موقع إبداعات عربية مقابلة مع شاكر لعيبي
http://www.arabiancreativity.com/laibis.htm
18
البيان الأخير ضد موت قصيدة النثر العربية- إيلاف
http://kitabat.com/c870.htm
19
قصيدة النثر في مصر - بيان الثقافة
http://www.albayan.co.ae/albayan/culture/2002/issue140/cinema/1.htm
20
نوافذ إبراهيم نصر الله - شبكة المرايا
http://www.ibrahim-nasrallah.com/p1_1_3_5_8.htm
21
شعراء مصر وقصيدة النثر -أرابيا
http://www.arabia.com/life/article/arabic/0,4884,57628,00.html
22
البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر-د.إبراهيم السامرائي ص20
23
محي الدين اللاذقاني - مقابلة مع جهة الشعر
http://www.jehat.com/arabic/gareeb/mohye.htm
24
شعر الواقع وشعر الكلمات دراسات في الشعر العراقي الحديث - د.ضياء خضير
http://www.awu-dam.org/book/00/study00/264-d-h/book00-sd005.htm

25
النص- قاسم حداد
http://www.qhaddad.com/wolves1.htm
26
سهيل إدريس مع الاهرام العربي
http://arabi.ahram.org.eg/arabi/ahram/2003/2/22/CULT1.HTM
27
قصيدة النثر قصيدة مستقبلية.. دراسة واستنتاجات
الكتابة النقدية تسترشد بالقراءة العميقة للنص
http://www.iraqiwriters.com/makalat/qasedat_nathir/qasedat_nathir_2.htm
28
اشتراطات النص الجديد(4/4-عدنان صائغ
http://www.alarweqa.net/eb/stories.php?story=02/11/23/5735197
29
الشاعر حمد الفقيه : قصيدة النثر أفقدتنا القدرة على المقاومة - الزومال
http://www.zomal.com/zomalhtm/zomald/d005.htm
30
الحداثة وما بعدها -صالح النبهان
http://208.185.82.137/archive01/july01/mehwar11-1.htm

31
حوار مع الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم-في نصوص أدونيس أقنعة والبياتي سرد للشخصيات
ودرويش سيرة ذاتية
http://www.abdullah-ibrahim.com/page4_4_1.htm

32
حوار مع أمجد ناصر- أجرى الحوار عباس بيضون * منشورات السفير بيروت
http://www.geocities.com/amjadnasser8/intervew.htm
33
الرؤية والتجليات في خطاب الحداثة الشعرية العربية
http://www.albayan.co.ae/albayan/culture/2001/issue52/afaque/2.htm

34
أنسي الحاج في المقدمة- رشيد يحياوي
http://www.nizwa.com/volume22/p89_102.html

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|