{env}

الصفحة الأساسية > رأي > ثقافة الوهم: الرهانات الخاسرة والدور المؤسس

.

ثقافة الوهم: الرهانات الخاسرة والدور المؤسس

الثلاثاء 14 كانون الثاني (يناير) 2020

ثقافة الوهم: الرهانات الخاسرة والدور المؤسس

[(ثقافة الاستعلاء وثقافة الهزيمة قرابة ونسب تلعنهما ثقافة الصمود والمقاومة..!

في العرقي والفكري والديني والاجتماعي والجغرافي مشاهد قوية لثقافة الوهم والإخلاص شرط النجاة الوحيد..)]

- الوهم والثقافة

كيف يمكن الجمع بين مادتين لغويتين من هذا النمط لتؤسسا لمنظومة حياتية كاملة تتحكم بمصائر البشر ونوعية المستقبل الذي ينتظرهم جرآء ذلك؟ هو من الأسئلة المحرِّضة بلا شك ونعترف بذلك وربما كانت قيمة السؤال المركزية في انفتاحه على آفاق واسعة من محاولات الاقتراب ومحاولات الاختراق، ليس سهلاً بالمرة التعامل مع مادتين من هذا النمط إحداهما تلوِّح بيدها في المجهول والأخرى تلقي بيدها في المنقول المعلوم الثابت من الخبرات التي يقع عليها واجب ودور التحكّم بمجموعة تقدير المواقف والتصوّرات تالياً، أليس في محاولة كهذه ضرب من المخاطرة على الصعيد المعرفي؟

في مصطلح (ثقف) تجد إشكالية كبيرة في الاتفاق حولها معجمياً وتبادليا ً بين هذه المعاجم والمرجعيات كلٍ بحسب طبيعتها، فبينما تجدها في المرجع اللغوي العربي كما في المعجم الوسيط بأنها عائدة إلى <العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها>، تجد مختار الصحاح للرازي يعيدك إلى مادة< ثقُفَ – يضمّ عين الكلمة- من بابِ ظرف صار حاذقاً خفيفاً فهو ثقْف ومنه المثاقفة> وفي ذات الوقت يعيدك إلى <ثقُف –بكسر عين الكلمة- من باب طرب>، أما المعجم الفلسفي فيريد بها < كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم> وإذا كانت هذه حال مرجعية الثقافة اصطلاحاً في العربية فإن حالها لدى الآخر ليست كذلك لسبب بسيط هو دخولها من الباب الواسع تحت مادة (حضر) المؤدية إلى الحضارة عامة.

في تعريف قاموس وبستر للثقافة مثلاً هي " نموذج كلّي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسّدة في الكلمات والأفعال وما تصنعه يداه، وتعتمد على قدرة الإنسان على التعلّم ونقل المعرفة للأجيال التالية " وهي هنا حلّت إشكالها لتصبح باختصار مجموعة خبرات تتحكم في مجموعة تصرّفات بينما عندنا لا زلنا نصرُّ في نهاية الأمر على التفريق بين الحضارة التي نذهب بها إلى جوانب الجسد وما يصنع والثقافة التي نذهب بها إلى عالم الروح وما تفعل، فالحضارة موقوفة على المنتج المفضي إلى نمط عيش بعلاقاته الكلية بين الإنسان والكون والآخر بما تشغله وتحكمه مجموعة الوسائل والأدوات، أما الثقافة فهي عندنا حياة وعمل الروح والفكر والقيم.

حسنا لقد اختلفنا عن هذا الآخر منذ البداية عندما فصّلنا ودققنا في تعاملنا بين الجسد والروح ولا أرى في ذلك غير إمعان في الدقة صائباً ويشي بدلالة حقيقية في احترام المرجعية الفاعلة وإعطاء كلٍ منها حقها ومادتها التي أنتجت مع أنهما ستلتقيان ثانية باعتبارهما في الوحدة الكلية هما عمارة الإنسان لهذا الكوكب الذي هو مقصد الخلق وغايته، ومن المفترض أن كليهما مشروع تأثر بالآخر لا شكَّ في ذلك فهذا منطق وحدة المرجع الأعلى أي الإنسان، ولكنه ليس شرطاً دائماً فلربما كانت الثقافة أعلى وأسبق من الحضارة أو العكس في زمن ما أو لدى أمة ٍ من الأمم طالما كانت المرجعية الفردية لهذه تعود على جسد وتلك تعود على روح وهنا تنشأ الأزمات.

إذن فالثقافة أصبحت اسم جنس جامع لكلِّ ما هو من نشاط الروح والفكر والقيم، ولكلِّ ما من شأنه بعد ذلك أن يفترض الدرجة الأرقى والسيطرة والتحكّمَ في المسار، وهي بذلك تصبحُ في موقع التوجيهِ والإرشاد، وإذا كانت في موضعها الذي يجب أن تكون فيه فإن الحضارة ستتلوها إلى ما من شأنه إعمارهذا الكون والتقدُّم فيه وإشاعة الغاية الأسمى في السلام والاستقرار، أما إذا ما كانت الثقافة في موقعٍ غير موقعها بأن يلقى بها إلى أسفلِ نتاج الجسد وعلاقاته الواسمة للحضارة فإن مصير هذا الكون سيغدو مختلفاً بالمطلق ولن ينجو من الرهانات الخاسرة وأثرها في إنتاج النزاعات والاضطرابات والكوارث وعدم الاستقرار.

- في مادةِ وهَم َ

هل يمكنُ أن يختار البشرُ طوعاً الإلقاء بهذه المادة (ثقف) في إحالاتها الروحية إلى أسفل موطيء قدم مادة (حضر) بإحالاتها المادية ؟ هذا السؤال أقل تحريضاً لسهولة الإجابة عليه، إذ إنَّ الواقع يقول نعم وعلى مدار التاريخ وهذا ما كان فاتحة الإزاحة الكارثية التي حدثت وطرأت في طبيعة العلاقة بين الجسد والروح، وفي كلِّ مرة يحدث ذلك ينتج مسلسل من الانهيارات الفعلية التي كانت السماء تتدخل في اللحظة الحرجة كما تقول الرواية اللاهوتية بإرسال الأنبياء والرسل في دعوة تهدف إلى تصحيح جوهر هذه الإزاحة.

ما يختلف في زمننا هذا الذي نعيشه أن آخر تدخلات السماء كانت قبل نحو قرن ونصف وهكذا فإن ما تقوله الرواية اللاهوتية أن أمر التدخل قد انتهى إلى غير رجعة وعلى الإنسان بعد أن أصبح راشداً بما فيه الكفاية نتيجة جملة هذه التدريبات أن يرى بنفسه طريقه إلى الخلاص بما يقيم معه خطواته على محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهنا تكمن عناصر التشويق في هذه الرواية حيث البطولة غدت مطلقة للإنسان وكذلك الهزيمة غدت أيضا مطلقة له بحيث أصبح في مواجهة نفسه لا حجة له على شيء آخر مطلقاً.

المدهش أن أخطر ما في الأمر هو أن يسعى الإنسان بنفسه ليس إلى وضع مادة (ثقف) أسفل موضع (حضر) التي تحدثنا عنها بحيث تصبح قيادة الثقافة ضعيفة معلولة أو لا سلطان لها على أخراها، بل المفزع أن يعمد البشر إلى تزييف مادة (ثقف) هذه بحيث تصبح مصادرها ومراجعها ليست المنظومة الروحية والفكرية والقيمية بل أن تصبح مراجعها أسوأ ما في الجسد وأضعف ما فيه وأكثرها عرضة للخداع وللزيغ بحيث تستند إلى ذلك كله في إنتاج عملية وهمية تامة تقدِّم لنا مراجع مختلة وهمية وغير حقيقية بالمطلق وهنا تنشأ الكوارث الكبرى والتي تصبح فيها شهادة النص القرآني مثلاً حول الأخسرين أعمالاً ممن ضلَّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا هي النتيجة الصادمة الكارثة.

نظرت في مادة (وهم) – بكسر عين الكلمة - فوجدتها تحيل إلى خطأ في الحساب أو إلى سهو يتيح الذهاب إلى شيء بينما هو مريد لغيره، ووجدت فيها توهّمَ بمعنى أغرق في (وهِمَ) كما وجدت فيها (أوهمَ) و(وهّمَ) وكلاهما بمعنى صناعة الوهم، كما وجدت فيها شيئا محيّراً ولافتاً وهو طلب الوهم نفسه في (استوهمَ)! وعدت إلى جذور كلمات تنتهي بتاج حرفي الهاء والميم في معجمنا العربيِّ الرشيد، فوجدت معظمها تغرقُ في الذهاب إلى الوحدة في الصفة على التغليب والكثرة سلباً كما في مواد التالية ( بهمَ) و(دهمَ) و(زهمَ) و(لهمَ) و(شهمَ) و(طهمَ) و(نهمَ) و(جهم) وأخيراً (وهمَ) وهو الأغلب الأعم بينما لم أجد فيها إلا مادة واحدة تذهب إلى التحديد والتعيين في المراد وهي مادة (فهم) فقط، وإن أردت أن أشير إلى نتيجة من هذا المران فإني أشير أن طرق الضياع عن الحقيقة كثيرة بينما هناك فقط طريق واحد تقود إلى الحقيقة دوما وهذه هي الأجمل وهي الأعذب مهما كانت مرةً وقاسية!

الوهم ناتج عن غلط في الحساب أو عن غلط في الإرادة كما تقول المصادر المعجمية، ولكنه أيضا على نوعين وليس نوعاً واحداً لا شكَّ عندي في هذا الأمر، أما أهونه فهو هذا الخطأ البدائي الناشيء عن خطأ التحديد، وأغلبه مردُّه إلى خلل في الرؤيا يقود إلى هذا الخطأ فالبصر هو المتهم أولاً وهو المسئول عن هذا الخطأ لا ريب في ذلك، ولعله ليس من قبيل الصدف أن يأتي ترتيب البصر عموما تاليا للسمع في أغلب الآيات القرآنية التي تطلب التدبُّر وتحددُ المسؤولية فمعظمها يقودك إلى الوقوف على خطورة هذه التراتبية في (إنَّ السمع والبصر والفؤادَ كلّ أولئك كان عنه مسئولا)، فالسمع إذن أقلُ خطراً في الانزلاق إذ ثمّة متسع من الوقت للتفكير بينما تجد البصر أسرع انزلاقا إلى الخداع وبالتالي الوقوع في شرك الوهم وحبائله.

- صناعة الوهم

إذا كان البصرُ مسئولا بالدرجة الأولى عن هذا الغلط البدائي الذي سيقود في نهاية الأمر إلى خطأ كبير الرؤى بعد الرؤيا، فإن هذا البصر هو أيضا من الجسد وإنما علائقه هي عائدة منذ البداية على مجمل ما سيقدمه الجسد كما أسلفنا في مادة (حضر) ولذلك فهذا مدخل أدعى لكي تنتبه مادة (ثقف) إلى خطورة التسليم إلى هذا العنصر الخطر، في ذلك يحضرنا مقارنة لطيفة بين عمل الأذن وما تترقبه وعمل العين وما تترقبه، فهذا الشاعر بشار بن برد يقول لك (والأذن تعشق قبل العين أحيانا) وعشقها لو فعلت لكان متكئاً على ما نطق به اللسان، فإن أراد بشّار الغنج والحلاوة في الصوت دليلا على الحسن والجمال فإن أبا حنيفة أراده دليلا على موضع العقل وقدرته عندما أثبت حكمه (آن لأبي حنيفة أن يمدَّ رجله).

انطق أقل لك من أنت، ومضغتان في الجسد يهما تمام النجاة أو مهاوي الهلاك كما نقل لنا الأثر الشريف والحكمة فيه، والعرب عدت النطق مكشاف العقول والقلوب ولكنها ما عدَّت النظرإلا مساحة فيها وفيها، وأما أخطرما انقاد له السمع فهو أن ينقاد إلى زيغ الرؤيا فيصبح فاقداً لشرفه ومكانته وطائعاً لما يقوده إليه هذا البصر ليس مالكاً لنفسه ولا لرأيه، وعندها تكون النتيجة بلا ريب مادة ثقيلة من الخداع والوهم، أما الوهم البدائيُّ فله علته وله عذره ويمكن أن يتاح له مزيد من الوقت أو عودة جديدة يستبين فيها موضع علته ومبعث غلطه فيعود إلى صوابه فرحاً.

أما ذلك الوهم المصنوع فهو علة العلل حيث تدخّلت فيه صناعة قوية ومحكمة عملت على تقطيع السبل أمامه وخلفه بحيث غدا لا طريق أمامه إلا المتابعة في جوّه الظلامي وسردابه الكاذب الخادع، وفي هذا الوهم المصنوع ثمة مادتان من جذر وهمَ الأولى هي مادة تقوم على جهل بدائيٍّ انقاد إلى صناعة أوهمته ووهّمته فوقع في حبائلها وأصبح ضحية لها، لا حول له ولا قوة إلا أن ينقذه منقذ يتاح له من الصدقية والدربة ما يمكّنه من إزاحة هذا الغشاء الخادع الذي أوقعته هذه الصناعة على عين الموهومِ فوهم فيها، وهذه لعمرك هي طبيعة دور بدأها منذ الأزل حكيم واستمرّ بها فيلسوف وحسّنها وشذَّبها نبيٌ مرسلٌ وانتهت إلى يد عالمٍ على سبيل الوراثة!

في هذه المادة السابقة من (وهم) مكيدة لها مبرراتها عند الموهمِ وصانع الوهم ولا منجاة من الذنب فيها عند الموهوم لجهلة وغفلة، أما المادة الأخطر فهي مادة (استوهمَ) وطلب صناعة الوهمِ طلباً مقصوداً معلوماً إما لخبثٍ عند طلب الوهمِ هذا ووضاعة وانحطاط في الهمة مبعثه فقدان احترام لنفسه وذاته والتآمر على روحه، وإما هو لفزعٍ من المجهول وفقدان ثقة في القدرة على سبر غوره، وإما هو لوطأة المعاناة واختيار الطريق الأسهل بالركونِ إلى ما يسوقه القادم هذا لعلَّ وعسى وإما هو لعاملِ الاندفاع انقياداً رغبةً أو رهبةً، وهذه كلُّها مبعث قبول صناعة الوهم وطلبها بما فيها من تحريض للموهم على تحسين وتطوير صناعته بحيث يغدو فيها حذقاً ومقنعاً إلى حد كبير ينسى طالب الوهم مع الزمن مبعث وهمه هذا ويصدِّق ما ألفه ردحاً بحيث تغدو هذه العملية ثقافة مستنبتة.

هنا تنشأ عن ثقافة الوهم هذه وتتولّد لا شكَّ في ذلك ثقافتان واضحتان بكلِّ معالمهما تستمدُّ أحداهما طبيعة استمرارها وقوتها وازدهارها من اتساع الأخرى وانتشارها في علاقةٍ طرديةٍ ومعادلة خطية ٍ عجيبة، أما الأولى: فهي ثقافة الاستعلاء والاستكبار التي تمارسها وترعاها القوى الطاغية الجامحة لمصلحتها لإنتاج حضارة عليلة انتهازية محتكرة غير إنسانية ولا تؤدي إلى أيِّ نتاج سوى الخراب وإعادة إنتاجه وتوليده، والأخرى: هي ثقافة الاستسلام والهزيمة تتأبطها وتسير بها منحدرة إلى أسفل ما يمكن تخيُّله قوى مستوهمةً وخادعةً لنفسها أو مستخدعةً لها أو في أهون الشرور مسلوبةً على الانخداع والانبهار تذهب بحامليها إلى قعر الجسد المهزوم بعيداً عن أيِّ روح وعن أيِّ قيمة مما ينزع عنها صفة الثقافة أصلاً فتصبح فاقدة المسمى والمحتوى معاً ليست أكثر من عبودية جديدة بثوب عصريٍّ.

- الوهم العرقي مؤسس للكارثة

إذا كان صانع الوهم قد حذق صناعته وانقادت له مفاتيح صناعته الخبيثة فإنه لا بد متجه النوايا إلى استخدام مختلف صنوف الخمائر في صناعته هذه، وقد نظرنا فوجدنا أن أخطر أنواع الوهم المصنوع على عين العنصرية وركائزها العرقية، ولعل التدليل على خطورة مثل هذه الصناعة القبيحة كافٍ وبالذات في قضية النازية الشهيرة ولم تمض عليها بعد بضعة عقود وعادت تطلّق برأسها اليوم من جديد في بلاد مادة (حضر) الحديثة في أوروبا.

لقد تأسست صناعة النازية على وهم نقاء الجنس الآري وخلوصه كما هو معلوم إلى أعلى درجات البشرية واعتبار سلم الأوهام الذي نسقته هذه النازية في موضوعة العروق هو المطلق الوحيد والثابت الأوحد، ودارت من حوله صناعة هذا الوهم التي أخذت أقصى درجات احترافها على أيدي (غوبلز) ووسائله الإعلامية الكاذبة التي امتهنت تسويق هذه الصناعة على الألمان أنفسهم وجرماني أوروبا وتالياً على العالم بأسره، وكانت النتيجة الكارثية التي جرت العالم إلى حرب عالمية ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر هباء وأثقلت العالم بأمراض الكراهية والحروب ردحاً وأخَّرت مسيرة الإنسانية زمناً.

لقد وجدت صناعة وهم العرق أيضاً متنفساً لها في غير مكان ولم تكن حكراً على الألمان قطعا فقد رافقتها الفاشية القائلة بخلوص العرق الروماني في إيطاليا على يد بنيتو موسليني (الدوتشي) رفيق النازي أدولف هتلر وحليفه في حربه العالمية، كما وجدت لها بعيداً عن أوروبا أيضاً في ذات الفترة حليفاً يابانياً في أقصى الشرق أسس له وهماً خاصاً به قائماً على ذات الركائز العنصرية الواهمة في نقاء وخلوص العرق الياباني وما يؤسس له هذا في عرف أصحاب هذه الصناعة من (حقوق) على العالم وعلى غيرهم من الأجناس لا بد من طلابها والسعي نحو الوصول إليها ولا مانع من استخدام شتى صنوف البطش والقسوة والعنف والظلم وغيره طالما هي في سبيل هذا (الحق) الموهوم فهي وسائل عقابية على منع هذا الحق تدفع الضحايا وهي هنا كل ما خلا صانع هذا الوهم الثمن الكبير له.

تجد هذه الصناعة تعبيراتها الثقافية المختلفة وأنشطتها الخاصة وتتسلل إلى مكامن حركة وتفكير ومشاعر المجتمعات التي ترعاها بحيث تغدو خبزاً يومياً لها وبحيث إن لم تستمع لها يوميا ولمحرضاتها على الكراهية تتصرَّف وكأن شيئاً ينقصها ليومها مثل الهواء تماما، ولذا تجد مثل هذه المجتمعات وقد فرَّخت عنفاً غير تقليديٍّ يصل إلى درجة حب الموت والدمار والتلّذذ به بحيث تنتقل هذه المجتمعات باتجاه الحيوانية رويداً رويداً، أذكر في زيارة كانت لبلاد الشمس المشرقة قبل عقد ونيف من الزمن أن مضيفنا الياباني قد أخذنا في زيارة لمعبد قرب العاصمة طوكيو ليرينا في باحة هذا المعبد عشرات الآنية الخشبية الضخمة التي كانت تحتوي نبيذاً معتقاً منذ عشرات السنين تنتظر لحظة سيادة العرق الياباني على العالم كما أرانا من حولها الساحة التي كانت تردها النساء اليابانيات للرقص والصلاة على طريقتهم من أجل هذا الموعد!

إن ما بشَّرت به الحركة الصهيونية يهود العالم هو لا شكَّ جزءٌ من فصول صناعة الوهم التاريخية رغم أن وجود عرق بني إسرائيل هو غير ثابت علمياً حتى الساعة والمنقول في هذا الأمر مجرّد تخمينات بعضها يقود إلى أن العرق الإسرائيلي قد انتهى في قبيلة على تخوم بحر الخزر، ومع ذلك أرادت هذه الحركة أن تصنع لها طوقاً آخر من صناعة وهمها العنصري إن لم يكن قائماً على أساس العرق وقد يصعب إثباته فليكن على أساس من الدين واللاهوت والماورائيات مما يترك في نهاية الأمر على محمل المحتمل وهكذا تستطيع أن تبقى لها مصدراً لصناعة الوهم وتسويق (الجيتو) وثقافته تمهيداً للخطوة القادمة في ادعاء الحق الموهوم وهو بالضبط ما تناسته الأمم الأوروبية التي عانت من ويلات هذه الصناعة وشرورها وقاست جرآءها الأمرين وتجاوزت في قفز ووثب خطير عن هذه القيمة الأخلاقية لتعاضد هذه الصناعة وتغذيها تحت شعار اللاسامية المصنوع طالما ذلك في مصلحتها وطالما كانت الضحية هذه المرة مكاناً آخر في هذا العالم تطمع هي في تقاسمه معها وتحت باب (حضرَ)، فأيُّ حضارةٍ هذه ؟!

- الوهم فكراً وجغرافيا في تطابق !

سيمكن في نهاية الأمر الوصول إلى خيط رفيع في صناعات الوهم هذه وتطبيقاتها بحيث تصبُّ جميعا في مصلحة قوىً بعينها وتنحصر على حساب قوىً أخرى وكأنَّ المحصلة النهائية هي مجموع صناعات الوهم هذه من أجل مستوهمٍ أكبر ومستفيد شيطانيٍّ يغذيها ويسهر على استشرائها بكل وسيلة ممكنة محققاً صفة طاغوتية وسمة كونية في الشرور، وليس ضرورياً أن يكون سبباً مباشراً في كلٍّ منها، ولكنه بالتأكيد يجني ثمارها واحدةً واحدةً وتضع أحمالها في فناء داره وتحت خيمته.

ومن التطابق العجيب في صناعتي وهم واحدتها قامت على أساس الفكر باعتبار الغرب مصدراً لكلِّ تقدم ٍ وتطوّرٍ في مادة الثقافة طالما هي الآن قد نفذت وعلت في مادة الحضارة، ويضع الشرق في المقابل المناقض مصدراً لكلِّ تخلّفٍ وتأخُّرٍ في ذات المادة وجب احتقاره والخروج عليه وتقليد نقيضه (الموهوم) هذا في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ليس في أحوال العيش فقط بل أيضاً في أحوال الثقافة والروح بحيث يتم تنمية هذا الوهم عند هذا الشرق المحكوم على ثقافته مسبقاً بشتى أصناف التحقير من أجل بتر ما عنده من محمول ثقافي بتراً كلياً واستنساخ واستيراد ما لدى هذا الغرب بالكلية، وهكذا نشأت صناعة هذا الوهم وتمت تغذيتها وأخذت أدوارها ونسقها وأشكالها المتعددة مؤخراً.

لقد غالى بعض الشرق في سقوطه هذا المنحدر الكبير وهذه الهوة السحيقة بحيث أدخل في روعه أن طريقة كتابته للغته لها دور في عدم نمائه فاستبدل حروفه بحروف الغرب واستبدل موضع ذهابه بالقلم من اليمين إلى يسار بياض الورق ذهاباً في هذا الوهم إلى أقصى درجات خرفه، وليست المسألة في لباس أو طعام أو سكن فقط إذ لكان الأمر بقي في منطقة أحوال العيش وباب (حضر) ولأمكن مثلاً قبول الجدال بشأنها والنظر، بل إن المسألة غدت كما سلف منظومة ثقافية متكاملة تشرع في اللهاث خلف النموذج المقدَّم لهذا الغرض وعلى أساس درجة الذوبان فيه والتماهي معه توضع درجة اقترابه من الآمال بالوصول، وكانت النتيجة كما في كثير من هذا الشرق مسخاً في الروح ومسخاً الجسد!

ومثلما هو الحال في تسويق أصول ثقافة الغرب اللاتينية واليونانية القديمة على أنها النموذج واحتقار أصول ثقافة هذا الشرق وإنزالها درجات أقلَّ وإن كان منها ما هو أكثر إشراقاً في زمنها كالفرعونية والصينية مثلاً وليس حصراً، كان أن وضع الشمال في الجغرافيا نفسه أيضاً فوق الجنوب لذات الخلط العجائبيِّ الغريب على ذات المنهج في الانقياد لوهم واحد تطابق المستفيد من استشرائه وتطابق المستغيث من ويلاته، ويسهل الوقوف على أكبر الثغرات في هذه المشاريع الواهمة دوما حينما تستخدم سوط تمدنها وتحضّرها لتلهب به ظهر ثقافة هذا الشرق وهذا الجنوب دوماً ولتزرع في روعه ووجدانه أن لا سبيل إلى الوصول إلى ذات مستوى التمدن والحضارة دون سلخ ما لديه خلف ظهره بل والتبرؤ منه بالكلية واستقدام ما لدى هذا الغرب /الشمال!

كان الغرب/الشمال هذا في العصر ما قبل الأوسط أيضاً على ذات مشواره في رحلة البشرية من حيث التقدّم بعض خطوات أماماً، ودلّت تجربة الشرق/الجنوب الإسلاميِّ على أن المثاقفة التي قامت والتبادل الحضاريَّ الذي تم في هذه الأزمان كان على قاعدة أخرى وأنتج برهاناً قوياً على أن هذه العملية قد تمت في شروط أخرى مختلفة جرى فيها إغناء واستثمار لإيجابيات كلٍ منها مما أنتج مرتكز المرحلة الحالية مما يتمتع به هذا الغرب/الشمال اليوم، وحيث أن هذا الدليل ماثل حيٌّ قائم فلماذا يصبح اليوم مستحيلاً في عرف صناعة الوهم الجغرافية –الفكرية ؟ ليس هناك من مانع في تكرار التجربة الناجحة فهي ستبقى أقلُّ كلفة وأعظم احتمالاً في تحقيق النجاح لو خلصت نوايا عارض المدنية والحضارة هذا وقويت ثقة المعروض عليه بنفسه وزادته احتراماً لذاته وتاريخه من غير تهويلٍ ولا تجميل، أو ليس هذا ما صنعته اليوم تجربة الشرق الصيني و الجنوب الماليزي مثلاً !؟

- أوهام نشطة على باب الدين والاجتماع

وكما أن صناعة الوهم ارتكزت على العرق والفكر والجغرافيا أحياناً فإنها أيضاً لم توفِّر الدين والمجتمعات منها، وإذا كانت الدلائل واضحة في بعض الديانات كما سلف من أمر استخدام الحركة الصهيونية للمحمول اليهودي تربة خصبة في صناعة أوهامها، فإن أديانَ أخرى قد عانت أيضاً من صناعة أوهام مقصودة لتفعل بعد ذلك فعلها في مصلحة صانعها وحادي ركب ترويجها وهو ما يمكن تلمّسه واقعياً بمجرَّد الولوج إلى دراساتٍ متعمقة وفق قواعد منهج منضبطة في أصول الدرس النقدي لبعض هذه الصناعات.

تعتمد الروايات الدينية كلها على مادةٍ غيبية لا شكَّ في ذلك سيما بالنسبة لمن يعيش في مرحلة تاريخية تلت المرحلة التي قدمت فيها هذه الروايات المختلفة، وإذا كنا سنلحظ صناعة الوهم كبيرة في الأديان غير السماوية تحديداً فإن بعض هذه الصناعة قد وجد له أيضاً موئلاً على باب الأديان السماوية في بعض رواياتها وأحيانا فيما تلا ذلك من تطبيقات على أرض الواقع بحيث غدا مختلطاً وقابلاً للعديد من التصنيفات والظنون، وإذا كانت أكثر صناعات الوهم قد قامت على باب اليهودية وأخطرها على العالم كله وليس فقط على المشرق فعلاً فإن بعضاً من صناعات الوهم التي تأسست على أكناف النصرانية قد وجدت لها أيضاً تعبيراتها وتأثيرها على ذات المشرق ردحاً من الزمن عبر مشاريع الحروب الصليبية وحملاتها.

ومن غريب الأمر أن عادت صناعتا هذا الوهم من جديد لتؤسسا لدور شرير ودموي هذه الأيام من جديد من خلال ما يلحظ من تحالف الصهيونية وتعبيرها السياسي القائم في دولة الكيان العنصري في فلسطين والنصرانية الأنجليكانية وتفرعاتها المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية أساساً، وكلا الصناعتين قائم على وهم واحد وإن اختلفتا تالياً في تفصيل فائدته، فالأولى تبشِّر العالم باليهودية على يد المسيح القادم من جديد بعد بناء الهيكل والثانية تبشِّر العالم بالنصرانية المخصوصة بعد هذا البناء وعلى يد ذات القادم من جديد، وهاتان الروايتان المختلفتان وجدتا لهما طريقا واحداً وتحالفاً ضد رواية إسلامية أخرى ترى في عودة المسيح مرة أخرى خلاصاً للعالم على أساس الإسلام!

وإذا كانت صناعة الوهم الكبرى قد وجدت لها مكانا في الروايات اليهودية والنصرانية لأنها استطاعت تحقيق اختراق فيهما نتيجة لوجود توثيق أضعف للمنقول الديني نفسه وتراوح في درجات توثيقه والتعامل معه مما أتاح المجال واسعاً أمام التحريف والتلاعب إلى حد كبير، فإن دقة عملية الضبط ونظامها في المنقول الإسلامي بوجود النص القرآني الثابت المحفوظ والنص النبوي المضبوط أقصى درجات الضبط قد منع تكرار ذات الدرجة من الصناعة في المنقول الإسلامي نفسه، ولكنه لم يمنع ذلك من الدوران حوله في التطبيق وفي المجتمعات الإسلامية من خلال خلط المقدّس بالعرف والعادات وصياغة الروايات الوهمية حول هذا الخليط طالما استعصت عملية صياغته حول المنقول المضبوط!

لقد كانت أكبر عمليات صناعة الوهم في ما حول الدين الإسلامي متاحة عندما أمكن وجود روايات دينية ألبست أثواباً سياسية وأغراضاً خاصة وفتحت المجال أمام شق الوحدة الإسلامية الأولى عبر حكاية السنة والشيعة أولاً قبل أن تنفتح السبل من هذا الباب العريض باتجاه فتن وشيع أخرى صاغت صناعة الوهم من حولها قصصاً كثيرةً يمكن الوقوف على نماذج عديدة منها سواء باستقرائها في التاريخ أو بالمرور ببعضها الحيِّ في هذه الأيام وفي بعض المواقع، وعليه فإن أمضى الأسلحة الإسلامية مثلاً في وضع حدود نهائية لصناعة الوهم حولها إنما يكمن من خلال إطلاق الفكر الإسلامي من عقاله الذي حبل حوله وإعادة الاجتهاد إلى العمل في حياة هذه الأمة مما سيسهم بلا شك في إبطال معظم هذه الصناعات إن لم يكن كلها.

- أخطرها في قضية المرأة

وإذا كان لا بد من المتابعة في موضوعة الوهميات فإن أكثر ما راج سوقه في صناعة الوهميات كان ذلك المتعلق بالجنسوية وحول الذكورة والأنوثة وما بينهما وما حولهما، ومن المفيد القول أن الوهميات الجنسوية هذه لم تكن صناعة إقليمية أو صناعة زمكانية في مرحلة بعينها ولا هي حكر على صانع خرج لتوه بصناعته هذه منفرداً، بل هي في واقع الأمر صناعة عامة يصلح القول فيها أنها تاريخية عالمية صنعها الرجلُ من حول نفسه ومن حول من استغرمه واتخذه غريما، وصنعته المرأة بدورها في جزء منه على ذات المنوال، ثم اشتركا تالياً في صناعة معقّدة من حولهما معاً إيغالاً في التمويه وذهاباً في مرحلة الخداع المحكم!

وإذا كان مفيداً أن نتذكّر أن أحوال المرأة والأنثى تحديداً ليست بأفضل حالاً في بؤرة هذه الوهميات من لدن أمم أخرى وشعوب أخرى بثقافاتها وحتى تلك التي نعنبر مصدراً موحياً للحضارة الغربية الحالية، فإن الأكيد أيضاً أن حال المرأة الأنثى على امتداد التاريخ العربي الإسلامي كان أفضلَ كثيراً وأكثر عدلاً مما هو حال أي ِّ فترة أخرى أو ثقافة ٍ أخرى رغم محاولات صناعة الوهميات الجنسوية الموجهة هذه المرة في حربها على هذه الحضارة ومحاولة تشويهها والنيل من مكاسبها في هذه القضية، وليس حال المرأة العربية اليوم بماتٍ بصلة ٍ إلى هذا الموروث المنقول بحال بل هو وضع أشبه بالمسخِ فلا هو حال العربية الجاهلية ولا هو حال العربية المسلمة، لا طابق وماهى حالها في الغرب ولا بقي محتفظاً فيه بسمات الشرق فجاءَ أعرج أعوجَ تسهل فيه الانقيادات إلى صناعة الأهواء والأوهام ويمكن استغلالها إلى حد كبير.

كانت بؤرة عملية صناعة الوهم من حول قضية المرأة ما استنفذه بعض المغرضين من التعرّض لآية القوامة في النص القرآني الكريم وتفسيرها على أساس الجنسوية وإطلاقها عامة لتحكم بعد ذلك النظرة غير المتساوية لحال المرأة وليصنع من حولها قضية المرأة في ثقافة المنطقة، والحقُّ أن أصوات مفسرين كثر بحت لتنبيه إلى أن القوامة قضية إدارية في نطاق (المرأة والرجل) حاملةً المفهوم الأسري تفضيلاً وليس جبراً لأسباب يصلح فيها عنصر المغالبة وقبول مفهوم الانقلاب تالياً عليها فالآية تقول (بما فضّلَ اللهُ بعضهم ) معلولة على أسباب مبيّنة وربما بعضها مخفٍ ومع ذلك ليس فيها عنصر التحديد الإلزامي على نحو لو كانت قد جاءت على أساس (رفع الله بعضهم ) مما استخدمه القرآن في مواضع أخرى قاطعة في وصف رفعه العلماء والصالحين مثلاً !، وهي هنا على أيِّ حال ليست ثنائية (الذكروالأنثى) التي هي أساس الجنسوية والتي أورها القرآن في مرة لافتة على لسان زوجة زكريا بن عمران حينما أذاعت (وليس الذكر كالأنثى) على اعتبار ما كان شائعا في المجتمع لا على اعتبار ما يقره القرآن الذي قبل الأنثى ليعطي درساً لهذا المجتمع ولكل مجتمعٍ تالٍ في أساس نظرته إلى الخلق بالتساوي من حيث المنطلق إنسانية وخلقوياً دون الحاجة لأي تفسيرات أو محاولات تبريرات مضنية تنهض على أساس لمح فوارق بينهما في المبنى والمعنى والوظيفة والقابلية وسوى هذا!

وعليه فإن من انساق ناشطاً في صناعة الوهم في ثقافتنا وأصبح من أدوات هذه الصناعة كما فعلت مثلاً إحداهنَّ بكاتبها (الأنثى هي الأصل) ودارت من حوله نوال السعداوي في محاولة لإغناء هذه الصناعة في تفريعات إضافية واجتهادات غرائبية، أو كما انطلق عبد الله الغذامي في كتابه (ثقافة الوهم- مقاربات من المرأة واللغة والجسد) في مشروعه النقدي الثقافي المستوحى منهجاً غربياً غير ناضج المعالم ليغني صناعة الوهم هذه المرة من حول اللغة العربية غير صادرٍ عن إجابة السؤال الأكبر في هذه الحال والمفترض أن يكون بداية البحث أي النص القرآني ولكن الغذامي يدرك تماماً أن مشروعاً كهذا لو بدأ من حيث النص القرآني ماثلاً لن يكون هناك من فرصة للنفاذ حيث سيكون مضطراً للإجابة بنعم أولا فإن فعل وأجاب فهو إما خاسرُ قضية ٍ ومشروع أو خاسر مصداقية، إن مسألة النسق الفحل هذه كانت مسألة جانبها الصواب، فالذكر مثله كالنار معطٍ وهو آخذ والأنثى مثلها كالشجر آخذة وهي معطية فهل يستقيم الفصل بينهما على قاعدة التفضيل؟ وأيُّ تفضيلٍ أو تنافسٍ كما تدعي ثقافة الغرب تنهض لها أسسٌ فلسفيةٌ غير سقيمة في هذه الحال؟! لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ مسألة الجنس مسألة وحدة كلية لا يصحُّ النظرُ فيها بالاعتماد على فصل مكوناتها مطلقاً وكل ما بدأ من الفصل وصل إلى شرك صناعةِ الوهم فأصبح على بعد خطوةٍ واحدة من وهم الثقافة في ثقافة الوهم الجنسوية هذه!

- الصهيونية والأنجلوساكسونية مشاريع الوهميات من أجل وهم الثقافة !

مارست الصهيونية منذ ظهرت فصول حركتها ونشاطها من قيامها وبدئها صناعة الوهميات وهي لم تقم على صناعة الوهم فقط بل جعلت من نفسها أداة في صناعة الوهميات الأنجلوساكسونية على امتداد المراحل السابقة بحيث غدت في حلفٍ متين أداةً مرةً وغرضاً مرةً ولاعبٍ قويٍ مرةً أخرى، ولعلَّ هذه الصناعة قد أورثت المشروع الأنجلوساكسوني من حيث هو ارتكز على عدة شعارات أرادها مظلَّةً له نقاط الضعف والتناقض الأساسية فيه بحيث خسر درجة إقناعه وإمكانية الاحتفاظ بأبسط هوامش الصدقية له وقتاً أطول تمكنِّهُ من النفاذ إلى غاياته وريثاً لعدد من الوهميات التي سبقت الإشارة إليها في هذه المطالعة!

ففي حين ترفع الأنجلوساكسونية شعارات الحرية والديموقراطية ومساواة البشر والعدالة والسلام والتنمية ومحاربة التمييز العرقي، تعود لتمارس مناقضات هذه الشعارات على طول الخط وعلى مرحلتين مميزتين، الأولى: ممارستها ضد مناطق أخرى وثقافات أخرى وشعوباً أخرى والثانية: ممارستها في داخلها حتى على مكوّنات مجتمعاتها بعدما وصلت أزمة مشاريعها الخارجية الفاشلة إلى ذروتها وفي كلِّ مرةٍ كانت تصطدم بعقبة أو فشلٍ من هذا النوع كما في حرب الفيتنام مثلاً أو كما هو متشكّلٌ اليوم على هامش حرب العراق، ولعلَّ أبشع ما مارسه هذا الحلف مؤخراً كان من على منصّة الأمم المتحدة ومنظماتها الدولية وبسفورٍ جعل الصورة في أشدِّ ملامحها المقززة والمثيرة للغثيان!

إنَّ الأساس الذي بنت فيه الأنجلوساكسون حلفها مع الصهيونية عليه وقبلته ووضعت نفسها في خدمة محاولة تنظيف الصهيونية من الدرن العنصريِّ الأكبر، هو ذاته الذي أدانته في الوهم العرقي الفاشيِّ والنازيِّ، بحيث أصبحت في بؤرة التناقض مع ما ترفعه من الشعار الأول فيها ضد التمييز العرقي ومع الحرية، وحينما تحرّكت الشعوب وعبّرت عن نفسها بقوىً حيّةٍ أرادت تحقيق هذا الهدف وقفت هذه صفاً واحداً ضدها لتخرق بذلك ما تحاول أن تسوِّق نفسها على أساسه، بل وذهبت شوطاً أبعد في تزييف حركة هذه المجتمعات وأصواتها عبر حفنة ممن وظّفتهم لهذه الأغراض في مشروعها وحاربت دوما أيَّ عملية ديموقراطيةٍ حقيقيةٍ وأيَّ سعيٍّ ينتج قراراً قضائياً نزيهاً وعادلاً كما فعلت مع قرارات المحاكم الدولية وآخرها قرار محكمة العدل الدولية بشأن تصنيع الأقفاص في فلسطين، بل وذهبت إلى اختراق كل أسس السلام الدولي وتعريضه لخطر الحروب القاتلة ومغامراتها الطائشة تحت نشوة القوة الطاغية الصماء!

هذا الحلف الجهنميُّ القائم على صناعة وتصدير الوهميات لم يعد خصماً وخطراً لمنطقة بعينها بل لقد غدا خطراً كونياً سيما وهو يطلق صناعة الوهميات وثقافاتها المعولمة هذه المرة، بل لقد أصبح خطراً حتى على الشعوب التي يتصدّر باسمها لمغامراته الكونية هذه، وطالما بقيت هذه المنظومة الحلفية في تعارضٍ مبدئيٍ مع ما تحاول أن تتستر به فهي من حيث الجوهر مشروع تدميرٍ لا يقلُّ عن خطر مشروع التدمير الفاشيِّ أو النازيِّ بل هو في واقع الأمر يزيد عن ذلك كثيراً طالما هو يعتنق ذات المنطلق ويتحالف معه ولكنه يعلن ليل نهار أنه يحاربه ، وهكذا يصبح العالم الحرُّ الذي يغني مواله من خلاله هو العالم الشرير ويصبح العالم الشرير هو العالم الضحية دون أدنى مواربة وتتحوَّل هذه القوى بحلفها إلى طاغوتٍ وطاغيةٍ عملاق يسعى نحو إمبراطوريةٍ هاجمةٍ على العالم !

إنَّ هذا الحامل لثقافة الاستعلاء لا يمكن له بحال أن يكون مصدراً لحريةٍ ولا لديموقراطيةٍ ولا لخير ضحاياه، ومن يقع في هامش هذا من أصحاب ثقافة الاستسلام لا يمكن لهم بحالٍ إلا أن يكونوا أداة خداع جديدة وظيفتها الأساس هو صناعة وهم الثقافة وفي الطريق إلى هذا الهدف تصبح النتائج الوهمية القائمة عليها وهماً كبيراً أول ثماره وهم السلام الذي لن يكون إلا خدعة جديدة في مجال الوهميات وصناعاتها ولعلَّ بعضاً من نماذج هذه الثقافة قد أتى عليها كتاب الصديق بلال الحسن مؤخراً في كتابه (ثقافة الاستسلام) لكنَّ نماذج أكثر غدت أوسع وتحتاج معجماً لا محض كتاب وحيد !

هنا تنشأ في كلِّ قوانين الفيزياء المجتمعية القوة المضادة الوحيدة القادرة على أن تحوِّل هذه الأوهام إلى كومة كبيرة من ركامٍ فارغ يثبت للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الرئيس التي كرمه الله بها وحمله عليها في البرِّ والبحر ومن أجلها خلقه في هدف عمارة هذا الكون وضد مشاريع تدميره الخطيرة التي في كنهها يكمن الكفر الواضح بذلك كلِّه، هذه القوة هي قوة ثقافة الصمود والمقاومة حيث جوهرها الإيمان والتي تصنع بفضل تضحياتها ووضوح مرتكزاتها الرمح الذي يقتنص قلب الخداع النابض ويتكفّلُ بتحويلهِ إلى مجرَّد مرحلة من التاريخ!

أيمن اللبدي

15/6/2005

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|