{env}

الصفحة الأساسية > النثر > مقالات > نافذة ... أنهار

.

نافذة ... أنهار

السبت 11 نيسان (أبريل) 2015

GIF - 12.3 كيلوبايت

سلسلة مقالات 2001-2002

- الفن والثقافة

هنالك أكثر من رابط عضوي أزلي بين هذين العنوانين العريضين ، ولعل محاولة الوصول إلى هذه الروابط كانت وبلا شك محط محاولات عديدة على مر العصور ومادة خصبة للبحث والدراسة ، ومنذ أرسطو وتلميذه سقراط والمحاولات ما فتأت دؤوبة تارة لدى الفلاسفة وتارة لدى الأدباء والنقاد وأطوارا أخرى لدى العديد من مفكري الإنسانية ومتتبعي الشأن الثقافي والتراث الإنساني المتجدد دائما مع حركة الحياة وإبداعات الإنسان .

ولعل أرسطو في كتابه" الشعر" وكذا فعل كثيرا تلميذه أفلاطون في جمهورياته المتعددة قد دأبا على وضع الفنون الإنسانية تالية للفلسفة في المقام إلا انهما لم يفقدا إيمانهما بأن الشعر والأدب عموما موهبة ربانية والهام الهي تجود به ربة الشعر على هؤلاء الشعراء فينطقون بلسانها كما في مؤلفه أيون (Ion) ، وهكذا ذهب معظم ناقدي عصور النهضة الأوروبيون وعلى رأسهم شيلي Shelly في كتابه دفاعا عن الشعر ، وهي نظرة الكلاسيكيين من النقاد في أوروبا .

ولكن العرب وهم أهل القول والكلمة في مناحي الأدب المختلفة ومجالاته وبعيدا عن الفلسفة القديمة أبقوا الشعر والفن عموما في دائرة الموهبة طبعا ولكنهم زادوا بان الدربة تؤدي إليه ، ولعل ذلك ما استشف من حديثهم حول أحد أروع شعراء العرب عندما حكم عليه نقاد زمانه بأنه ما زال يهذي حتى قال الشعر ! والأمر بالأمر يذكر فان كثيرا من الأحكام النقدية في مجالس التحكيم النقدي منذ عكاظ ومرورا بمجالس الخلفاء العامرة كانت وبلا شك تحتكم في جزء مما تراه إلى حقيقة ثقافة الشاعر أو الأديب ومدى اطلاعه .

وان جاز لنا أن نجمل في هذا الموضوع رأيا نقول بان الفن مبتداه موهبة بلا شك ولكنها ترتكز إلى الثقافة والاطلاع كي ترقى إلى مراتب أعلى وتصبح اكثر جمالا وإقناعا بل وان بمقدورها حتى أن تصل إلى مستوى الإنسانية " ما يدعونه هذه الأيام بالعالمية " متجاوزة حاجز اللغة والتجربة الخاصة .

إن الثقافة فقط يمكنها أيضا أن تزيد من الذائقة الأدبية لدى المتلقي كي يصبح مستعدا للانتشاء في حضرة الفن الكبير وبدونها يبقى عاجزا عن التواصل الحميمي اللهم إلا استدراك واستشعار وخزات هلامية وبدائية يكفلها سيف الفن لكل متلق مهما كانت ثقافته ومستواها .

ومن هنا نضع لنا هدفا في هذه النافذة لا يمس فقط المواهب التي نحن بصدد إعطائها الأولوية في الخطاب والمكاشفة بل إنما هو لكل المتلقين بلا منازع لكي يصبح ميدانا عاما للتفاعل والاستفادة مما هو متاح وممكن وبذا يمكننا الاطمئنان إلى أننا سنحرك ولو قليلا عجلة تشكيل ذوق أدبي من نوع جديد يحسن التعامل مع الإرث الغني كما يحسن صيانة الواقع القائم وينظر بعين أكثر إبصارا إلى موطئ قدميه في المستقبل المرتقب .

- الشعر والأدوار المنظورة

كنت قد أردتُ أن أطلَّ من نافذة هذا العدد على موضوع ٍ من أهم المسائل الثقافية والتي ما فتأت تأخذ دورَها مادة ً للنقاش والتمحيص والنظر خلف عدد جم ٍ من منابر الفكر والأدب، ومنذ فترة ليست بالقصيرة والحديث حولها قائم ٌ بنبرةعالية ألا وهي مسألة الحداثة ولوازمها في الأدب والثقافة العربية ، أو ربما كنت ُ قد ذهبت إلى مسألة أخرى تشغلني منذ فترة وهي مسألة اللغة الأم وما يجري بشأنها في هذا العصر الذي اشتط في الإجهاز على ما تبقى منها .

ولكن سؤالا جاءني من إحدى الصديقات دعاني إلى تأجيل ذلك كله إلى نافذة قادمة والى الإطلال من خلال هذه النافذة على سؤال الصديقة العزيزة ومن ربما عنَّ له ُ أن يسأل مثلما سألت لاحقا أما سؤالها فكان : "هل تعتقدون أنه قد بقيَ للشعر دورا في حياة العرب وخاصة مع هذا التدفق الهائل والمتنوع في وسائل الإعلام والثقافة ؟ "

ولربما كان السؤال ليس بالجديد قطعا وبريئا كل البراءة يأتيك ملحاً من راغب في الوصول إلى الحقيقة وتجلياتها الرائعة أو حتى من طالب ٍ الوقوف َ على رأي ٍما، ولكنَّ سؤالَ صديقتنا لم يكن من هذا ولا من ذاك بل إن ما استقرَّ عليه ظني وأنا أقف على هذا السؤال أن له طابعا آخر بحيث لا يحمل إلا شبهةَ الاستفزاز وربما شيئا من المماحكة بين طياته كما تيقّن لي ، و كان ذلك في ظني طبعا هو أرحمُ من أن يحمل معنى ً آخرَ ربما كان أقرب َ إلى الشماتة بالشعر وأهله .

وقد كنت أفردتُ منذ فترة ليست بالبعيدة دراسة حول الشعر العربي وبعض ٍ من المسائل الأساسية التي تهمُّ متتبعي الشأن الأدبي والثقافي عموما والتي تزعمُ محاولة الإجابة عن هكذا سؤال من جملة ما تحاول الإجابة عليه وفهم جزء من الحقيقة مما يعتري مسألة الشعر من علل ، ومع يقيني بأن صديقتنا العزيزة قد قرأت هذه الدراسة وخلصت إلى قناعة محددة إلا أنها ألحّت في السؤال مرة أخرى ربما لأنها ودت لو نالت من شاعر أو أديب وان كان بحجمنا المتواضع وعلى حين غرة مثلا وثيقة اعتراف بوفاة الشعر وانقطاع دوره وأن لا أمل فيه ولا عاد يرجى منه رجاء وبالتالي يفرد أهله صوان العزاء ويستقبلون كل نادب ٍ ولاطم ، وبما أن جوابي لها لم يحمل المعنى الذي أرادته جاء ردها غريبا وتمنت لي الشفاء العاجل من تفاؤلي كما قالت ؟.

وإذا كنت قد بدأت النافذة الثانية بهذه الحكاية الطريفة فلأني لا أعتزم أن أعيد مرة أخرى النظر في ما ذهبت إليه في تلك الدراسة قطعا وحتى أقطع الطريق على من يهمُّ من باقي أصدقائي الأعزاء بمعاودة الكرة والسؤال مرة أخرى حول هذا الشأن.

ولعلي أعود فأقول أن ّ ما قد يكون قد تراجع من أدوار الشعر كثيرا هو الدورُ الإعلامي وربما هو بعينه ما يقصده ُ أكثر المستفسرين والسائلين حينما يعمدون إلى تلك الصيغة في سؤالهم تحديداً وقد يكونوا قطعا في ذلك معذورين إذا ما ذهبوا إلى هذا الجانب ، وقطعا نقرهم أن هذا الجانب فعلا قد تأثر سلبا أو كاد ينتفي تماما وذلك َ للتطور الهائل في وسائل الإعلام وما تحقق من تقنيات تبادل المعلومات وسرعة نقلها ، ولكنَّ هذا لم يكن على الإطلاق هو الدور الأساس للشعر في حياة العرب كأمة ولا حياة أي من الأمم الأخرى في المفهوم الوظيفي والتكويني ، بل هو ربما كان في ذمة الشعر وصية ً حتى يقيض الله للإنسان إسناد هذا الدور إلى شيء آخر أو آلة أخرى ينجزها في عصر قادم كما هو الحال ، وضمن هذا المفهوم يجدر بنا أن نشكر الشعر على قيامه بما اقتضته وثيقة الوصية واحترامه لصاحب الدور وتمريره لواء الإعلام الذي حمله عصورا طويلة إلى من قد قام يطلبه ، لا أن نعمد إلى أن ننكر عليه أمانته ونلومه على إخلاصه أو حتى أن نذهب إلى ادعاء نقصه وتآكل كينونته وننشر في الملأ وثيقة دفنه حيا.

إن الدور الجمالي وكذلك المؤسسي للشعر العربي ما فتأ حاضرا نلمس آثاره وتقع أعيننا على أثر خطواته الواثقة الرائعة كل يوم ، ولا يمكن إنكار ذلك ولا حتى المداورة في الاعتراف بذلك لصاحب صولجان عرش الفنون والآداب ، ان إيقاع دور الشعر خاصة ً في المؤسسات المختلفة التي قلنا أن أبرزها مؤسسة الحب والأرض والعقيدة هو في تعمق ٍ وازدياد ٍ لا

شك في ذلك ، طبعا هذا بالإضافة إلى الدور التسجيلي الخالد الذي يلعبه الشعر في حياة الأمم وخاصة العرب .

أما مسألة الجدال بشأن أي نوع من الشعر هو وما مرتبته أو درجته أو شكله فتلك مسألة أخرى ، ولعلنا نلحظ هنا أن شعر العامية أو ما يطلق عليه اصطلاحا الزجل أو النبطي حسب منطقة تواجده هو في ازدياد وانتشار بل يلعب دوراً في تكوين مصدر مستمر للأغنية العربية وربما أحيانا للمسرح العربي ، وقطعا لا يمكن لنا أن نقبل أن يحل الأدنى مكان الأعلى في هذا الجانب ولا أن نخلط الأمور ، ولكن من الناحية الوصفية العامة فان شعر العامية ما زال لونا من الألوان إن شئت أو حتى على أهون الرتب درجة من درجاته وبالتالي فان ما يحققه يعتبر قطعا في مصلحة الشعر بعامة ، ذلك أن مسألة الارتقاء إلى الشعر المتفق عليه تصبح عملية تالية لتطور اللغة والذوق والمجتمع وإعادة تربيته من جديد الأمر الذي ما زال ناقصا ومفقودا نوعا ما ولا يجب إغفال فضل عدد من المنابر تحاول ويحاول أصحابها القيام بجزء من هذا .

وإذا كان الشعر قد اضطلع بمهمة إسناد المسرح والأغنية بشكل واضح فانه أيضا قد عاد إلى نافذة ولو ضيقة ليحل َّ في ركن ما من غرف وسائل الإعلام الأخرى ، أذكر أن أحد أصدقائي قال لي مرة إن الرياضيات هي ضيف دائم للعلوم كلها لا تستغني عنه أحيانا وأحيانا أخرى لا تقوم إلا بها ، وربما أمكنني استعارة هذه الفكرة من صديقي لأزعم أيضا أن الشعر كذلك بالنسبة إلى الفنون والأشكال الأدبية الأخرى ، ولذا فانه باق ٍ بحكم بقائها وان تصوّر لها أن تختفي فهو لن يأبى أن يعود كما كان أبا لكل الفنون .

- الروبوتية ما قبل وما بعد !

تسمت الفترة الحالية بمساجلات وصراعات عديدة حول طبيعة المرحلة الأدبية التي يشهدها الأدب في المدى المنظور وطبيعة ما سوف يتلو ذلك في المستقبل القريب ويمكن القول أنه لم تخل مطبوعة أدبية ما أو حتى شبكية أدبية من إشارة فصيحة أو تلميح خفي إلى هذا الموضوع بعينه ، وقد شغل الأمر عددا من الأدباء والشعراء والنقاد فأدلى كلٌ منهم بدلوه ، ويمكننا القول أن جلهم قد اتفق على مصطلح الحداثة لوصف أدب المرحلة المنصرمة إلى عهد قريب واختلفوا حول ما سيتبع ذلك حتى توصل بعضهم إلى الصيغة السحرية القائلة بما بعد الحداثة وبدأ ت المحاولات النشطة من كل حدب وصوب نحو استقراء طبيعة وخواص هذه المرحلة أو لنكن أكثر دقة بالقول نحو محاولة استحضار سمات القوالب الصياغية لقواعد المرحلة المقبلة .

وقبل أن يختلط الأمر على القارئ لا بد من التوضيح بأن الحداثة "Modernism” كما في المصطلح هي احتجاج أدبي غربي وبصوت عال ومنذ بداية القرن العشرين على المرحلة الأدبية السابقة لها وخاصة الفترة الممتدة خلال القرن التاسع عشر وان تعددت التوصيفات الجزئية لمركبات هذا الاحتجاج ودرجة عنفه وصخبه ثم أثره وفعله في الواقع حقا ورافعة التغيير الحقيقية التي خلقها تاليا ، وربما كانت الدادية والسريالية والرمزية هي تجسيد لهذا الرفض المطلق لمواصفات أدب التقليد الفني للقرن التاسع عشر كمدارس أدبية وفنية أيضا بكل سماتها وخواصها التخليقية والانعكاسية الشرطية الخاصة بها ومنهج روادها ومريديها من جهة أخرى ، وان كنا لن نعمد إلى تفصيل تام في خواص وسمات كل منها وما اشتركت فيه أو اختلفت حوله ألا أننا لا شك متيقنين من أن الحداثة ترجمة مكافئة تماما من حيث المؤشر إلى منهج متمايز في الحساسية والأسلوب المؤسس لإصدار أحكام قطعية على ما سبقهما من أدب تقويضا له وهدفا في الحلول مكانه وفق منطق جدلي وديناميكي أيضا ، ويسوق عدد من المراجع أمثلة على رواد هذه المدارس في الأدب الغربي الحديث وقد يشيرون بالبنان لرواد هذه المدارس من أمثال مالارميه وأندريه جيد وفاليري وكافكا واليوت وجويس وغيرهم .

وعلى أية حال فان هنالك جملة من الملاحظات لا بد من الإشارة إليها في هذا الموضع أما أولاها فهي أن الحداثة كمرحلة هي سمة للفترة التي حددت لها كما سبق الإشارة إليه في مقدمة حديثنا هذا وهي بالتالي جملة كاملة من التصورات حول الأدب والفن من حيث الأسلوب والقيمة المعرفية الخاصة بها "ابستمولوجيا" وفي نهاية الأمر كنقيض تام ومباشر لمرحلة معينة سبقت عليها وهذا لا يشير إلى أية مرحلة بل لمرحلة معينة مما لا يدع مجالا للخلط بين الحداثة والمعاصرة وذلك لأن المعاصرة تقترن بالزمن التام المطلق بين سابق ومسبوق وبالتالي يمكنها أن تصف اللاحق في أي فترة من الزمن المستمر ، وبالتطبيق البسيط يمكن اعتبار الأدب العباسي في وقته معاصرا والأدب الأموي قديما عليه ، ولكن الحداثة ليست صفة صحيحة بحكم المصطلح لكي تصف هذا الأدب العباسي وان في زمنه ، ومن هنا نصل إلى ملاحظتنا الثانية والتي يظهر معها استخدام المصطلح المقنن والمتفق عليه أي الحداثة والحداثية مكان اللفظ المختزن الدلالة ، بمعنى أن الكلمة حديث في لغتنا العربية وهي نعت بيّن إنما تشير إلى ضد القديم قطعا في دلالتها وتشير قطعا إلى الجِدَّة والى عبور الزمن قافزا ولكنها رغم ذلك لن تحمل قطعا دلالة المصطلح المشار إليه ، وبالتالي فان من يقصد الحداثة بمعنى المعاصرة وصل إلى ما يريد ولكنه قطعا قد أضاف شكا ما حول مؤدىً آخر يتم باستخدام نفس الكلمة حينما يراد وصف هذه المرحلة الأدبية بكل مدارسها أو حتى ببعضها إن شئت .

والملاحظة الثالثة هنا تتعلق بالمصطلح والمصطلح عليه من حيث المصدر ، فالمصطلح أساسا هو مصطلح غربي وتوصيف لمرحلة عاشاها الأدب الغربي بكل أبعادها الزمانية والمكانية ووجدت لها دلائل وتطبيقات وشواهد من واقع الموروث النصي الواصل إلينا من هذه الفترة غربيا خالصاً ، وأما نحن فما كان إنجازنا سوى استيراد هذا المصطلح كما استوردنا كثيرا مما هو نافع أو ضار وفق إطار العلاقة بين المنتصر والمنتظر حتى لا نستخدم لفظة المنكسر إيمانا بأن الحرب لم تنتهي بعد، وهكذا انطلقت ألسن مثقفي العربية في بداية الأمر فرحة بما أنجزته من توظيف بقصد الإشارة إلى الإنتاج الأدبي والفني المعاصر بقصد الجدة ، ولا يمكن لنا قطعا أن نعمم ذلك إذ أن فئة ما قد أدركت المعنى الحقيقي للمصطلح وسعت إلى إيجاد أدب ينطق بالعربية لغة وينزل عند شروط الحداثة بقوة قانون المصطلح ، ولذا انفجرت في ساحة الأدب العربي من واقع تراجم قد أنجزتها لتطرح متحدية بفرح كبير نتاج هذا الاستتباع التام وبأشكال متعددة ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما أبدعوه عندما أطلقوا عليه "قصيدة النثر". إذن فقد نشط بعضهم في محاكاة مرحلة مر بها أدب غير العربية وبكل ما اشترطته هذه الآداب الغربية أو أصرت عليه واستجلبوا بذلك شعورا غامرا بالفرح وطالبوا أدبهم والمتلقي بأن يصفق لهم باعتبارهم حداثيين وهنا نشأت أزمة الصدمة بينهم وبين المتلقي وبدأ الفراق وتكوين مركب الأزمة وانصراف المتلقي عما استجلبوه له.

وهنا ترد الملاحظة الرابعة تحصيلا واقعيا ، فإذا سلمنا أن الأدب هو مرآة صادقة لواقع معاش فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض هائل وتضاد كبير لا سبيل إلى حله بالوفاق أو بعبارة أقل دبلوماسية باللف والدوران ، فأدب اليوت هو مرآة حياة الإنجليز تماما وهم ينتقلون من مرحلة اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية فكرية إلى آخر ذلك إلى مرحلة أخرى جديدة تماما وما قد رآه اليوت مثلا وسيلة ومنهاجا في التعبير عن ذلك أو في التعامل مع طبيعة هذا الانتقال بكل الملامح الإنسانية متسلحا بمبدئه في توظيف خبرة الثقافة والحضارة يختلف قطعا عما خبره جويس مثلا المتسلح بالوجود "النقي" الأولي وكافكا في التوجه إلى الميتافيزيقية وغير العقلانية وهكذا دواليك تبعا لتعدد المدارس الحداثية ومحاولاتها الإحاطة بالاشتراطات الإنسانية أدبيا والإجابة على ما تحفزه ، وهذا قطعا سمة لمرحلة لم نمر بها كعرب وبذات المواصفات التاريخية والحدود الانتقالية وحتى ربما لم نقفز عليها أصلا وان كنا قد استوردنا لاحقا بعضا من ثمارها الميكانيكية والآلية كمستهلكين طبعا أو حتى كنا لها في الجانب الآخر وقودا نحن وثرواتنا الخام ومنطقتنا الجغرافية من الناحية الجيوسياسية، فكيف يصح حل هذا المشكل وتحميل التاريخ والأدب ما لا يحتمل إذ قطعا لا ينفع هنا الاستيراد الذي يستهوينا معظم الأحيان.

وكما أن الأدب من ناحية أخرى ليس فقط مرآة ووصفا تابعا للتغيير الاقتصادي الأساس والذي ينشأ عنه بقية الانتقالات فانه ومن ناحية مضادة تماما هو أداة حقيقية ورافعة مميزة نحو التحفييز على التغيير نفسه بل والتغيير بالمطلق ، ولا يمكن لنا أن ننكر ذلك قطعا فهو دور أصيل للأدب والفن في حياة الشعوب ، فإذا ذهبنا إلى هذا المنحى فهل كانت محاولة استجلاب الحداثة أداة للتغيير نحو الأرقى والأفضل والأجمل كما يقتضى الباعث إليه أملا ، هل كانت فعلا ناجحة بحكم الناتج وشواهد الحال الراهنة خاصة وأنها كانت فجة تماما ومن غير ركائز نهضوية أخرى لا بد من توافرها لنجاح التغيير ؟

إن العرب في عصر عروبتهم الفذة وحينما استيقنوا الأمر الرباني بالقراءة والنظر والعلم والحكمة وسيلة أخرى فاعلة نحو التغيير "عدا الانتقال الاقتصادي والذي يتم فيه الانتقالات الأخرى تالية أي كعامل سلبي تابع" وليس كما أراده الله هنا منهم بأن يجعلوا التغييرات منفعلة وتابعة لهم لا أن يكونوا تابعيين لها ، لجئوا إلى الترجمة واستخدام المستورد هذا أداة للتغيير ولكن ركائز أخرى كثيرة قامت بواجب الإسناد الرئيس في هذه المنظومة كما أن الوعي التام والحكمة المطلقة كانت سيد الأمور أثناء عملية النقل وبعدها وتم قطعا إجراء التمييز والإضافة لاحقا لهذا المميز الذي تم توظيفه ، بمعنى آخر انهم كانوا قادرين على صنع المزيج الفعال إن شئت كيماويا لصنع رافعة التغيير هذه ، وضمن منظومة متكاملة وأيضا تحت مظلة الغلبة والتفوق الذي أفضى إلى الإبداع الحقيقي، فهل ذلك ما تم فعلا في عصرنا الحالي منذ أمد ليس بالبعيد مع أحفاد هؤلاء المبدعين ؟!

وهنا نورد الملاحظة الخامسة وهي أننا كعرب ومسلمين أيضا قمنا بذلك يوما ما وكانت هذه الخطوة ركيزة أدت إلى ما تطورت إليه حضارتنا وأدبنا وفننا لاحقا وضمن رسالتنا الحضارية الإنسانية الفذة ، وهذا إنما يدلل قطعا على إنسانية وعالمية عقليتنا العروبية المسلمة المنفتحة ، أي أننا نرد بذلك على كل من قد يتهمنا بالانغلاقية والانعزالية أو الرجعية أو غير ذلك مما قد يتحفنا به مثقفو معجم مصطلحات الغرب مثلما هم يستخدمونها في غير مدلولاتها مع الحداثة مثلا كما سبقت الإشارة إليه . وهنا في الحقيقة يمكننا أن نفكر لماذا آل أمر الأدب العربي لما هو واقع فيه الآن من أزمات ولماذا فشلنا في مهمة قد أنجزها أجدادنا باقتدار كبير.

اذن فالحقيقة هنا لا تستجيب لا لمبررات الوصف ولا لتبريرات التطور والتغيير وكان أجدر لو أن تطور الأدب العربي تم ذاتيا وضمن منظومة متوازنة بين الحق والحقيقة والأمل والممكن والعوامل الذاتية الخلاقة والتي استهين بها والعوامل الخارجية الممكنة الاكتساب من دون آثارها السلبية ، الغريب أن كثيرا من المبررات قد سيقت للتغطية على هذا الفشل القائم ومن أخطرها إلصاق التهمة بالمتلقي واستخدام صيغة "لم لا يفهمون ما نقول "وهي صيغة ظالمة وجائرة في واقع الأمر ، وإذا اعتبرنا أن أعلام التجديد والتحديث الحقيقي في الأدب العربي والفن العربي من أمثال رب السيف والقلم محمود سامي البارودي وشوقي ومطران وحافظ وأبو ريشة وسيد درويش وغيرهم أدركوا قطعا هذا الفيصل بين ما هو ممكن وما هو مستحيل ونحن نتكلم عن ثلاثينات وأربعينات هذا القرن وبالتالي أنتجوا ركائز أصيلة غير ممسوخة ولا مشوهة لأدب وفن عربيين أصيلين لم تتخلق أزمة المتلقي أيامها ولا حدث الانشقاق العظيم هذا ، بينما حينما أسهم مبدعو الحداثة المسلطين على الأدب العربي وأدلوا بدلوهم وقع المحظور.

ومرة أخرى نؤكد لمن ألقى السمع وهو شهيد أننا لسنا ضد التحديث إطلاقا لا على مستوى الأدب ولا على مستوى الفن بل على العكس تماما وندرك أن المثقف الحقيقي هو ابن لعصره ومفردات هذا العصر بكل ما يقترحه من منظومة معرفية ومنظومة تجريبية ولكن بشرط أن تكون حركة تحديث عاقلة مدركة تعرف من أين تبدأ وماذا تريد وكيف تصل إليه بأكثر محصلة من النجاحات وبأقل سلبيات ممكنة ، إن التطور سمة الحياة والتحرر بؤرة حركتها لكن ليس إلى اتجاهات المنحدرات والانتحارات قطعا ، إن الإبداع الحقيقي هو ترجمة فورية واضحة مفهومة لا لبس فيها لأداء جسدي عقلي روحي في تناغم عظيم بين الوعي واللاوعي وهي فوضى النظام وليس نظام الفوضى .

وإذا كان لدى الغرب من اقتراحات محددة في هذا المستقبل المقبل كما هو الحال مع اقتراحات "العولمة" على الاقتصاد والسياسة والتي هي مكافئ واقعي لخبر ذهني وعقلي تام يرى في "الهيمنة" وليس فقط بفعل الدلالة فإننا نقترح على أدبائهم وشعرائهم من واقع قفزاتهم العلمية الخارقة ولا نشك بذلك قطعا أن يصار إلى استخدام مصطلح نقترحه عليهم وهو الروبوتية "Robotism”وهكذا يصير لنا أسبقية التدليل على المرحلة واختصار زمن السجال حولها إذ أن ما بعد الحداثة هو مصطلح خطر قليلا فهو لن يقبل تكرار ما بعد ما بعد ما بعد الحداثة وهكذا…. ونريحهم بذلك من التعب والمصطلح هنا متجانس مع عصر الرجل والقط الآليين القادمين طبعا، وربما فكرنا لهم بعد إنجاز استنساخ البشر بمصطلح جديد ربما يكون مثلا الاستنساخية "Clonism”وإذا كان ذلك حق لهم أن يبدءوا البحث فيه ، فلا أدري ما الذي سيعمد إليه مثقفونا وأدباؤنا في هذه المراحل وما سيكون عليه شأنهم .!

- لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟

أبدأ هنا من حيث انتهى الشهيد الفذ غسان كنفاني في رائعته الخالدة "رجال في الشمس " ، وان كانت هذه الصرخة المدوية محكومة باشتراطات إبداعاتها ضمن روايته التى أشرنا إليها آنفا إلا أن الحقيقة أنها تجاوزت ذلك إلى خارج حدود هذا الإبداع الروائي لتنطلق ناسجة من كل ما تحتمله هذه الصرخة برهانا حكميا وإضاءة فلسفية نافذة يغري بتوظيفها في مثل ما نحن بصدده هنا .

إن الحالة الراهنة للمشهد الثقافي والإبداعي العربي بشكل عام هي لا شك خزان كبير يتنقل على غير هدى ويسلم قيادته لغيره آملا أن يصل به إلى هدف ما وبطريقة سحرية دونما مجهود ذاتي منه ولا رغبة في المشاركة الجاهدة الواعية بتحديد المصير والمشاركة في اتخاذ قرار التوقف أو السير أو حتى الانتحار على طريقة من لديه خيارات حددها ربما مثلا الطريقة اليابانية المعروفة في هذا الاستدلال ، وطبعا في مثل هذا الواقع السلبي المر والمحبط إلى حد ما تنشأ لا شك رغبات وقوى جديدة ربما لا تزال جنينية نعم ولكنها تطمح إلى تغيير وتنوير يحدث فارقة على طريق تنقل هذا الصهريج المسرع إلى الهاوية علها تغدو يوما ذات أثر مباشر على كوابحه ليقف قليلا ريثما تعاد الخيارات إلى قاعدتها السوية .

والمنظار العام ليس سوداويا تماما وليس عبثيا بالمطلق لأنه لا يمكن أن ننكر وجود إشراقات ومحاولات هنا وهناك ولكن الناظم العام بينها لا زال مفقودا ولذا فان الأمل في أحداث نقلة مطلوبة نحو إيجاد وتوفير الظروف الموضوعية لتوليد هذا الناظم والعمل على تكثيف دوره وصيانة منجزاته ومكتسباته لا زال ضعيفا ولكنه ليس مستحيلا ، وان إيمان واقتناع أصحاب هذه الاشراقات بضرورة خلق الرافعة الحقيقية المؤدية إلى تكوين هذا الناظم هي لا شك شرط أساسي نأمل توفره سريعا قبل أن يصل صهريج المشهد الثقافي إلى هاويته المحتومة آخذا في طريقه المحسن والمسيء معا .

ولعل جملة المتغيرات الأساسية من حول مشهدنا سواء أكانت تلك الجارات من المشاهد الأخرى أم حتى في المنظور العالمي البعيد عوضا عن التقلبات السريعة لوقع الحياة المعاصرة والتي لا شك تعمل على استباق كل ما يمكن أن يتم تحضيره على الطريقة العربية القديمة والبطيئة كما هو مألوف سوف لن يلبث إلا أن يستوي مع عدمه في النتيجة المنطقية المتوقعة ، هذا إن كانت عملية التفاعل والتواصل تجري بمفردات وأدوات العصر الذي مضى وانقضى فقط قبل عشر أو اثنتين ، فما بالك إن كانت كما هو مشاهد إلى الآن ترغب في ما هو أدنى من ذلك ربما إما لجهل باستخدام منظومة الأدوات الجديدة وإما لعدم اقتناع بجدواها أصلا ، إن ذلك بلا شك هو الكارثة الحقيقية والفشل المريع المتوقع .

وضمن هذا الإطار العام من الانزلاقات المتعددة والاخفاقات المتتالية ربما والحال العام ليس أفضل منها حالا إن لم يكن ترجمة لذلك أو تخصيبا له إذ يستوي ذلك كله ، فان الحاجة إلى مراجعة صادقة وواعية وحقيقة للمشهد ومكوناته في كل ميادينه وساحاته يصبح فرضا عينا إن جازت الاستعارة هنا وربما نكمل فنقول أيضا ومن ذات النبع الموروث ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، ولذا فإننا نرى أنه لا مندوحة عن الدعوة إلى هذه المراجعة التي نطمح أن تأخذ شكلا منهجيا سريعا وشاملا في نفس الوقت وليس مجرد لقاءات احتفالية أو حتى كرنفالات تسويقية ربما ، وإذا كان ذلك مطلوبا فان رجالات بعينها تصبح مدعوة تكليف شرط وليس اختيار للقيام بهذه المهمة الحرجة لضمان شروط نجاحها وتحقيق الاختراق المأمول .

لقد طاب لكثير منا أن يؤمن بنظرية المؤامرة في كل حين ويركن إلى ذلك ممارسا وباقتدار فتي دور الضحية والشهيد ولكن ذلك كان ليؤتي ثماره في غير هذا الواقع ومع غير هذه اللحظات الحاسمة التي ستتهدد ليس فقط بنيانا خارجيا بل دعائم وأركان البنية الثقافية العربية في وجه هذه المتحركات الرملية العاتية ، إن جزءا من الحقيقة ربما يقبل نظرية الإرادة الخارجة والتأثير السلبي المتعمد القادم من خارج البنيان إما مباشرة وإما باستخدام حصان طروادة النشط هذه الأيام ، ولكن بقية المسار العام ليس كذلك مطلقا لأن الإرادة الذاتية فقط هي التي لا يمكن امتلاكها بالمطلق أو توجيهها بفعل هذا العامل إلا إذا أرادت ذلك عن قصد أو عن غير قصد وهنا مربط فرس الإنقاذ.

ومثلما أن ثمة حاجة للتنبيه بأن رجالا بعينها أصبحت مفترضة التواجد بمواجهة المهمة الحاسمة فان حاجة مثلها لا شك تبدو لأصوات تعزز مثل هذا النداء وتهتف بضرورة التصدي لهذه المهمة النبيلة في أسرع وقت ممكن وعندما تصبح مثل هذه الأصوات ليس فقط دقا على جدران الخزان وإنما أيضا انفجارا حقيقيا في مشهد الانزلاق الصامت المريع ونحن هنا نبدأ دقنا على جدران الخزان يا غسان .

- الإنجاز والإيجاز ....

عديدة ٌ تلك الملاحظات التي تتعلق بحال الفنون المشاهدة المسموعة والتي تبدأ بالمسرح وتمر بالسينما وتنتهي بالتلفاز ربما أو كما شئت الترتيب غناء وتمثيلا وتقديما وما يؤسس لها ، ولعل حال هذه الفنون الراهن من جهة وحال الأجهزة التي ترعى هذه الفنون في معظمها من جهة أخرى لا يقل إن وضعته في مقياس لمستوى التذبذب والتردي نتيجة عن نتيجة واقع حال الفنون الكتابية والتشكيلية في كثير من الأوقات والأماكن ، تلك التي نلمس ونشاهد على امتداد مساحة الحرف العربي وكثافة تفاعلاته المختلفة ، وكما يمكن للمتابع فضلا عن مواطن عربي لديه اهتمام بمثل هذا أن يلمس وبسرعة حجم هذا التشابه العجيب في المشهد العام لحالة هذه الفنون وحجم ذلك التوحد في مبررات معضلاتها ومعاناتها ، وكما لا بد أيضا لصاحب ذهن ٍ منفتح حتما أن يربط كل ذلك جملة وتفصيلا بواقع العرب والعروبة حيث أن هذه الفنون في محطة ما هي محصلة لإنجاز ترجمة فورية لحال مجتمعاتها التي تنتج والتي تتلقى أيضا.

هذا من جانب التعميم إطلاقا ، ولكن جانب الخصوصية في الأمر هنا أن هذه الفنون المشار إليها وكذا تلك الأجهزة الإعلامية من صحف ومجلات وفضائيات بل وحتى الشبكة المعلوماتية نفسها تستقي موادها وتستند ابتداء إلى الفنون الكتابية والتشكيلية فهي المصدر الأول و المعتمد الأساس ، وكما يعنُّ لبعض من الناس التدقيق في الخواص والصفات والمسميات أيضا فإن فنون الكتابة والتشكيل هي الفنون الموَّلِدة بكسر اللام ، أما الفنون المشاهدة المسموعة فهي الفنون الموَّلَدة بفتح اللام ، فإذا كان حال المصدر حنظل إلا ما رحم ربك فإن حال النتاج أبأس وأشقى وهذا استنتاج منطقي تماما ولا أحسب الشك يأتيه من أمامه ولا من خلفه .

وقد جمعتنا مصادفة لطيفة قبل نحو شهرين بصاحب فن مميز وخلق مميز أيضا هو الأخ العزيز نور الشريف وهو رجل نقدر له فنا واقتدارا عاليا في الأداء وتبادر إلى ذهني أن أسأله عن واقع السينما العربية وتحديدا في مصر وقطعا أعلم أن مثل هذا السؤال يستدعي مطولات كثيرة ولكني كنت أود فعلا أن أسمع من الرجل وهو لصيق ومن أهل البيت إشارة ما تقود إلى تفاؤل أو عكسه وحيث أن الرجل ما انفك متفائلا فقد أرسل إشارة تفاؤل معللا التراجع الواقع بأنه لظروف أساسها الاقتصاد ، لكن السؤال الأهم كان حول سبب عدم وجود أعمال جديدة من وزن هارون الرشيد وعمر بن عبد العزيز ! وكانت الإجابة بسبب وفاة من كان يكتب لنور هذه الروائع ، وهذا هو ما أردته هنا شاهدا ، أي أن الفنون الكتابية مسؤولة تماما في كثير من الأوقات عن حال مستوى الفنون المرئية المسموعة لأنها من تقدم مادة العمل لها .

على أن ما استدعى تخصيص نافذة هذا العدد لمراقبة زاوية محددة في هذا المشهد الضبابي الكثيف هو توفر عدد خصب من جملة ملاحظات بعينها تتعرض إلى ما بعد التحصّل على الإنتاج وما هو قائم بعد ذلك من غياب الرعاية الحقيقية للنزر اليسير من التميز والإنجاز المتأتي في عدد من هذه الفنون على يدي بعض المبدعين من أبناء هذه الأمة الماجدة ، وإذا كان الحال يصدق على فنون الكتابة والتشكيل فإنه أيضا لا شك صادق على الفنون الأخرى ، والأمر لا يقف عند هذا الحد فقط بل يتعداه إلى احتفالات وحالة من الاحتفاء غير القابل للفهم في كثير من الأحيان بضد التميز في كثير من الشواهد ، وهناك عدد من المفارقات العجيبة في هذا المقام حتى أن المتتبع للوهلة الأولى ربما ظن بمقاييس ذوقه وفكره الظنون وعمد إلى اتهام هذه المقاييس مباشرة ، ولربما أفرط فظن أنه لم يعد عصريا ولا عادت مقاييسه ربما صحيحة وهو أبسط الدرجات التي قد يقسو فيها بحكمه على ذوقه ومقاييس هذا الذوق والفهم ، ربما في ظل تناقض تلاؤمها مع هذه الضجة الكبرى من حوله .

ولعلنا نشهد فيما نشهد مسرحية هزلة تعمد إلى توزيع حصص بعينها هنا وهناك في مهرجانات ولقاءات مختلفة هنا وهناك سنويا ، وهي تقوم بتوزيع مثل هذه الجوائز على مختلف الأصعدة ولمختلف النتاجات المستحق منها وغير المستحق ، ولا يمكن لنا بحال أن نتهم كل ما تخرج به هذه اللجان بالشطط ولكن جزءا كبيرا من أحكامها غير مفهوم ولا هو بمستساغ ، وهذا قطعا لا ينال من جهد مجتهد ولا من حرص حريص ، ولا هو نقص في بؤرة بعينها ، وهو أقرب إلى العادة منه إلى الترفع عن مغريات الانجرار وراء ما هو مطلوب ، فالحال إما توزيع حصص وكفى الله المؤمنين شر القتال ، وإما تحكيم نزيه وتنفتح أبواب السخط على من يجرؤ بمخالفة المتبع المعروف.

وإذا ما أخذنا الفكر إلى خارج حدود حرفنا العربي أخذنا العجب اكثر مما نحن فيه والمتتبع معنا يرى تقييمات بعينها خاضعة لأهواء ومقاييس أشد مكرا وضبابية ، وقد يصاب المرء بإحباط عنيف فيركن إلى فسحة من التأمل في أحسن الأحوال إن تجاوز تلك الصدمة أو إلى حالة من الكآبة العميقة إن لم يسعفه حظه وتحمله إرادته وإيمانه بإنسانيته على تجاوز هذه المحنة القاسية على الضمائر والوجدان أيضا، ترى ماذا يحدث ؟! وهل فعلا وصلت الحالة الإنسانية إلى هذا المستوى من الانحدار ؟

وكنا دائما نحن العرب نستسهل أن نتهم أنفسنا وربما عمدنا إلى أن نشتط قليلا فنستعذب جلد الذات والإمعان في اتهامها ، ولكن يبدو أن العدوى أو الميكروب هو أكبر وأعم ، وتخبرك اختيارات اللجان العتيدة وخذ مثلا لجوائز مثل جائزة نوبل العالمية عن مدى هذا التغييب لكل المقاييس الإنسانية والفكرية اللهم باستثناء مقاييس الأهواء الشخصية والسياسية لأعضاء هذه اللجان ومدى سيطرة المسيطرين ممن لديهم الكثير من المصالح والأولويات وعلى رأسها انحناء الهام لمصالح هؤلاء الأولى في كل ركن من هذا الكون ، وهي مصالح أبعد ما يكون عنها قيم الإنسانية قطعا.

إذا كان هذا هو واقع جوائز الأدب والعلم فإن جوائزَ تحتفي بالفنون الأخرى وخاصة ما تقدم ذكرها هو أقسى وأشد اسودادا ذلك لأنه بالإضافة الحتمية لشبهة الأهواء تدخل عوامل أخرى أكثر رخصا وأشد سوقية ربما مما هو ملموس ويكاد لا يخفى على ذهن ولا على بصيرة، وطبعا هناك جوائز الأوسكار وما هو معروف عنها وحدث حول مثيلاتها ولا حرج ، وربما كانت جوائز الأوروبيين أقل تحيزا إذا ما أردت الحديث عن التعصب والشوفينية لدى أبناء العم سام .

وبالتأكيد فإن القيمة الحقيقية للجوائز مهما كانت تكمن في الجانب المعنوي لدى المبدعين في نفس الوقت الذي تكمن في جانب القيمة التسويقية عند غيرهم ممن يمنحها عرضا أو إصرارا لسبب من الأسباب ، وخطورة هذه العملية أنها إضفاء لثوب من الشرعية على تخريب هؤلاء وتزوير بليغ الأثر على الذوق العام وإضافة لمسمار على نعش الواقع المتردي للجانب الإنساني في حياة هذا الكوكب كما يرى في عصر طغيان أداة السوق وأدوات الإنتاج حتى على الجوانب الفكرية والروحية قسرا ودون تمييز لنوع المستقبل الذي سيؤدي له هكذا نهج لو استمر طويلا.

إن خطورة الجائزة مهما كان عنوانها ومصدرها أنها تفترض أساسا أنها إعلان نتج عن ممارسة عملية نقد حقيقية ومنهجية تستند إلى شرف هذه الممارسة وهي بالتالي دعوة إلى قدوة أو اتباع في جانب منها ، وهنا ربما يتسنى فهم المعضلة والإجابة المفقودة عن السؤال المقلق لماذا الاستمرار في الانحدار اطرادا ؟ ولماذا لا تتحقق فسحة من تغيير للأفضل ؟ أنا أرى جوابا على مثل هذا السؤال هنا ولو لم يكن كل الجواب فعلى الأقل جزءا لا بأس به منه قابع في هذا الموضع ، أعطوا المستحق وحامل الإبداع فعلا لكي يبدأ تغيير حقيقي في المشهد المتهالك أو انتظروا مزيدا من الانحدارات والسفاسف.

وعند هذا الواقع ربما سيكون الحال أفضل لو توقفت هذه المعزوفات الصاخبة غير ذات القيمة طالما أن من تحتفي به لا يعدوا ميكروبا يبشر بالفتك لا محالة بما هو قادم من مجتمعات وتجليات إنسانية فوق هذا الكوكب وليكتفي المبدعون بقيمة أعلى من كل ذلك هي احترامهم لما يقدمون ولأنفسهم وسط هذا الخضم من الأوحال الغزيرة.

- قليل من الصراحة كثير من الوضوح ...

عامان وكادا أن يتما دون تغيير ولا تغيُّر كبيرين في المشهد "الثقاسياسي" العربي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول المنصرم ، ولعل هذا المشهد لا زال هو نفسه وبذات الكثافة الضبابية فوق مستوى آخر إن شئت الارتفاع قليلا فيما درجت العادة على تسميته بالعالم الإسلامي الذي يشبه كثيرا ومنذ فترة ليست بالقليلة أكذوبة الموسم في جانب التسمية هيكليا وفعلا أيضا وللأسف الشديد حيث لم يعد يجدي الأسف ولا الوقوف على أطلال المنازل ودوارسها ..

وإن شئت الاستزادة فمرحبا بأكذوبة أخرى أكبر كثيرا خاصة بعد أن اتضح أنها كانت فعلا مفاجأة الموسم تحت وهج كاشفة العصر "انتفاضة الفرادة" تلك ، وهذه المفاجأة هي ربما صلحت ليعزي البعض نفسه بالفشل المشترك والعجز المتماثل أو لربما كانت شماعة أخرى ليبقى الحال رهن المتلاعب به وبمفاصله، تلكم هي أكذوبة العالم المسيحي ..!

ببساطة لم يعد هنالك في الشق الثاني من الصورة المركبة والمشهد المنظور على مستوى "الثقاسياسي" كونيا ما يستوجب توقفا حقيقيا أو التفاتا مبررا لا في قمة ولا في قاعدة إلا ما رحم ربك هنا وهناك من بعض من لازال لديهم عروق تنبض ولو بحياء كبير وفعل ينتبه أحيانا ويخفت أحايين كثيرة ، ولعل موسم العري المطرد سرعة مؤخرا لم يبدأ حتما منذ أمد قريب بل إن له جذور بعيدة أخذت تتشكل ولكن بسرعة قياسية في الآونة الأخيرة لتعلن عن نفسها وبشكل فجٍّ لم يعد يقيم وزنا لا لشرعة ولا لمقدّسات ولا حتى لإنسانية الإنسان نفسه والتي دأبت القوة العمياء المنفلتة من كل عقال على تسويق نفسها راعية لمعزوفة الرأي العام العالمي وحقوق البشر وهو ما ثبت زيفه وبطلانه في وضح النهار دون حاجة لتدليل ولا لقياس في أكثر من مكان وعلى مختلف الأوجه والصور .

بل لقد أصبح هذا المستوى الحالي والذي آل إليه هذا المركب المشكِّل لحقيقة آلة الإنتاج النشطة في قصة الحضارة البشرية مجرد وهم كبير أو في أحسن الأحوال مأساة مرعبة ذات وجه يعصف به السقوط المدوي ويتوقع له أن يصير إلى متحف الذكريات كما يشتهي له من نشط على مدار التاريخ مفسدا في الأرض مخربا في الكون ولا همَّ له إلا الوصول لأغراضه الخبيثة والمغرقة في أنانيتها القبيحة، وطبعا تعلمون علم اليقين هوية هؤلاء والذين ما بدّلوا في خبثهم وكيدهم تبديلا.

وإذا كان ذلك على هذه الصورة من السواد في الجانب السياسي من هذا المركب، فإن الجانب الثقافي ليس أحسن حالا ولا هو بمفازة من الاتهام بهذا الشطط والانحلال أو في أحسن الأحوال بما يشفع لنفي توصيفه بالعجز والشلل المقيتين أمام هذا الواقع الصادم ، ولعل صدمة من نوع ما طلع علينا به بعض من مسوقي الاحتفاء بقوة روما الغازية من منسوجاتها أو من المصفقين لهم من بني جلدتنا أو من غيرهم من مهزومي اللحظة ، فرية من نوع فرية نهاية التاريخ مؤخرا دليل آخر لا يحتاج إلى كثير من عناء إضافة شروح داعمة له من حوله على مدى القبح ومستوى السقوط الخلقي والفكري الذي وصل إليه بعض من منتمي البشرية صدفة هنا وهناك.

وللوهلة الأولى لا نعتقد بأن مثل هؤلاء قد اختلف كثيرا حاله وهو يمدنا بمثل هذه الترّهات عن حال أولئك الجالسين تحت قدمي قيصر وهم يشاطرونه النظر إلى أقفاص ضحايا سطوة قوته العمياء وهي تمر من أمامهم ، لا بد وأنه ذات الشعور السطحي القبيح بنشوة امتلاك اللحظة ولكن دون أدنى انتباه على ما بعد هذه اللحظة..!إنها في الحقيقة تماهي بين القاتل ومبررات القتل وجريمته البشعة سواء كان ذلك بكثير من التأنق في الإخراج أو الأنفة من الخطاب المقدّّم ذاته .

منذ عهد ليس بالبعيد شغلنا كثير من الأكاديميين والدارسين العرب بقضية الالتزام الأدبي مثلا وحشو أدمغتنا كما مكتبتنا العربية بفيض من هذه التحليلات والدراسات والمقارنات كما المقاربات ، واليوم نجد منهم من لا زال صامتا أو مستصمتا ، ولا أعلم إن كان قد مرّ بنا ما يصلح لأن يحرك آلة البحث أقوى من هذه المحركات التي تمرّ بنا ولا نمرُّ بها لسكون كل ِّ ما لدينا مما هو مخلوق للحركة ، أمر عجيب .!!

وما يصدق على الأدب هو حال الثقافة نفسها أيضا بكل ملامحها وصورها وأشكالها وقد يوجد استثناءات ما هنا وهناك لا تصلح شاهدا ولا تنهض لتشكل كتلة بعينها، ولعل حجة من استطاب دور الضحية وفن التقية مبررا لم يعد لها من وجود مقنع أو مثير للجدل من جديد، خاصة عندما بدأت نار القوة في أكل نفسها ومن كان قريبا منها لسبب أو لآخر في غمرة ما توارثه العالم عقب الحرب الكونية الأخيرة.. وإذا كانت مثل هذه الصورة الثقافية والفكرية على هذا النحو من النكوص أو الجمود فإن أسبابا أكبر من مجرد ذرائع سيف الحجاج وما درجت العادة على استخدامه مشجبا لتعليق القصور والعجز هو قائم ومتربع بؤرة مولِّدة لمثل هذه الصورة وستبقى إلى أمد قادم حتى وإن شهدت الصورة تغييرا جزئيا هنا وهناك بفعل مصادفة أو فعل طبيعي طاغ ٍ من الأرض أو السماء.

وبصراحة فإن تحالف الثقافة العربية نفسه يجب أن يكون تحت المجهر الآن وليس لاحقا للتوصل إلى مخرج سريع وآمن من غابة الحريق المضطرم حولنا، إن أساس وحادي الفكر والثقافة والأدب أيضا هو الإنسان ، الإنسان ذاته الذي أرسلت له الرسالات وهبط من أجل سعادته الوحي ، وهذا الإنسان كما أنه هدف المتجليات النبيلة فانه لا بد أن يكون محور اللقاء ثقافيا وأدبيا كما في باقي اللقاءات المحتملة.

والمبكي المضحك في مشهد ثقافتنا العربية حاليا هو نزوغ إلى الانغلاق حتى على قضايا تشعل الفرقة بين أجزاء مكونات هذه الصورة وهذا المشهد والاحتراب داخليا تارة على أسباب مذهبية أو عرقية أو لغوية أو مصلحيه قطرية ضيقة مما يزيد حتما من معامل تفعيل الانهيار التام وهذه المرة بفعل أيدينا لا بيد عمرو.

إن حليف ثقافة إنسانية الإنسان في هذا الظرف بالذات وعند هذا المنعطف هو نفسه حليف حقنا السليب ونزيل خندق واحد معنا في مواجهة لسنا وحدنا قطعا ضحاياها القائمين أو القادمين ، بل إن الهمجية الطاغية وامتهان كل نبيل سواء أكان مصدره السماء أم الأرض هي عدو صريح وواضح لنفسها يقع جزء من مسؤولية ردعها على من يؤهله فكره المستنير شرقا كان أم غربا لعب هذا الدور والاضطلاع بمسؤولياته.

إن انفتاح الثقافة العربية على كل الثقافات الإنسانية وتحالفها مع الملتزم منها بمثل هذا المنظور الإنساني كفيل بأن يجري أولا حركة فيما يظن به ضرورة الحركة مدخلا لتشكيل رافعة عامة لتغيير الجانب الآخر ، ولا يمكن لذلك أن يتم تحت ضغط من أي نوع كان أ وضمن مناخات مترددة ومستلبة، بل لا بد له وأن يتم بفعل الاختيار وبقوة القرار وبحجم مسؤولية أصحابه ودورهم المنتظر.

وحينما تتضح معالم طريق كهذا ويؤسس لنشاط من هذا القبيل بعيدا عن مسيرات الهامش التظاهرية وترتيبات اللقاءات التي فيها من الضجيج والدعاية أكثر مما فيها من العمل الحقيقي المثمر، فان جانبا هاما من واقع الحياة الثقافية والفكرية العربية سيشهد تحولات جذرية نحو آفاق حقيقية تمتلك زمام الفعل وليس الانفعال السلبي المقيت كما هو قائم حاليا نتيجة لتشوهات كامنة ومجموعة من الشعارات التي لم تبقى حتى لتظلل من يحملها طويلا أمام شمس محرقة لواقع مرير.

نعم بقليل من هذه الصراحة ربما فقط أمكن أن نستكشف إجابات لأسئلة كثيرة صدمنا ثقل واقع غلوائها مؤخرا واستوقفنا همُّها طويلا ، إن دورا هناك لمثقفين حقيقيين ولثقافة حقيقية وفكر مستنير لا زال ملحا ويستوجب همة ونشاطا لتجاوز هذه المرحلة والوصول إلى أفق جديد افضل حالا ولكن فقط بعد قليل من الصراحة يا أصحاب الفكر ومريدي الثقافة العربية الرائدة حتى لايقال بعد ذلك في الجميع " لا هنَّك أنقيت ِ ولا ماءك ِ أبقيت " .

أيمن اللبدي

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|