{env}

الصفحة الأساسية > النثر > مقالات > نصف دورة ...افتتاحية الحقائق الثقافية

.

نصف دورة ...افتتاحية الحقائق الثقافية

السبت 11 نيسان (أبريل) 2015

GIF - 5.1 كيلوبايت

سلسلة نصف دورة 2004

- أمير الشعراء .....!

بالمختصر المفيد، وباللغة المباشرة، لا زلنا نأمل من محطة فضائية "أبو ظبي" المحترمة، أن تتفضل علينا وتتعطف، وتقوم بتغيير الاسم المثير، ذلك الاسم الذي أطلقته حول ما تزعم القيام به، لبرنامج مسابقات الشعر الكلاسيكي العربي، وبعد ذلك يمكن لنا أن نشرع في إحسان الظنِّ بهذا العمل الإعلامي، أما قبل ذلك فإن عامل سوء النيّة وعامل سوء التوفيق متساويان!

هل تعلم فضائية "أبو ظبي" والقائمون على إعداد البرامج، أن هذه التسمية ليست تسمية مجرّدة؟ وأنها ليست كحال عملها السابق الذي قدّمته "شاعر المليون"، ولا هي مثل أي تسمية أخرى يمكن لها أن تلتقطها، لتوظّفها في زخم العمل الدعائي المحض، بعيداً عن أية أوهام فاقعة أخرى يمكن أن تنطلي على العاملين في الإعلام والتسويق!

هناك ستة أسباب، تستدعي أن يشرع المسؤولون عن ذلك، بالتفكير جدياً في تغيير هذا العنوان:-

السبب الأول:- أن هذه التسمية تلحقها وتلاحقها طائلة الحقوق الفكرية، والتي استهانت بها فضائية أبو ظبي ضاربة بذلك مثلاً للاستهتار، بالحقوق الفكرية والحقوق الابداعية ذاتها، التي تعلن أنها تريد الحفاظ عليها وتنمية قيمتها، ولو رفع أيٌّ من ورثة أمير الشعراء أحمد شوقي غداً شكوى وأثار قضية أمام المحاكم الدولية، لكسبها دون شكّ، فقيمة "أمير الشعراء " كلافتة هي تماماً كقيمة " محرر العبيد" في أمريكا أو كقيمة " المهاتما" في الهند، لأنها اكتسبت عن طريق إجماع وبيعة المعنيين في الأمر، وأصبحت جزءً من منظومة ثقافية وفكرية وتاريخية، أم أن فضائية أبو ظبي ترى أن ما يخص العرب والثقافة العربية، لا قيمة له ويمكنه مثل الدم العربي والمال العربي وما هو بينهما، أن يغدو مشاعاً لمن يرغب؟!

السبب الثاني:- أن هذه التسمية وهذه النتيجة، جاءت على أساس عملية مبايعة مشهورة، مثبتة في التاريخ العربي، لا أعتقد أن "فضائية أبو ظبي" تجهل هذا، أو أن معدي البرامج الثقافية يجهلون ذلك، وهي على أي حال ليست كحال نكبة حزيران التي أظهر الاستطلاع الرائي"التلفزيوني" في بعض الزميلات لفضائية أبو ظبي ، جهل عدد من المستطلعة آراؤهم معرفتهم بهذه النكبة العربية المدوية، وكأنهم ليسوا عرباً ، وهم في ذلك يستحقون أن يحتلوا المقعد الأمامي للرئيس بوش الذي كان لفترة بسيطة، مضرب المثل في الجهل الجغرافي والتاريخي، ولم تأت هذه التسمية نتيجة مسابقة تلفازية فضائية.

السبب الثالث:- أن التسمية تخص شعراء عرب، بعضهم لأي سبب لم يشارك العزيزة فضائية "أبو ظبي " كرنفالها المليوني، وإن كانت فضائية" أبو ظبي " تريد أن تجري تلميعاً وخلطاً للشبهات، فكان عليها أن تحيل الاستفتاءات والتصويتات المتوقعة لاحقاً، في جزءٍ قادم من برنامجها هذا، على الشعراء العرب، وليس على جمهور الناس، هكذا على الأقل تكون قد وضعت شبهة مبايعة لتمليك أو تقديم صفة تمس أولا الشعراء أنفسهم قبل أيِّ شخص آخر! فإن أصرّت على تحويل ذلك إلى الناس عامة، وأرادت أن تستقدم ما يدعم ذلك، نجيبها أن هذا كان مثله في سوق عكاظ مثلاً، طالما هي كما نفترض تريد القيمة التاريخية الأدبية، ومع ذلك فإن هذا السوق وأشباهه لم يكن ينتهي حاملاً صفة "أمير السوق " مثلاً ، والغريب الاصرار على مسميات الإمارة والملك والتشييخ والتسلطن والقيصرة وما سواها؟!

السبب الرابع:- أن العزيزة فضائية "أبو ظبي" ، إما أنها تريد أن تقيم برنامجاً واحداً فقط، وعندها ستعطي لقباً مثل هذا مرة واحدة، وتوثّق تلفازياً إشكالية شعرية عربية تالية، أو أنها ستقيم أكثر من برنامج وسيغدو اللقب التاريخي الحامل لجزء مما تبقى، من الاحترام للثقافة العربية وأحد أبرز مكوناتها وهو الشعر، متنازعاً عليه ومحل تجاذب وتتناول، وعندها ربما على فضائية "أبو ظبي" أن تسمي هذا اللقب بحسب دوراتها مثلاً، تقول "أمير الشعراء رقم 1" لعام 2007، ثم "أمير الشعراء 2" لعام 2008 وهكذا ! يعني هناك إشكالية منهجية أساس واضحة عياناً حتى في هذه التسمية التي أرادتها هذه الفضائية وهذه المبثة!

السبب الخامس:- يكمن في الاجراء والأداء، فالبيعة التي عقدت للشاعر "أمير الشعراء" أحمد شوقي بيك، رحمه الله يوم تم هذا الأمر، إنما كان على أساس منجز هذا الرجل بما قدّم لشعر العربية، ولم يكن على أساس درجة الاستخفاف التي وصلت إليها هذه المبثة وغيرها، في تناول الشأن العربي العام، والمثال هنا بضعة أبيات أو بضعة قصائد تقدّم! ، إن هذا يناقض جوهر ما استقدم من فكرة تمنح على أساسها، عملية تمييز وتمايز، وهو يشي بأن الفكرة كلُّها لا تعدو نسخاً لما جاورها، مثل هدّاف الدورة عند من يهزُّ القدمين، وملكة "الجمال" التي تهزُّ أشياء أخرى، وغداً لن نستبعد مماثلات أخرى، مثلم "ملك الشاورما" على أساس إنجاز مشطور ما، أو "أمير الجنس " على أساس القطعة ولم لا طالما هكذا الإمعان في اللامنطق هو ديدن ما يغشى الحالة!

السبب السادس:- أن التسمية ومحيطها التاريخي وما حولها تذهب في القيمة الثقافية، وزاويتها هذه لا يمتلكها أحد على الإطلاق، فهي عملية متوارثة وتخص الأجيال الثقافية والفكرية والأنساق المرتبطة بها، وبالتالي فهي ليست قابلة للتصرّف من قبل الأفراد والمؤسسات، إنها أشبه ما يكون بالوصايا والعهود والذمم!

لا يخفى أن هناك الكثير ليقال، ونحن نكتفي اليوم بهذا، ونأمل أن تستجيب هذه الفضائية إن كانت تريد خير هذا الذي تقول عنه، والمسميات متوفرة وبكثرة، ولن يضيق المعجم عن تسمية تدعنا نحاكم هذه التجربة، فننصف ما قدّمت من خير، ونؤشّر على ما يكون قد وقع من قصور، ولكن والحالة هذه فنحن نصطدم بالتسمية ابتداءً لا يسعنا إلا اتهام الحالة كلِّها.

أسجّل باسمي أولا اعتراضي على هذا الأمر، فهذا أمر يعنيني مثلما يعني كل شاعر عربي، وأدعو إلى إحالة ذلك أولا إلى الشعراء العرب فهم وحدهم أصحاب الحق، في القول من الجيل القائم، وليس عندي من إضافة سوى، أن أدعو فضائية "أبو ظبي " إلى الاستجابة، فالعودة عن الخطأ فضيلة لا يحسنها إلا أصحاب الفضل ، فهل أنتم منهم ؟

- مع هيكل والتاريخ والجزيرة وخلي السلاح صاحي.....

الفخراني يحيى ،ردّد على أسماع المشاهدين طيلة شهر كامل، عبارة "التاريخ كما يجب أن يكون" ، وعلى امتداد مسلسل رمضاني سابق، طبعا هو كتب هذا التاريخ ونشره كتاباً على الملأ، وبه استعاد هوية ضائعة مفقودة، واستبدل نكراناً باعترافٍ من الأسرة والأهل والجيران والزملاء، ربما كان يقصد بهذه العبارة، كيف يجب أن تكون عليه كتب التاريخ من الناحية المنهاجية الأكاديمية، ومهما كانت أغراض هذه العبارة، فلا أظنّها كانت تريد تزويراً في شاهد قبر التاريخ، لمن يعتبره جسداً خرجت روحه!

الحقَّ أقول لكم، أننا في شرقنا نولي التاريخ عناية، فنحن نستنجد به في وجوه الطغاة والظلمة والأفاقين، ولطالما صاح أصحاب المظلوميات على تنوّع ظلامتهم، واختلاف شكاتهم بأن التاريخ "لن يرحم أحداً "، بل إنَّ بعض أدبيات الحركات القومية والماركسية العربية نفسها، لكثيراً ما استخدمت هذه القولبة المستهلكة بحق تناقضاتها مهما كانت ثانوية، فضلاً عن التناقض الرئيس مع الامبريالية والاستعمار، هذه العبارة تقول "إلى مزبلة التاريخ "....

يعني ذلك أن التاريخ ليس جسداً فيما أظن، بل هو في واقع الأمر كائن حيُّ يتنفسن وهو أيضاً يخرج فضلات وعنده موضع تلقى فيه هذه الفضلات، وهذا الموضع سمّته هذه العبارة بالاسم، طبعاً لا شكَّ أن ليس من اللطيف استقدام مثل هذه المفردات المؤذية ، لكنه الجبر يا صاحبي ولا مجال إلا التجسيد مستذكراً بلاغة أبلغ العرب، وهو يقول لمن يسأله التوثيق ويطلب التوثّق : " أفعلت كذا ...ولا يكنّى" !

دعنا نجوز هنا إلى هناك، حيث الأستاذ والإعلامي محمد حسنين هيكل، يسرد لنا في فضائية الجزيرة المثيرة، في برنامجه ،الذي اختار الحديث عن التاريخ فيه ،من بوابة "تجربة حياة" ، ولا مشكلة في ذلك كلّه، فهيكل ألمعي والجزيرة مهنية في استيثاقه حول التاريخ، من خلال بوابة تجربته الصحفية المميزة، والرجل لا ينفكُّ يأتيك بالوثائق والمصادر، وكلُّ هذا مهني جميل ولا غبار عليه، بل هو مطلوب ومرغوب، ولكن هناك خلل ما برز بشكل فاضح، يستوجب السؤال والتساؤل!

الأستاذ هيكل، وعلى مدار عدة حلقات ،أعاد استذكار –راوياً- روايةً وتاريخاً هاماً، هذا التاريخ هو تاريخ قيام الثورة أو إن أردت الانقلاب الذي جرى على الملك فاروق في مصر، وغيّر بعدها صورة مصر والوطن العربي وتجاوزت آثاره إلى العالم، فالأستاذ هيكل أعاد سرد الرواية التاريخية – وطبعا من بوابة تجربة حياة- تماماً كما سردها في كتابه "سقوط نظام" ، وما سرده وأعاده على المسامع كما جاء في الكتاب ، هو ذاته الذي أشار إليه مؤخراً اللواء أركان حرب المتقاعد جمال حمّاد ، في كتابه "أسرار ثورة يوليو" والذي كانت قد نشرت فصوله على حلقات أخبار اليوم، واتهم فيه هيكل بالتلاعب.!

ما هو هذا التلاعب ؟

بسيطة، هو لعب بجسد التاريخ عند من يتعامل معه كجسد، فيستقدم دوماً شهادات لأموات جميعهم رحمهم الله، أو لعب بالنوتة الرئيسة في روح التاريخ مع محاولة ضبط الأوركسترا، بحيث لا يحدث نشاز، لمن يعلمون أن التاريخ حيٌّ يتنفّس...

الأستاذ هيكل -بحسب الاتهام -الصريح والواضح، والذي استخدم جملة "تلاعب" أدباً ، يعني كرصاص مطاطي، حتى لا يستخدم الطلقات الحية في كلمة "كذب" وتزوير" ، فقط قام بتقديم عقارب الساعة أربعة وعشرين ساعة تامة، أي يوماً كاملاً لتبدأ الأحداث الرئيسة يوم 19 يوليو بدلاً من يوم 18 يوليو، وطبعاً لم يكن ذلك إلا ليجد هيكل – كما يقول الاتهام- موضعاً يدسُّ له فيها دوراً ما، المهم الحكاية طويلة وتشير بالوقائع والمستندات وأيضا منها ما جاء على لسان هيكل نفسه، في مقابلات صحفية سابقة على حديث "الجزيرة" بعشرات السنين، بل إن الاسم الذي سمعه الملايين من هيكل وهو الضابط "توفيق سعد" وقصة لقاء عبد الناصر مع هيكل بفلسطين وجدت حولها أيضا تشويشاً كبيراً..

هناك قصة يبدو أنها مثيرة أثارها اللواء حماد، تقول وننقلها حرفاً حرفاً " قال المقدم متقاعد جلال ندا "دفعة عبد الناصر فى الكلية الحربية" فى مقال بمجلة الدستور اللبنانية الصادرة فى 18 أكتوبر/ تشرين الأول 1976 تحت عنوان "مغالطات تاريخية فى مقالات هيكل": صرح جمال عبد الناصر يوم أول أغسطس/ آب 1963 فى حفل اليوبيل الفضى لدفعة خريجى الكلية الحربية فى يوليو 1939 فى مقر قصر أنطونيادس بالإسكندرية أمام تسعين زميلا من الدفعة، وكان يستشهد بى فى تصحيح التواريخ عندما قال "إحنا قبل الثورة رحنا عند نجيب علشان نبلغه عن تاريخ الثورة"، ووجه إلىَّ الحديث "كان يوم إيه يا جلال؟". فقلت له "19 يوليو الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر". فقال "لقينا جلال وهيكل، وده صحفي، ولو عرف حاجة عن الثورة كنا رحنا فى داهية".

السؤال هو: لماذا لم يقم الأستاذ هيكل، بوضع النقاط على الحروف، ولديه من "الخميس " الوافر، أطال الله عمره؟ طبعاً نقصد الخميس اليوم وليس الخميس الجيش !

والسؤال الثاني : لماذا لا تقوم الجزيرة بطلب استيضاح، من المتحدث تاريخاً عبر منصتها المفتوحة، ولو كانت من بوابة "تجربة حياة" بصوت الشيخ الإذاعي الألمعي أيضاً وهو يعلنها بصوت جهوري ؟

هذا غريب فعلاً، ولكنه يبقى حق المشاهد، ويبقى حق الذين يتم اللعب بالتواريخ الخاصة بمنطقتهم، عياناً بياناً، أحياناً ، ربما ليس في هذه المرة، بل في مرات أخرى مثبتة، هذا سؤال تاريخي ومنهجي وذو مصداقية قومية ووطنية وفكرية، برسم الاثنين معاً، هيكل ومعه الجزيرة...

نتمنى فعلاً أن نقرأ تاريخنا العربي، ليس كما يجب أن يكون، بمعنى على هوى أيٍّ يكون، ولكن نحب أن نراه "التاريخ كما كان"، دون زيادة ولا نقصان، نريد ثقافتنا ببعدها التاريخي كذلك، نريد الفن بتاريخه كذلك ، وبقفلة الراحل الجميل فؤاد المهندس "موش كده و إلا إيه ..." ، فهل هذا كثير علينا ؟!...

هناك هذه الأيام أيضا في فلسطين هناك من يزوّر التواريخ على كيفه، بل وبوقاحة غريبة ينشر هذا علناً، وعلى رؤوس الأشهاد، هذا النفر بعضه سياسي وبعضه ثقافي، وتجد حوله الميلشيا المستأجرة، سوداء وصفراء، لا فرق، ومن خلفه أجهزة استخبارات وأجهزة إسناد، والحديث لا يجري عن فترة عقود بل فقط عن عشرين عاماً لم تزل طازجة في الذهن، وما أصابها الوهْن، على كلٍّ "يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور" ، آية لو وزنت بكل ذهب الكون لرجحته، تبقي لنا التاريخ فعلاً كما كان، فهل علينا أن ننتظر حتى نراه كما كان هناك؟...

طالما نحن في أربعين حزيران، وهو ليس بميْت ولا هو ذكرى، ونكاية في الصهيونية "غولدا مائير" ، لا نقيم له احتفالاً بالذكرى السنوية هنا، فإن أول وآخر الدروس المستفادة، ورغم أنوف السادتيين، كان دوماً وسيبقى دوماً، كما قالها المعلّم الخالد أبو خالد، ورددها من بعده العندليب برغم "لقافة " أخينا الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله هذه المرة، و"اللقافة" كلمة باللهجة السعودية يرادفها تنطّع كما أظن، كان الدرس هو ....."خلي السِّلاح صاحي ......"

- المعادل الموضوعي للكارثة....

ماذا يخيفُنا وَيُرعبُنا ،نحنُ المهمومينَ بالحركةِ الثقافيةِ الفلسطينية؟

هذا السؤالُ عام، ولأن موضوع البحثِ في هذا المقامِ، ليسَ بالمفتوحِ على مصراعيهِ، ولا بالمنطلقِ سعةَ طَوْقِ جناحيْهِ، وجبَ أن نحدِّدَ في المسألةِ زمناً فنقولُ : عقبَ اشتعالِ "غزة" واحتراقِها بدماء الأخوة والأبناء، ونُؤطِّرها مَوْضِعاً فنقولُ : في التأثير ِ وكتلة الصَّدمِ منْ حولِ العناصرِ الجمعيةِ في الوعيِ ، وفي التشكيلِ الوجداني الثقافي الفلسطيني ؟

ذهبَ كثيرُ من الباحثينَ ،إلى القولِ بأنَّ الملاحظَ في مسيرةِ الحركة الوطنيةِ الفلسطينيةِ، وعبرَ العقودِ الماضيةِ، أنَّ السَّقفَ السياسيَّ لهذه الحركة، يتلاقى عكسياً مع زخمِ أداءِ وتضحياتِ الشعبِ العربيِّ الفلسطينيِّ، في صراعهِ المفتوحِ من أجلِ حقوقِهِ الوطنيةِ المسلوبة!

نعم، هذهِ ملاحظةُ جديرةٌ بالمراقبةِ فعلاً، ومع اختلافِ هذهِ الحركةِ في الرؤى والبرامجِ، إلا أنَّها جميعاً، تجدُ طريقَها دوماً إلى تحديد متوسطَ السقفِ هذا، مطلقةً عليهِ ما تدعوه" الحد الأدنى للثوابت الوطنيةِ"، وهيَ تتعاملُ في هذا الأمرِ مع موازينِ القوى الذاتيةِ والإقليميةِ والدوْلية، لها أدواتُها ولها شأنها.

في مسارِ الحركة الوطنيةِ السياسيةِ في فلسطينْ، تعتبرُ اليومَ مثلاً أنَّ الخطوطَ الحمراءَ حيثُ ما تبقى من الحمرةِ ، هي القدسُ عاصمةً لدولةِ فلسطين العتيدة، وَعودة اللاجئين والنازحين الفلسطينيينَ مع التعويضِ، واستعادة أراضي الضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة، موطناً لتشكيل هذه الدولة الحلم.

من المعلوم تماماً، أنَّ هناك برنامجين معلنينِ لاتجاهينِ في هذه الحركة، يمثلان غايةَ الهدفِ النهائيِّ في هذا النضالِ عبرَ مسيرته، أحد هذين البرنامجينِ يرى أن دولة فلسطينية علمانيةً لكلِّ سكانها، على أرض فلسطين التاريخية هو الهدف والحلُّ، وعبّرت عن ذلك دوماً فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، أما الآخر وهو الذي نشط في ثمانينيات القرن الماضي، فيرى أن الحلَّ النهائيّ والهدف والحلَّ هو في دولة إسلامية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وتمثّلُ ذلك القوى الإسلامية.

حسناً، هذه المعادلاتُ وهذه البرامجُ والممارساتُ، لا تتحركُ في الفراغ، بل لها منطق الحيوزات، وهي تأخذ هذه الحيوزات في المجال الحيوي الفلسطيني الخاص بشعب فلسطينْ، وبالتأكيد فهيَ تؤثِّر وتتأثر بوقائع كثيرة على الأرض، منها دكتاتورية الجغرافيا، ودكتاتورية المصالح وتقاطعاتها.

في الجانب الثقافي، فإن المعلوم أنَّ هناك لغةً وأدواتٍ مختلفة، تحكمُ النابض الثقافي اليومي والتاريخي، وأنَّ ذلك طالما كانَ هو الجدارُ والحصنُ والقلعةُ الصلبة، التي تحمي مشروع هذا الشعب الإنساني والحضاري، ومشروعيته التاريخية والوجودية معاً.

إذا كان من الممكنِ في الجانبِ السياسي للحركة الوطنيةِ، أن تناورَ من حولِ الصراعِ بأدواتِ المناورة، وتعملَ على تحقيقِ بعض التراكمات، متخذةً الحدود الفاصلة بين عمل الاستراتيجيا، وبين عمل التكتيك، فإن لا مجالَ في الجانبِ الثقافي على الإطلاق، لاستخدامات من هذا القبيل، ذلكَ لأنَّ الجانب الثقافي، يتعامل مع الرواية الثقافية التاريخية والإنسانية، لأي شعبٍ من الشعوب، ولأن مقدار الانزياحِ عن هذه الرواية، سببُ كافٍ لزعزعة القيمة الحقيقية للرواية برمتها.

إن هنالك مجموعة من المحددات الأساسية للرؤيا وللمسار الثقافي الفلسطيني، لا يمكن بحال التهاون في اجتيازها هبوطاً عنها، لأن هذه المحددات هي القيمة الفعلية، وليست كما في المجال السياسي هي علامات للقيمة من حولها ، حيث هي مجرّد تطوير لفنّ الممكن والمتاح في الحركة والنشاط، ولعلَّ هذه المحددات والأسس التي لا تقبل التجاوز ولا التحوير، تدور حول عناوين ثابتة يمكن تعدادها بالتالية:

أولاً: الرواية الثقافية والتاريخية الفلسطينية: بما تحتوي من أسئلة الهوية وأسئلة المثاقفة.

ثانياً: الوجه الحضاري والإنساني للرواية: معتمدا ركائز وحدة الشعب الفلسطيني ولحمته.

ثالثاً: الوجه الأخلاقي للرواية: متسلّحاً بحق المقاومة وحتمية العودة وتكاملية التراب الوطني.

هذه هي أسس المسار الثقافي الفلسطيني، وعندما يتم اختراق أيٍّ منها، لأي سبب من الأسباب، تكون الكارثة محققة من حول هذه الرواية، ولذا فإن المسارات الثقافية المتأثرة، بانخفاض السقوف السياسية، هي مسارات خطرة وعاكسة لأزمة حقيقية في ذات الوقت، على المسار الثقافي أن يبقى محتمياً بجداره الخاص، مهما كانت التعبيرات الأخرى من حوله، وعليه أن لا يكون لا باروميتراً لهذه الأعاصير من حوله، ولا أن يكون مرآة لها، بل يجب أن يبقى مشتغلاً بكامل الاستقلال داخل حصونه الخاصة، ويعمل وفق قوانينه الخاصة.

إن خلخلة أسئلة الهوية تساوي في خطرها، خلخلة الوجه الحضاري والإنساني للرواية، وهي بذات الوقت تساوي خلخلة الوجه الأخلاقي، وإن الحركة الثقافية الفلسطينية، مدعوة لأن تنتبه لهذه المحددات حتى تضمن، مشروعية وحتمية الانتصار المأمول، لأن هذه القيمة غير متأثرة بتقلّب الزمان ولا بتغيّر الموازين.

إن الجدار الصلب الذي لم ينجح حتى الساعة العدو في اختراقه، كان كامناً في هذه الرواية الثقافية ومسائلها، وإن خطورة ضرب لحمة الشعب الفلسطيني، تساوي- إن لم تكن أكثر- في مفاعيلها خطورة نقض الوجه الأخلاقي لهذه الرواية، أو التفريط بالوجه الأخلاقي لهذه الرواية.

خطورة ما جرى في غزة وما يتتابع حتى الساعة فيها وفي الضفة، متساوية في ضرب الوجه الحضاري للرواية، وبالرغم من ذلك فإن هذه الحركة الثقافية مدعوة اليوم أكثر من أيِّ وقت مضى لإنقاذ حصونها، مدعوة لأن ترفض التهديم الداخلي الذاتي للرواية، وربما أن قصيدة محمود درويش الأخيرة "أنت منذ الآن غيرك..." جاءت في هذا المسار المحذّر لتهاوي الرواية وتهالكها داخلياً، وهذا يحسب له ولا ينفي في ذات الوقت، ضرورة أن يتراجع في الجانب الآخر عن التهاون في مسألة إيجاد مساحة مصالحة مع رواية العدو، مما كان قد بادر في مساحة حول إمكانية بحث هذه المسألة في فترة ماضية.

نحن لا زلنا على أمل أن تتدارك القوى السياسية، وأن تتراجع عن مسار التهشيم الذاتي، ولكننا في ذات الوقت، لا يجب أن ننتظر حتى حدوث مثل هذا التراجع، بل لا بدَّ من ترسيخ ثقلٍ مقابلٍ يعمل مصدّات داخلية في النشاط الثقافي، لمنع التدهور والإنزلاق أكثر، هذه مسؤولية الحركة الثقافية الفلسطينية!

ليس مسموحاً لأن يتم التهاون في ذرائع مهما كان نوعها، تستقدم لتبرير أيَّ اختراقات أو تجاوزات في هذا الجانب الثقافي، ولا يمكن أن يكون ثمة مجال لتصالح الرواية الثقافية أو التنازل عنها، فأيٌ من هذين هو المعادل الموضوعي للكارثة.

لعل هذا هو أحد الأسباب الرئيسة التي تجعلنا، نقف مستشعرين فداحة الخطر، في الإجابة على هذا السؤال.

- ثقافة الإنتصار: صباح الخير يا هانوي.....

ثمة ما يدعوني للقول،بأنَّ الفيلم الأمريكي الأخير، والذي شاهدته في بحر الأسبوع الحالي، من خلال إحدى الفضائيات العربية، والذي قد تناول فترة الرئيس الأمريكي لندون جونسون، من أحداث الحرب الأمريكية على فيتنام، تلك الحرب الهند-صينية الثانية، بعد حرب الفرنسيين على هذه البلد،قد شدّ انتباه عدد من الذين شاهدوا هذا الفيلم، ولربما استحثهم على إجراء مقارنة سريعة ومتاحة، بين حرب فيتنام وحرب العراق.

وما أشبه اليوم بالبارحة فعلاً، فثمة عدد كبير من المتشاكلات، يصعب معها فعلاً ردّ المقولة التي تزعم أن التاريخ دولاب، ولربما في إحدى دوراته يشتط، فيعيد نفسه وإن بأسماء متغيرة لأبطال أحداثه، وقد لا تكون النهايات على ذات الحرفية، لكنها فيما يبدو تصبح قريبة جداً من واقع التشابه،فالحرب في الحالين على ذات نوعية المنظومة التبريرية، في مجابهة "الشيطان" وأسفل منها، وسادة "امتصاص دماء الشعوب وخيراتها"، وفي الحالين من نفرٍ أعمته الحقائق التي لا تغيب.

الأبطال الأساسيون في هذا الفيلم، هم الرئيس جونسون ووزير دفاعه روبرت مكنمارا، وبقية أركان الإدارة خاصته، وهما يكادان يكونان صورةً فعلاً، للرئيس الحالي جورج بوش ، ووزير دفاعه الأسبق رونالد رامسفيلد، وبالذات من حيث علاقة اقتناع كلٍّ من الرئيسين وإيمانه بوزير حربه حتى النهاية،وفي الحالين تقارن فساد حكومة "سايغون" واختراقها، من قبل "الفيتكونغ"، مع فساد حكومة منطقة بغداد "الخضراء"، واختراقها من قبل المقاومة العراقية، وربما قوىً أخرى.

تستطيع مشاهدة الرئيس جونسون يقفز إلى طائرته، في زيارة إلى سايغون لرفع معنويات جنوده، مثلما رأيت الرئيس بوش يفعل ذلك، ويا للمصادفة العجيبة في صباح ليلة مشاهدة هذا الفيلم، ويزور منطقة الأنبار في العراق، وهي على كلِّ حال ليست الأولى له لفعل ذلك،كما تستطيع متابعة الصراع عند جونسون، وهو يجد أركان إدارته تفرُّ، لدرجة أنه يرشّح مكانمارا لرئاسة البنك الدولي، وأظن الرئيس بوش فعلها أيضاً، إن لم يكن لرامسفيلد فقد وضع نائبه هناك، قبل أن يخرج بفضيحة أخلاقية مهنية ومهينة!

ليس هذا إلا متابعة للمشاهد ،فممارسة عملية إيجاد أوجه الشبه، وهناك الكثير ليتم فعله في رياضة من هذا النوع، بين واقع اليوم من جهة، وأحداث الأمس من خلال هذا الفيلم، من جهة أخرى، بيد أنَّ هناك ما تقرأه في أبعاد ثقافية لا مجال للقفز عنها، فهذه الأبعاد في حقيقة الأمر، ترسم من خلال هذه الأحداث منظومة ثقافية، يمكن أن يطلق عليها "ثقافة الانتصار"، تحسب أنها قادت الشعوب العظيمة إلى النتائج العظيمة، دون ريب ولا مراء.

في اليوم الذي تكون هذه الحرب، أي الحرب الفيتنامية على مشارف، الانتقال نحو أتون محرقتها، يعقد جونسون جلسة لأركان إدارته، ليسمع من التاريخ على لسان أحد هؤلاء، ملخصاً عن تصميم الفيتناميين ،من خلال جولة صراعهم مع الفرنسيين، و هو يستمع إلى ما قاله الرفيق "هو تشي من" للفرنسيين : إذا قتلتم عشرة منا، وقتلنا واحداً منكم، فالنتيجة أنكم ستملّون يوماً، هذه ملخص حكمة الشاعر القائد هو شي من، التي رفضها جونسون طبعا مستنداً، إلى نزقه وطيشه وخيلاء غروره الإمبراطوري، فماذا كانت النتيجة؟

الفيلم أيضاً يريك شيئاً آخر، هذه المرة هو يسلّط الضوء على الإرادة وصلابتها وعنفوانها، عند الشعب الفيتنامي، كما هو عند قيادته العظيمة، يريك جونسون مستمعاً إلى عرض، لمجموعة الأهداف التي وقع تصريحاً بقصفها وقد قصفت، مثلاً ذلك النهر العظيم الذي قصف الساعة الخامسة صباحاً، وفي الثانية عشرة ظهراً كانت تملؤه عيدان القصب والخيزران، صالحاً لسير المشاة وانتقالاتهم، وفي الرابعة من بعد عصر ذات اليوم، كان صالحاً لسير المركبات والآليات وحتى المدرعة منها!

منظر آخر في ذات السياق تشاهده، عقب قصف سكة الحديد الرئيسة، حينما هرع كبار السن ومن بلغت أعمارهم السبعين، لحمل مواد القتال المختلفة وتجهيزاتها، على دراجاتهم الهوائية، والصعود بها حتى الجبال، وتأمين وصولها في الموعد المحدد لقوات "الفيتكونغ"،وهكذا يدرك ذلك المشاهد أن عمق الإيمان وصلابة الإرادة، ليستا بمنال قوة وكثافة النيران حتى لو كانت محارق جهنمية، باستخدام القاذفات بي مثلاً، أو هذه الأيام طائرات الشبح وصواريخ الجوال" كروز"

الرجل الأمريكي من مجموعة كويكرز، والذي قام بإشعال نفسه أمام بوابات البنتاغون، وتحت أنظار مكانمارا محتجاً، على هذه الحرب التي أودت بأرواح حوالي الأربعة ملايين نفس بشرية، لم يهمله الفيتناميون أو ينسوه ، بل صنعوا في اليوم التالي له طابعاً بريدياً وطنياً فيتنامياً، وهو أمريكي وجنود بلده تدك قراهم وحقول الأرز فيها، لأنهم استطاعوا أن يقيموا في أنفسهم، أولاً ثقافة التصالح الإنساني، فهذا الأمريكي لم يكن رفيقاً شيوعياً، ولم يكن في بلد حليف أو من بلد حليف، ولا صلة له بالقصة إلا شعوره الإنساني، برفض هذه العدوانية البربرية من أقوى دولة في العالم، ضد أضعف شعب في العالم، لم يأت إلى هانوي لتطاله قذيفة أمريكية، أو جرافة صهيونية كما هو حال راشيل كوري في فلسطين، بل أعلن ذلك من هناك، ورأى هوشي من ما يكفيه من هذا!

هوشي من الشاعر الرقيق، والمناضل الحكيم، كان يقود جبهة التحرير الوطنية، ليس الشيوعية ولا اليسارية، بل جبهة التحرير الوطنية التي أرادت أولاً تحرير فيتنام، وطرد الاحتلال وبناء الدولة بعدها، كان همه "الخلاص الوطني" ، فكان في جبهته عشرات الأجنحة وفروع الأفكار والقوى، كان لها برنامج واحد حارب الجميع وفاوض الجميع، وأراد أولاً أن تتحرر فيتنام، طبعاً استفاد من الدعم السوفيتي والصيني، لكن "ثقافة الانتصار" كانت هي الأهم، وهي الإرتكاز الذي قاده إلى تحقيق برنامج التحرير أولاً.

المقاومة هي مشروع وحدوي، المقاومة هي نشاط تجمّعي، المقاومة هي إيمان بموروث الشعوب وتاريخها، المقاومة هي البناء على ما يجمّع ولا يفرّق، المقاومة أن تكون أولاً نفسك، أن تكون ثانياً صادقاً معها، المقاومة راية واحدة ، ومحبة واحدة، دون ذلك لا مقاومة ولا ما يحزنون.

نحن بحاجة إلى هذه الثقافة، نحن بحاجة إلى العمل الوحدوي، نحن بحاجة إلى الإيمان بأنفسنا واحترام ذواتنا أولاً، عندها قد نحترم أية أفكار وأية أيديولوجيات، تساعدنا في الطريق إلى إنجاز التحرير، وبعد ذلك تساهم في معترك البناء!

المقاومة هي صباح الخير يا رفيق هوشي من.....

وصباح الخير لهانوي ولبغداد ولبيروت وللقدس..!

- تميم البرغوثي : أميرها المضيّع .....!

هل من جديد لدينا حول مسألة "زار الفضاء" ؟

ليسَ من جديد لدينا حول هذه المسألة، اللهمَّ إلا أن تأتي النواتجُ أكثرَ إمعاناً في قبح الذنب وصلغه، وأن تظهر النتيجة التي توقعنا، على ذات السيناريو مطابقةً كأنما قد رسمنا مسار الرواية، وعلى ذات المنهجية الدرامية، وأن تختم بخاتم يرتقي إلى مستوى السماجة العمومية الفاقعة.

كنتُ قد انتبهتُ إلى حلقة تحضيرية بثّتها، منذ البداية مبثّة "أبو ظبي" الفضائية، إلى إجابة المتسابق الشاعر معتوق، وهو يلوّح في وجه مقابله المذيع بيديه، أنَّ هذا اللقب من حقه وسيأتيه لا شكَّ في ذلك، فقلتُ لجليسي آنئذ: هذا يقرِّرُ محسوماً ومنظوماً، وأراه قد فعل وكان الصادق الوحيد في هذا الزّار الذي رعته هذه المبثّة.

من حقِّ مالك المالِ أن يسعى في طلبِ ما بعد الراحة، هذا لا لومَ فيه ولا تثريب، وعلَّ إحداها أن تكون له من الألقاب ما يريد، ولكنَّ هذا جميعه في دائرة ماله وملكه، أما أن يتعداها إلى غير ذلك في ميادين أخرى، دونَ ما يسندُ في هذا الميدان المرغوبِ من أسس حقيقية غير تظاهرية، معتمداً ركنَ المال أصلاً ، فهذا ما لا أراه كريماً، ولا هوَ بجدير أن يؤسَّس له أو عليه.

كان خلفاء بني مروان وبني العباس أكثر الناس مالاً، في عصرهم وأجمعهم منه بما فتح الله على خزائنهم، حتى قال واحدهم :أمطري حيث شئت، فإن خراجك عائدُ إلينا، لكنهم في ذات الوقت كانوا في الأبرع شعراً وأدباً وفقهاً وبلاغةً، فثبت لهم ما هو من خارج الخراج عن حقٍ مؤصّلٍ بالقطع، وإنما بلغ من أمرهم أن يكونوا في نقّاد هذه الميادين، فيجيزون ويحجبون.

ليسَ مطلوباً اليوم ان تكون ذات الصورة، وعلى كلٍّ فإن التخصَّص والتخصيص ، قد أصبحا هما سمة العصر ولغته المعلومة، وما عادت الموسوعية إلا تاريخاً يشهد على ماضيَ الأعصر والدهور، وهكذا فإن مؤتمناً ومؤتمنينَ آخرين قد أسندَ لهم أمرُ ما هو خارج دائرة التخصُّص، فأعقبت أمانة أداء هذا الأمر على حقه في أعناق هذا النّفر، فإن أدى الأمانة على وجهها، كانت العقبى سلامة، وإن جاوزَ لزمه الخطل والضرر ولم يلحق بمن أولاهُ الأمانة غيرُ سوء الخيار في الإختيار، وأظنه مظلوماً مثلنا في متابعة المسار..

لا أراني منكراً على صاحبِ عملٍ موهبةً ولا عملاً، ولست بطاردٍ من الاعتباراتِ جميعاً، حق هذا أياً كانَ أن ينالَ الدعم والتشجيعَ والتبني، سواء من أجهزة حكومية أو أجهزةٍ غير حكومية، وسواء أكان هذا من بني وطنه القطريِّ الضيِّق، أو من بني وطنه القوميِّ الكبير، فهذا حقهُ وهذا أيضاً مطلبنا له قبل أن يكون مطلبه لنفسه، أمّا أن تجري عملية استحضار ديكورات ،لانتزاع ما ليس بحقه، فهذا يقودُ إلى عكس وظيفة الدّعم والمطلوب منها قطعاً.

في خليجنا العربي الساحر، مثلما في مغربنا العربيِّ الزاهر، ثمة نهضة ثقافية وأدبية ومعرفية، هذا لا شكّ فيه ولا مراء، وهناك عدة حركات ومدارس وأسماء تفرض احترامها، وكانت قد ظلمت هذه المناطق ردحاً من حقِّها في الاحتفاء بها، وندعو أن يتم تصحيح هذا من عموم الاهتمام الثقافي العربي، بيد أنها مثل غيرها تنوء بثقل طارئي الحلول في مشهدها، كأنما يراد الإنزالُ قسراً بالمظلات فيها، وإن صدق الأمر على الرواية، فهو قد سبق على الشعر، وإنَّ معالجة ذلك تبدأ من مصارحة النصّ وليس من فرضه.

للأسف الشديد فإنَّ البعض من أصحاب الثقافة الاستهلاكية، وطالبي الطيران في العنز، يصرّون على الإمعان في تحدي عقلية المتلقي العربي، ويبنون على جملة قواعد الميكافيلية وأخواتها، وقاموس الجوبلزية ومفرداتها، ويظنون أن تصديع السّمع بالنشاز وقتاً، يومّن لهم النّفاذ من طنينِ العبارةِ، إلى شريحة الذاكرةِ في الشعوبِ عن جدارة، وهذا أراهُ موطن الخلل والعلل في هذا السلوك المكشوف.

لقد سجّلنا باكراً إعتراضاً منهجياً وموضوعياً وعلمياً، وذكرنا عدة أسباب لا زالت قائمة في مثل هذه الهمرجات والطقوس،ويا ليتها بقيت عند هذا الحدِّ وانتهت عليه، بل أبت إلا أن تضيف لنفسها جملة مثالب ومقابح لعمري قد أتت على ما بقي من خيرٍ في مثل هذه المقامات، فأسبغت فصولها بمعيب الآثار التي لا أظنها إلا راسبةً حول مقترفي ذنوبها.

دع عنكَ أخطاء اللغة عند مقدّم الحلقات، ونزوع معظم من جلسوا إلى الحكم والتحكيم، إلى الإنشاء الصحفي في تقديم تعليقاتهم، والمفترض أن بعضهم له في الدرس النقدي ما توجّب عليه أن يبينه في نقده، ولكن كشأن هذا المظلوم مع الشعر والأدب في عالم العرب، بقي النقد في أعمه الأغلب انطباعياً إنشائياً معتماً، لا يصلُ المراد، اللهمَّ إلا واحداً أوسع من بابِ حقله في المسرح، فأعمل ادواته المسرحية حيناً، وأغفلها أحيان أخرى مسايرةً لجلسة الإنشاء تلك.

نمى إليَّ أن بعض الناس قالت ،فيما تلا أمر هذه الحلقة الأخيرة،أنَّ هناك تقصيراً ربما كان من بعض أجهزة الدعاية والإعلام في حقِّ بعض المتسابقين، ومنهم الشاعر النابه تميم البرغوثي، ولا أظنُّ المسألة في تأخير وتقديم تميم أو غيره كانت مسندةً إلى عاملٍ بعينه، بل لدي من الحدس ما يذهب تجاه تربيط المخرج على نحو خاصٍ بعينه كما بدأت، ولعل تميماً وقد أخرج من الحلقة السالفة، وأعادته ثقة المتلقي بما عنده غصباً عن السياق، هي التي فتحت المجال أمام تأكيد الرّغبة في أن تكون الخاتمة كما كانت.

تميم البرغوثي عندنا ،ومن حقنا أن نحكم من هذا المنبر، وبما لنا مما نثق في صلابة أسسه أن ينهض هذا الحكم من فوقه، صلباً قوياً وحقاً بائناً، هو "أمير شعراء مبثّة أبو ظبي" المضيّع، فإن كانت القدس ُ مضيّعة ً من قبل يا تميمُ، فمن قال لك أنَّ أكثر من وصفك بشاعرها سيلزمك؟

لا يلزمك في الألقابِ إلا نفسك، ولا يرفعك في الأسماء إلا قدسك، ولا يبلغُنَّكَ في القوافي إلا نبضك، فافرح بما عندك، وأنت أهلٌ لكلِّ رفيع، وأنأى عن كيد رقيعْ...

أجدت ولمعت ونفذت، وانك لعلى شعرٍ عظيم.....!

هل أميلُ إلى حكم كهذا تعسّفاً بحكم المواطنة؟

لا وكلا، وإني أزيد في الحجة فأدعو هذه المبثّة، إلى تعميم ما خلصت إليه وأعلنته من نتيجة، على جمهور النقد وجمهور الشعراء والمتلقين، وعرض هذا جميعاً عليهم، ونقبلُ بما يحكمون! وإن كان في ذلك افتتاح بابٍ آخر لمريدي الهدف الربحي من مثل هذه الهمرجات، لأني أظن بهم سيحولون الأمر إلى حلقات تلفزيونية مجددة يصاحبها مهرجان الاتصالات الهاتفية، ومحاصصة شركات الهاتف فيها!

أعتقد أن جملة الأمر ،هي في إعادة صور حكاية الجوائز إياها في عالمنا العربي، وطالما بقي الأمر على هذه الحال، فإن مصداقية هذه المؤسسات، ومصداقية إفرازات الحركة الثقافية والأدبية العربية، ستبقى على حالها ولن ترواح مكانها،كنا نأمل أن تخرج هذه الحكاية عن السياق المعتاد دوماً، لكن يبدو فيما يبدو أن قد صنّموا "عبدو"، وهكذا نرفض إلا أن نكون على حال سائر شؤون العرب في مسيرة النعام غرسَ رؤوسها في الرّمال!

أمس كان عندنا أسباب موضوعية وعلمية في هذه الحكاية، واليوم أصبحت هناك أسباب أخرى عملياتية من بطن هذه الحكاية نفسها، ولا ندري ما هي الأسباب التي ستدهم محصلة النظرة في هذه الهمرجة "التلفازية" في القادم من الأيام.

هل أتهمُ حكم لجنة "التحطيم"،كما وصفها الشاعر صلاح الدين غزال ؟

نعم أتهمها بأنها سارت على سياقٍ بعينه،وذلك فإني أرى أن مبثّة "أبو ظبي" أمعنت وأمعنَ صنّاع ثقافية الاستهلاك الضحل فيها، بحسب المنحى الذي قدمته، في هذا البرنامج تحديداً ، في الإتيان بثمرٍ "ضريع" لا يسمن ولا يغني من جوع، وصل بعضها أن يكون كحكم التي ضررها أكثر من نفعها،والشاهد أن السائد في عالم العرب اليوم، ليس فقط في الثقافة والفنون، بل في مختلف المناشط، أن الحكمة قد تبدّلت، وأصبح الإمعانُ في الخطأ، هو ، هو الفضيلة والفضل!

- حول القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009

كأي مشروع عربي هذه الأيام ولا سيما ما هو حول الثقافة العربية لا بدَّ وأنه يحتاج المراجعة، والأهم أنه سيكون محتاجاً لفحص خطوات الإعداد جيداً، ما يجعلنا قلقين حول مآل هذه التجربة وحظها من النجاح هو الخصوصية التي تتميّز بها مدينة القدس تحت الاحتلال الصهيوني منذ أربعين حولاً بالتمام والكمال، إضافة إلى مكانة هذه المدينة المقدسة المميزة دينياً وثقافياً وإنسانياً، وهي كانت ولا زالت قلب هذا العالم مهما تبدّلت الأزمان وتغيّرت الظروف.

سيكون الفشل في إنجاز أي إنجاز مهما تواضع حجمه ونوعه وأثره بالغ الأثر، ليس فقط على جهد الباذلين ومساحته من إيمانهم وحماسهم لهذا العمل، بل سيكون معيباً ومشيناً أن يلحق باسم هذه العاصمة المقدسة لفلسطين والعالمين العربي والإسلامي أيُّ نوع من التقصير والفشل، ولذا فإن هذه المسؤولية لا شكَّ عظيمة وحساسة وتحتاج فوراً إلى إعلان حالة طواريء ثقافية فلسطينية وعربية حتى أقصى حدود درجات اللون الأحمر منذ الآن.

المعنى المباشر لهذا التحدي الذي فرضته هذه الفرصة والتي نقف إزاء إقرارها موقفاً فيه من الرّغبة بنجاحه والأمل بحدوث هذه المعجزة العربية، بقدر ما كنا نأمل لو تم تأجيل مثل هذا حتى تحرير هذه المدينة وإدانتها لحضنها العربي والإسلامي والحضاري ، ولكنَّ الكلام فيما تم فعلاً سيصبح على قاعدة لو مدخلاً لعمل الشيطان، فلا مندوحة عن ضرورة التعاطي مع قبول هذا التحدي والنظر والتفكير والعمل من هذا الباب فقط وحتى إشعار آخر.

استمعنا إلى جملة من الآراء التي شكَّكت في النوايا فضلاً عن الذهاب إلى تعداد المحظورات من حول هذا التحدي، وكلّها وجهة نظر مقدرة ومحترمة ونكاد نشترك مع أغلبها الرأي ونشاركه نسبة التحفظ ، لكنَّ الواقع الذي يجب أن يتم التعامل معه اليوم: هو كيفية تحويل هذه المحظورات إلى نقاط قوة وإسقاط كلِّ سلبياتها المفترضة والتي يخشى من مضاعفاتها وتراكمها لا سيما وأن جلّها يعود إلى وضع المدينة تحت حراب الإحتلال بما يلقي بظلال من الشكِّ حول ما سيثيره أي خطأ في التعامل بحيث يحرف المؤشر إلى شبهة التعاطي مع هذا الواقع مورثاً خطيئة التطبيع معه.

في ذات الوقت استمعنا إلى جملة الشكوك والاحتجاجات حول اللجنة المشكلة فلسطينياً لهذا الغرض، وهذه نجدها محقة إلى حد كبير لأن حدثاً بهذا الحجم وهذه الخطورة لا يتوجب أن يتم التعاطي معه كبقية ملفات الإدارة التي سجّلت السلطة الوطنية الفلسطينية سجلاً حافلاً بسوء الإدارة وسلوكيات الفشل الإداري في كثير منها، وإذا كانت خطورة الخلل الإداري في بعض الملفات (ملحوقة) ويمكن تلافي بعض أخطارها القاتلة، فإن أيًّ خطأ في هذا الملف لن يكون ممكناً تلافي نتائجه الخطيرة والتي ستنعكس على مجمل الصورة العامة ثقافياً وإلى أمد بعيد.

في الواقع كنا نظن أن هذه المناسبة تحتاج إلى قرار بتشكيل هذه اللجنة من خلال منظمة التحرير الفلسطينية لتكون شاملة واسعة، ونحن نرى أن إشراك كل الجهود وكلِّ العناصر الثقافية الفلسطينية ضرورياً حتى أوسع باب ممكن بحيث يبدأ من الشتات وينتهي في الوطن المغتصب وليس العكس، نحن نسجّل أن هناك مؤشرات حقيقية تتيح مزيداً من القلق والتوجّس حول طريقة التعاطي مع هذا الحدث منذ الآن، فاللجنة المشكلة حتى الساعة لم تضع استراتيجية عمل ولا يوجد لها أي بند مالي يمكنها من الشروع في خطىً حقيقية.

مهما يكن الأمر، فإن عوامل نجاح مثل هذه المشاريع القومية هي بالأساس في المنجز الفردي والعطاء الطوعي الذي يؤديه ويقدمه المثقف الفلسطيني في الوطن والشتات، ولعلنا نثق تماماً بمقدرة هذا العنصر الأول البشري قبل أن تكون عندنا الثقة بالعناصر المادية من ميزانيات ومؤسسات وبالذات الحكومية منها، إننا نعوّل على القطاع الخاص الفلسطيني الوطني بمؤسساته والتي نعلم أن كثيراً منها وخاصة في مدينة القدس جرى إهماله منذ عقود ولم يستطع أغلبه الصمود أمام قوة الضغط الصهيوني أمامه فأقفل أبوابه أو كاد، ولكن بعيداً عن دكاكين الثقافة الخاصة بمؤسسات غير الحكومية أو ما يعرف (أن .جي .اوز) الأخيرة.

نتذكّر أن مؤسسة الدراسات في القدس والتي كان يقف عليها رمز من رموز نضالنا الوطني الفلسطيني هو الشهيد فيصل الحسيني كانت بمثابة القلب النابض الذي يغذي هذه المؤسسات وبمثابة ضابط إيقاع هذه الأوركسترا الثقافية الوطنية لعشرات السنين في صراع مع المحتل خلال سنوات السبعينات والثمانينات وأنها أنجزت أضعاف ما استطاعت السلطة الوطنية الفلسطينية أن تنجز في القدس ، وهنا دعونا نسأل ما هو البرنامج الذي كان متوفراً لدى السلطة الفلسطينية خلال عقد ونصف منذ انشائها لدعم هذه المؤسسات والحفاظ عليها وكم أنجزت من أهدافه؟

طبعاً الدور الكبير سيكون أيضاً على وزارة الثقافة الفلسطينية في السلطة الوطنية، وإن كنا نحترم وزيراً جاداً ومناضلاً ومثقفاً بارزاً مثل الأخ معالي وزير الثقافة اليوم د.إبراهيم أبراش ، إلا أننا ندرك معه حجم هذا العبء لا سيما ونحن نعلم أن وزارة الثقافة بدأت مؤخراً وفي عهده بضعة خطوات جدية لتغذية الثقافة الفلسطينية ورفدها ببرنامج حياة قياماً ونهوضاً من برامج السبات والتمطي المكتبي والمحاصصة الوظيفية التي كانت عليها في عهود سابقة على وجوده في مكتب الوزارة، ومع ذلك فنحن نثق أن للرجل قدرة على العطاء لن توقفه على أدائها جبال الاستلابية ومافيات الثقافة في مكاتب الوزارة التي تقبع اليوم في معركة هذا البرنامج في الخط الأول.

كنا نتمنى أن يكون الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين على خير وعافية لينهض في أداء دوره هو الآخر، لكن للأسف فإن حاله منذ فترة على سرير الشفاء من الشقاء، وليس أفضل منه حالاً عدة تجارب على هامشه هنا وهناك حاولت أن تقفز عن معيقاته فإذا بها تحبل بأضعافها، ومع ذلك فإن هذا التحدي يحتاج اليوم أن تتضافر الجهود وأن تسقط كل الحسابات الهامشية والجانبية مهما كان نوعها، وأن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، اليوم يقف المثقف الفلسطيني أمام امتحان لا ملحق له وعليه أن لا يتعذّر بشتى العلل والأعذار دون النهوض بواجبه.

ليس متوقعاً أن يكون الحال في نهاية الأمر هو خلق ازدحام مؤسساتي ثقافي من مسارح ومعارض واستوديوهات ومهرجانات وما تكرّس في عواصم العالم منها كان عبر جهود أجيال وأجيال، ونحن نقنع أن يكون على الأقل لدينا تظاهرة ثقافية بالممكن والحد الأدنى من هذه جميعاً، وليسعف النطق إن لم يسعف الحال، لكن من المهم أن يكون هناك استراتيجية صحيحة وبرنامج واضح لإنجاز ذلك، فحتى هذه الأهداف الصغيرة المتواضعة تحتاج إلى تضافر الجهود وتحتاج إلى الإرادة.

المثقف والإعلامي الفلسطيني الذي استطاع في مسيرة الثورة الطويلة وبأقل الإمكانيات أن يأتي بالمدهش الذي حرس وثبّت الرقم الفلسطيني في معادلة السياسة وصراع الوجود، وهو يرتحل من محطة إلى أخرى لقادر هو نفسه اليوم أن يأتي بفصل جديد من هذه المنجزات العظيمة والتاريخية، ولمستطيع أن يحفر بالصخر ليسجّل نجاحه وثبات عروبة القدس، نعم فهذه المعركة ليست فقط معركة فلسطينية بما تعنيه القدس لفلسطين وللشعب الفلسطيني بمثقفيه وجماهيره، بل هي معركة حضارية ضد التغييب والسلب والاغتصاب والتهويد والعنصرية والعدوان، إنها معركة مصيرية وعنوانها الذي اختير هو افتتاحية استعادتها يإذن الله.

إن جهود المثقف العربي والإسلامي في العالم أجمع وحيثما كان موقعه ودوره، يجب أن تظهر اليوم في مثل هذه المعركة بجلاء ووضوح شديدين فهي أيضاً دور مفترض لكل هؤلاء جميعاً وعلى قلب رجل واحد، بل وإن دوراً موجوداً وبارزاً لكل مثقفي العالم من الأحرار والذين لا شكّ هم عارفون أن هذا الموقف هو الذي يتيح لهم ترجمة فورية وغير ملتبسة لإنسانيتهم وحريتهم على حد سواء، لا مانع أن تقام نشاطات في عدد من العواصم تآزراً مع قيام هذه التظاهرة في الوطن المحتل، بل على العكس فإن هذا مطلوب ومرغوب ويحمل معادلة خطية واضحة في وجه سياسات العدو الصهيوني وحلفائه من الأجهزة الثقافية الدولية مفادها أن الثقافة الدولية والإنسانية تدين إجراءاتهم ولا تعترف بالأمر الواقع، وإذا كان أكاديميو بعض الدول قد أعلنوا مقاطعتهم لأكاديميي كيان العدو، فإن من باب أولى أن يعلن مثقفو العالم الحر ومناضلوه هذا الموقف عملياً.

وفي مجال الاقتراحات دعونا نأمل أن تكون هناك جائزة دولية لمثقفي العالم ممن سيشاركون بهذه التظاهرة باسم القدس، ولا مانع من تكرارها سنوياً ورصد الميزانية لجائزة القدس للسلام ، فإذا كانت لجنة نوبل أداة في ظن الكثيرين معولمة ذات دور سلبي ثقافياً وإنسانياً، فلتكن "جائزة القدس" إذن جائزة مضادة بدور نضالي وإنساني وحضاري ، والقدس هي أفضل عنوان في العالم لتكون باسمها جائزة السلام الحقيقية وجائزة الإنسانية الحقة.

- اجتياح «الاجتياح».........!

رمضان الذي مضى وما ودّعه من عيد، شهدَ فيما يتعلّق بمتابعة الدراما التلفزيونية، هرجاً ومرجاً كعادة ما بعدَ عرض هذه الأخيرة، وكان لافتاً عندنا منذ البداية حزمات الليزر الكثيفة للإضاءة من حول عنوانين، الأول منهما : تناول مسلسل «الملك فاروق» والثاني تناول: مسلسل « باب الحارة»، بينما هذه الكتل «الليزرية» الكثيفة في جهة أخرى، أسقطت ظلاماً دامساً من حول مسلسل آخر، هو مسلسل «الاجتياح» ، وهو الذي يروي مفردات الهجمة الصهيونية، ضد مخيم مدينة جنين الفلسطينية، قبل عدة أعوام.

الحقيقة المرة، أن في تفاصيل البقية من هذه القصة، « اجتياحاً» خاصاً ومن نوع مميز، ضد مسلسل «الاجتياح»، والأسباب في ظني أنها كانت ببساطة « سخيفة» و«مخيفة» في ذات الوقت كيف يجتمع ذلك؟ هنا مكمن الوجع....إنها « سخيفة» في مسألة تقديم مبررات، لاهتمام بهذين دون الأخير، وهي كذلك في تعليل التقصير، عن الإضاءة من حوله، بذات القدر الذي تم استجلاب الاهتمام، ولو كان موهوماً أو مصنوعاً، من حول الأولين....

وهي «مخيفة» في مسألة تقاطع السين والصاد، في مهاجمة هذا الأخير، ومحاولة إلباسه ثوباً لم يقده ولم يرتده، والأغرب المدهش، أن تكون بعض هذه السين، موغلة فيما تتهم به هذا الأخير، ليس فقط تطبيعاً وتزميراً وتطبيلاً، بل ممارسة لشتى صنوف الجريمة الكاملة في هذا المجال، وحاملة لرسالة النقيض، التي حملها هذا المسلسل حقاً ، فبعض هذه يحمل هم « أنسنة العدو »، ويهاجم رسالة « أنسنة الفلسطيني».....

أما الأنكى، فأن يحملَ قلمٌ باسم فلسطين، ليكون عوناً عليها، من مساحاتٍ ظنها ثقوباً، في الرئة، وهي ثقوب في الجدار لضرورة عمل الرئة!

هل هناك من يريد لنا ،أن نكون حبيسي صورة « عشّاق الموت » ، دون تفسير أسفل الصورة لما خلف وما بعد ؟

وهل هناك من يفرح إذا بقيت صورتنا، هي صورة مفرزات ماكينة « هوليود» وما هو معها؟

لا، نحن نموت، لنحيا، ونحيا لندافع عن حقنا فيها، وأيضا لندافع عن حقنا في الموت لها، وبها....

هناك ظهرت صورة حقيقية، «لماكنة الموت» الصهيونية، الماكنة التي «تقتل لأجل القتل».....هذه هي بصمة « الاجتياح »، فمن يهمه أن يغيّر هذه البصمة ؟!

الذين حاولوا أن ينطلقوا من منظومة «التسليع» ، وهم يفعلون ذلك دوماً، لا اعتبار لهم عندنا في زاوية النظر، ليس فقط إلى ما قالوه -وقد يبقى نفرٌ منهم إلى قيام الساعة يقول- ولكن إلى مجمل حركتهم في هذا المجال، فهم ليسوا أكثر من « تجار» ، حتى لو كانت عملية التجارة هذه غير مشروعة، أو غير إنسانية، أو غير أخلاقية، أو تمارس عن وعي أو غير وعي، حيث وعيهم إن حصل ، لن يبدِّل سعيهم ولن يغيّر من تجاه بوصلتهم، فهاجسهم ونابسهم، مجرّد "الربح النقدي" قبل كلِّ شيءٍ آخر، وهنا قد أراحوا، ولا أظنهم سيستريحون يوماً....!

ننظر تجاه من فعلوا ويفعلون، منطلقين عن فكرة ورأي، فهؤلاء أدعى بالمحاججة تحت قاعدة " لعل وعسى"....نحن لا نرغب أن تكون « فلسطين» فرض عين على كلِّ عيْن، فلتشاهد الأعينُ ما شاءت ولها أن تستريحَ حيثُ تقودها ضمائرها، ونحنُ أيضاً لا نتوقع على كلِّ حال أن تكون كلُّ الأوقات في ذاكرة الحزن، هذا بالطبع إن أدرك الوجدان حالة الألم والوجع، وفرق بين حالة الغناء لتستمرَّ الحياة، وحالة الغناء الأبله لتضيع الحياة...!

ولذا فالأمر ليسَ أن تشاهد من أجل الفائدة فقط، فلتذهب إلى مشاهدة لاستمتاع ولا حرج، لكن هناك في كلِّ الأحوال مقاييس لدرجة الوجدانيات في الجوّانيات، ولكل امرءٍ فيما يحاول مذهبُ، لا قلق في هذا منفرداً فهو صيغة العيش منذ أزل بعيد، إنما كلُّ القلق أن يجري التجديف عن سبق إصرار للتجفيف، وأن تغزل الحكاية هذه أيدي ظلامية وعدمية، وهنا مربط الفرس...

أقول لكم الحق، لا أرغب في التعمية ولا في اللغز، ولكن الذي تم ًّ تنفيذه على ملايين العرب، من بعض الأصابع والوجوه، وفي الإطار الثقافي والفني والإعلامي، هو في مستوى تجاوز مفاعيل « ثقافة الهزيمة»، ودخل في مرحلة توازيها ظلال جريمة « ثقافة الخيانة»، والفرق بينهما كبير، ونحن ندرك أننا نتحدث عن حركة فنية وثقافية هنا، والخشية أن تكون تمظهرات لقادم أبشع مما مرّ حتى يومنا، بحيث يتم تعديل القول إلى، « خرَّ من رأى».....

جميل أن عرضت شاشة وحيدة ،هي اللبنانية للإرسال ،هذه الرسالة الفلسطينية عبر مسلسل الإجتياح، وحقاً كنت لا أظنها قد تفعل، أما وقد خيّبت ظني فلها كل الشكر، وجميل أيضاً أن ظفرت هذه الرسالة «الكابوسية» بنافذة واحدة تطل منها، بل ذلك كان ضرورياً لحياة، ومستقبل ،وسعادة، أدوات الاستثناء في اللغة العربية!، إذ لولا ذلك لأمكن اليوم تشيع هذه الأدوات إلى مرقدها الأخير، ولأعلنا عن وفاتها عندما يتعلق الشأن بوصف واقع التعاطي الدرامي مع الوجع الفلسطيني كلَّ رمضان، ولو كان كلّ رمضان فقط...!

لست أدّعي باعاً في نقد الدراما والفن، ولست راغباً في تناول مفردات لغة هذه الصنعة، لكني أقول أن « باب الحارة " تختصرهُ بعض كلمات، وأن «الملك فاروق" تصنعه بعض رغبات، وبين هذين الإثنين ، احتفى القلم والأثير، بطريقة فجة مفتعلة، لتوفير بقية سيناريو "اجتياح الاجتياح» ...!

أظن أن رسالة مسلسل الاجتياح، لم تكن توصيف «جنينغراد»، ولم تكن شرح المشروح أو إعادة ندبه، فلسنا في فلسطين عموماً نحتاج « نادبة مستأجرة»، وكلُّ بيوتنا نواح ورثاء منذ قرن ويزيد، ولا يحتاج على الأقل من هو مثلي، ليعرف الكثير عن جزء من حياته، مرَّ بعضها عبر أصدقاء وزملاء ورفاق ، وأخرى عبر أساتذة ومعلمين، وهنا مناسبة لفاتحة على مقام شهداء الاجتياح جميعاً، وفي مقدمتهم أستاذي ومعلمي الشيخ رياض بدير، كانوا جزءً من شهداء وأبطال رواية هذه الرسالة التي جرى اجتياحها....

أنا أزعم أني أشاهد عباس النوري ، لكني لم أره إلا في هذا الاجتياح، وهذا رجل يستحق أن تتم تهنئته فعلاً، وأعلم عن مقدرة رياض سيف ، لكني وجدت إبداعاً مميزاً في رسالة «أنسنة الإنسان الفلسطيني» ، في الوقت الذي يشهد محاولات قديمة جديدة، «لأنسنة العدو» ، هذا رجل يستحق أن يتمَّ تبني مشروعه بعد تهنئته وشكره.المسألة عندي ليست فنية محض، المسألة عندي مسألة رسالة، عندما تتم عملية « صعلكة» ، على حادثة تقديم مجموعة « بواريد » لثوار فلسطين، في مبتدءات القرن المنصرم، وهي مسألة محشورة حشراً في السياق المختلف والفكرة الأخرى، لتسويق هذا المسلسل الباب الحارة ، على أنه تناول كلَّ مفردات الحياة العربية السورية آنذاك، وبضمنها هذه المسألة الهامة، من أجل عملية تسويقية محض، علماً أنَّ الجهد الشعبي في سوريا كان آنذاك أكبر من الصورة هذه بكثير، وأجلُّ وأعظم ، فهي عملية محيّرة، في ذات الوقت الذي يجري فيه اهمال قصة ثورة حقيقة كاملة في مسلسل آخر!

وعندما تتم عملية « إنزال باراشوتي» على التاريخ البعيد، وتناول أهم مفصل عربي في منتصف القرن الماضي، وهو أيضاً يتعلق بفلسطين وتضييعها، وممارسة محاولة تظهير لجزء هام من هذا التاريخ لحساب على حساب، ومن جديد بادعاء القراءة الدقيقة لوقائع، مظنونة بأنها مظلومة ومحجوبة، وفي ذات الوقت يجري القفز عن تاريخ لا زالت فيه حشرجة الحياة بعد، عرضته صورة مقابلة في ذات الوقت، تظهر فيه صورة شهداء فلسطين جميعاً ، من خلفيات مواقع التصوير، وأولها صورة الشهيد الخالد «جمال عبد الناصر»، ولا يتم تناوله بما كان ينبغي أن يفعل لمثل، لا شك هذا يثير الكثير من الأسئلة، ويورد الكثير من الظنون...!

أحييكم أيها الرائعون واحداً واحداً، وواحدة واحدة...، شوقي الماجري التونسي الفلسطيني، المبدع الجميل، والذي استطاع بكاميرته تلك، أن يبقي نوراً ولو كان وحيداً حول الرسالة والعهد، ونقبل جباهكم العربية أيها الممثلون، وللفلسطينيين منكم شهادة اعتزاز بهم، فقد استطاعوا أن يكونوا في مقدمة الفرسان، تماماً كما كان الأبطال الذين روىسيرتهم الاجتياح، وحمل رسالتهم النبيلة....

هذا عمل فداء، لا يحسنه إلا أهل وفاء...

فشكراً لكم .

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|