{env}

الصفحة الأساسية > النثر > مقالات > مشاركات

.

مشاركات

السبت 11 نيسان (أبريل) 2015

مقالات مشاركة صحف ومجلات

- أدب المقاومة الوسيط

بين يدينا في هذا الموضع عدد من النصوص التي أريد لها أن تعطي نبذة عن الأدب الفلسطيني بعامة، فاجتمع فيهن ثالوث الثقافة الفلسطينية من جيل الوسط، وهذا الجيل الذي نقصد هو ذلك الذي أسس في مرحلة حاسمة من مراحل الانتقال الوجداني الفلسطيني سيما وأنه قد عاصر النكبة الكبرى في فلسطين وشهد الفعل الأكثر سطوة في حياة هذا الشعب المناضل المظلوم وهو فعل استلاب أرضه وتهجير أبنائه وشرخ تطوره الاجتماعي والوجداني في ضربة واحدة صغارا ثم سلخ عنفوان آمالهم كبارا في النكسة بضياع ما تبقى من فلسطين.

الثالوث المقصود هو ثالوث الشعر والسرد والنضال ، وفرضت هذه الأسماء المستجلب لها نصوصًا بعينها نفسها في دائرة التوثيق لهذه المرحلة وإن طال الزمن بعمر بعضهم –أطال الله في عمرهم – وحق الكتاب في أجل الآخرين فذهب بعضهم شهيدا بفعل إجرام غاصب الأرض والبعض الآخر قتيلاً في هوى المحبوبة المغتصبة فلسطين ولكنهم بقوا اثرا خالدا أجمعين لا انفكاك عن تكريم هذا الجيل عبر الإبحار في نصوصه والوقوف على جناح الإبداع فيها .

وإذا كان الشعر الفلسطيني في جيل الوسط قد تجلّى على أيدي هؤلاء الرائعين من هارون إلى زياد وحتى درويش والقاسم وبينهم يمامة الشعر المقاوم فدوى طوقان ، فإن السرد والرواية تشكّلت على أيدي الرائع غسان كنفاني وإن بدت بعض ملامحها في متناول إميل حبيبي ، ولعل بعض الأصدقاء يرى وأشترك معه في هذه الرؤيا ومنهم أخي د.فاروق مواسي في أن حبيبي كتب نصوصًا أكثر منها عمومية عن أن تندرج تحت بناء الرواية المكتمل على الشكل الفني والتقني المعلوم عند درس النقد الأدبي في هذا اللون .

اما غسان كنفاني فقد كان فذا بدرجة كبيرة أتاحت له أن يعيد تشكيل المسرح والفكرة معا في قالب أقرب ما يكون إلى إعادة المشهد الحياتي تفصيليا تحسه من خلال دقته وخصائصه الفنية التامة في عمله أكثر مما تستطيع أن تلمح ذلك لدى حبيبي ، وغسان أدرك الفرق البيّن في ما تتيحه الحكاية وما يمكن أن تؤديه ولذا استطاع أن ينقل جملا عديدة لما يمكنها نقله وببراعة شديدة خلّدت هذه الأعمال ليس فقط في ذاتها ، بل ومقياسا مرجعيا للقادم في مضمارها الذي نحته غسان على مقاس التوليد المندفع مع حركة الزمن .

وإذا كان هارون هو قيثارة شعراء جيل الوسط الفلسطيني في شدوه المنبسط ليونة وسلاسة أمامك في نصه ( مع الغرباء ) مثالا لذلك ، فإن زياد كان ومن على ذات المحجة الرقيقة يشتغل على النص الحامل بطاقة مروره في عنقه دون ما حاجة لسؤاله عنها (أناديكم )، بينما كانت أشعار درويش الأولى كما ترى معي من خلال معزوفته (سجّل أنا عربي ) أكثر حميمية وأقل توليفا مما ظهر له تاليا من قصائد بحكم انتقاله من مرحلة شاعرية أقل تعقيدا إلى مرحلة أكثر بحثا عن الشعر قصدا ولو كلّفه ذلك استخدام أدوات قد تعيد تشكيل مساحة أعلى بينه وبين معظم مساحة التلقي وخيمة قولبة النداء المباشر .

أما فدوى فهي بقيت على يقينها الفني في قصائدها ولم يكن متعذرا الحسم بذلك من خلال جملة قصائدها الأخيرة وربما بعض الشيء بقي القاسم أيضا على ذات وتيرته باستثناء بعض جديده الأخير ، وفدوى في قصيدتها هنا المنتظرة أمام جسر العبور هي فدوى في يا أحبائي موعد ذات الصوت الممتليء حنانا وحنينا والمنتظر أملا لا بد سيعيد تشكيل الواقع مهما طال الزمن رافضا رفضا قاطعا ما تراه أمامها وما تمر به من واقع يحاول أن يتسلل ولو من باب خلفي إلى نصوصها فلا يفلح أبدا وتكون دوما وصيتها هي الصمود ورفض الموت يا أخا الروح لا تمت .

لن يتسع المجال في التقديم لتناول كل النصوص هنا ولا لتحليلها ولا لنقدها فهذا شأن آخر ولكن السمات التي يجدر الوقوف عندها في هذه النصوص هي سمات واحدة تقريبا فيها ، سمات أدب المقاومة الذي يرفض رفضا قاطعا الرضوخ إلى إرادة وفعل الغاصب ، ويحرّض على البقاء أولا في صموده وهويته الإنسانية والقومية والبحث عن طريقة الخلاص ثانيا دون قطيعة مع الذاكرة ولا تهاونا في مسألة التضحية فلها أيضا حقها ، غسان كنفاني في روايته الخالدة ليس فقط أمات أصحاب الحل الفردي ولكن ذكّرهم بأنهم لم يدقوا جدار الخزان وهذا هو فعل اللاهثين وراء السلبية أيضا ، محمود درويش في سجّل أنا عربي حينما كان في داخل فلسطين وقبل المنفى كان يفتتح معركة عروبة ما تبقى بينما في نصه الآخر كان ينهيها بيقينه ونبوءة واضحة عابرون أنتم أيها الغرباء وهذا قبل أن يطرأ على ما يقدمه مؤخراً من تراجع مسجل عليه أيضا تجاه الرضوخ لما يمليه الواقع كما بدأ يبشّر به مؤخراً.

والمتشائل لحبيبي هي ذات المعركة التي كانت تقف على أبوابها سجّل أنا عربي وخطاب القاسم في سوق البطالة مع عدو الشمس باعتبارها نتاج ذات المرحلة التي وجد بها الجزء الفلسطيني العربي المتبقي نفسه يخوضها في داخل الخط الأخضر بعد نكبة فلسطين وضياع نصفها تماما كقصيدة زياد أناديكم ، بينما قصيدة هارون هاشم (مع الغرباء) وقصيدة فدوى ( آهات أمام شباك التصاريح ) تترجم المنفى الإجباري على جانب الخط الآخر والذي وجد فيه الفلسطيني نفسه يبحث أيضا عن هويته ولو كان في ديار عربية ويستنفذ كل أدواته في التشبث بها وتجذيرها أمام رياح التهديد العاتية من كل جانب في وجه هؤلاء الغرباء الذين يتحكمون في إذن المرور وهي تصاريحهم أو هؤلاء الآخرين من بني جلدة العروبة الذين بصروا بجزء من هذا الشعب في خيام وألفوه كذلك حتى حدِّ الحصار.

لقد أسس أدب المقاومة الوسيط من خلال هذه القامات الشعرية والروائية الرائعة إلى أدب حديث انتقل إلى أيد شابة تواصل مسيرة الأدب الفلسطيني الزاخر ، وإذا كانت سمات المرحلة التي سبقت هي سمات البحث عن الهوية والتشبث بالذاكرة والدعوة إلى المقاومة ووضع الحل في خانة النضال بعيدا عن الحلول الفردية أو السلبية ، فإن مرحلة تالية نشأت بعد انطلاق فعل المقاومة وهو الذي استمرّت فيه عطاءات مبدعة أيضا لسميح ودرويش كما لغسان وحبيبي وإجمالا لجميعهم ، ولكن هذا الرعيل المؤسس بقي على حدود تلك المجايلة بحدّيها ما قبل وما بعد المقاومة ولم يقيّض له أن يسهم في المرحلة القائمة منذ التسعينيات بثمرة تذكر وخاصة مرحلة الانتفاضة تحديدا والتحديات المرتبطة بمصيريًّتها.

- محمود ،أنت يا صديقي شاعر جائزة

االمسألةُ الآن لم تعد تحتمل كثيراً من الاختلاف حولها لا سيَّما وقد بدتْ واضحة في ثوبها الأخير كرمشِِ العينِ أو أقربْ...!، فبرنامج "خليك بالبيت" للزميل الشاعر والإعلامي زاهي وهبة ليلة الثلاثاء 3 يناير العام 2006 قد وضعنا في البيت فعلاً، طبعاً ليسَ البيت"المنفي" والذي لا علاقة له بأيٍّ من المدن التي سأل عنها زميلنا وهبة شاعرنا محمود درويش الذي بدا في هذه الحلقة محاميَ إدانة أكثر منه محاميَ دفاع ٍ وقد فتح له زاهي المجالَ واسعاً لتقديم دفوعه عن جملة ما أثير حولَ مسلكه الشعري مؤخراً في الناحية الأكثر خطراً معَ اقترانها باسمه ردحاً من الزمن ألا وهي مسألة المقاومة !

هناك قضايا كثيرة سأل عنها زاهي ونقرُّ لهُ أنه استخدمَ دماثةً وحنكةً ليست بغريبةٍ عنه على أيِّ حال وحاولَ أن يضعَ أمامَ درويش فرصاً واضحةً لكي يقولَ وينهي جلبةً عاليةً من حولهِ وهي ذات شعب وأهمها وما يعنينا في مشروع القصيدة المقاومة التي حمل درويش مع غيرهِ شرفَ لقبها طويلاً بما وضعهُ من أثرٍ فيها، ولا شكَّ أن زاهي أيضاً ضمن حساباتهِ كانَ أن يفسحَ المجالَ أمام محمود لتسويق كتابهِ الأخير "كزهرِ اللوزِ أو أبعد" وهذا مما لا غبارَ عليهِ ولن نعلِّقَ كثيراً حولَ معظمِ ما جاءَ في هذا الحوارِ الذي قادهُ زاهي مع درويش بحنكة حيثُ بدا الأخيرُ مهزوزاً عندَ الضغطِ على نقاطٍ معيّنة أثناء الحوارِ دارت حولَ شبهةِ العلاقة بينَ نصِّ درويش وبينَ الطلاقِ مع قصيدة المقاومة.

يحقُّ لزاهي الذي شعرتُ فلسطينيتهِ في هذه الحلقة ربما أكثر مما لدى صاحبنا درويش ليقدمهُ عنها أن يستقدمَ شهاداتٍ حولَ درويش من المطران خضر إلى طلال سلمان إلى الروائي خوري إلى الزميلة الشاعرة الدمثة جمانة حداد ومن شاءَ ولكن عندما أرادَ أن يسألَ في أهمِّ محاورِ هذا اللقاء قرأ واقتبسَ عن مقالٍ للزميل غسان مطر وكنتُ أحسبُ أنَّ زاهي لم يرد كثيراً أن يستقدمَ ملاحظاتٍ هامة في هذا الشأن كتبَ بعضها مؤخراً عدد من الباحثين في بيروت نفسها مثلاً: الزميلة غادا السمّان وفي فلسطين "الجليل" منها الزميل أحمد أشقر في كتابه الأخير "التوراتيات في شعر محمود درويش " والذي قدّم له الصديق بشّار إبراهيم من دمشق وأثارَ عاصفةً مدوية، ولكنَّ زاهي اكتفى بإشارة على أمل أن تنهي جلسة درويش هذه كومة الأسئلة التي كانت لدى هؤلاء لو ُسألوا عمّا لديهم.

حسناً، لا يهمُّ التفصيلُ كثيراً ولسنا في معرضِ الحديثِ عن البرنامجِ ولا آلياته التي يرتضيها ولا في مجالِ تقييم عمل الزميل الشاعر وهبة وكلُّ ذلكَ جميلٌ وبصمةٌ مميزة على أيِّ حال، ولكنَّ المفزعَ المفجعَ هو ما وردَ على لسان صديقنا الشاعر محمود درويش في هذه الجلسة الحوارية وهذه المرة لا يقولنَّ لم أقلْ...أو انتزعت من السياق ..أو وجاءت خطأً في الترجمة..أو جاءت عبر وسيط...!، فالجملُ لم تكن ملتبسة وكانت واضحة إلى أبعد الحدود ولا تحتاجنَّ لكثير من الإضافات تالياً من حولها فالقصّة أصبحت جليةً بلسان صديقنا درويش الذي تمنينا فعلاً أن لا يقولَ ما قالَ وليتهُ سكتْ، وكنا نأملُ حقيقةً أن يضعَ حداً لمزيدٍ من الأسئلة حولَ ما هو ذاهبٌ إليهِ في مشروعه الشعريِّ وعنوانهِ الأبرز الذي كانَ مكرّساً للنهوضِ بهِ من حيثُ تعلم ومن حيث لا تعلم!

دعونا نكونُ واضحينَ تماماً في مسألة الناحية الفنية الشعرية عندَ درويش فهذه مما لا تحتملُ أولاً الإنكارَ ولا التقليلَ من شأن هذه التجربة الغنية ولا هي في ذات الوقت بمنأىً عن النقد الفني الخالص في درس النقد الأدبي من غيرِ تهويلٍ في مكانةِ هذا المنجز باتجاه التصنيم ولا في تقليلٍ من شأنهِ باتجاهِ الإنكار وغبنِ الرجلِ في حقِّه بما أنجز، وهذه على كلِّ حال ليست مجال حديثنا هنا معَ ملاحظةٍ جانبية ٍ أسجِّلُها لدرويش بأنّا من الذينَ كانوا يعدونهُ شعرياً رقماً مميزاً ويعجبونَ بمنجزهِ الشعري على كلِّ حال، وأستطيعُ أن أفرِّقَ بينَ النظرةِ الفنية المحض في هذا الإعجابِ وبينَ النظرةِ العامةِ التي تتقدّمُ فيها مشروعية وقداسة القضية التي تحدَّثَ عنها هذا النصُّ ولا أنكرُ أني من الذين لا يحفلونَ كثيراً بنصٍّّ مهما كان بليغاً وجميلاً ومتقناً إذا تراجعَ أو توارى فيهِ الغرضُ إلى مراتبَ دنيا تستهوي بعضهم في تنميقها بشعارِ الفنِّ للفنِّ أو حسبَ زاهي في حوارهِِ زبدة الشعر "البلدية"! جماليات أيّ فن بالدنيا ليست مقدمة على القضية ولا هيَ تساوي

درويش ردَّ على ما جاءَ في مقال الزميل غسان مطر والذي تلا بعضَ سطورها عليه زاهي بأنه لا... لم يكتب في هذا الاتجاهِ الآن أو مؤخراً كما فهمَ خطأ ربّما غسان مطر وآخرونَ، بل في الواقع هو كتبَ القصيدة صاحبة مشروع "أنسنة العدوَِّ" منذ عام 1967 بالجنديِّ الذي يحلمُ بالزنابقِ البيضاء..!! ولذلكَ فمن وجهة نظر السيد درويش فإن هذه الحملة عليه مؤخراً مجحفةً بحقهِ، فهو لم يتغيّر مؤخراً في نصوصه الأخيرة التي وصفها زاهي مثلاً بالذهاب إلى النثرية والسردية والخفوتِ في لغتها الشعرية ذات النكهة الواضحة في مسارِ المقاومة، وأوضحَ أنهُ صاحبُ مشروع "أنسنة العدوِّ" الذي امتدحهُ عليه الزميل طلال في شهادتهِ، الدفوع التي قدّمها درويش الذي بدا مرتبكاً ومهزوزاً في هذه المسألة تحديداً باعتبارها مربط الفرسِ هي دفوع مضحكة ومبكية في آن..!!

كنت أودُّ سؤال صديقي الشاعر درويش من الذي قالَ بأن مهمة قصيدة المقاومة هي "أنسنة العدوِّ "؟! أو حتى الشعر عموماً عليهِ أن يبدأ من حيثُ الاستراتيجيا ؟ وإذا كانت أقسام الدراسات الاستراتيجية والإعلامية والأبحاث السوسيولوجية القائمة أو التي من المفترض أنها قامت في هذا العالم العربي لم تبدأ من أنسنة هذا العدوِّ فمن أينَ ابتدأت إذاً ؟ وهل وظيفة قصيدة المقاومة هي أنسنة العدوِّ لنعرفَ من نحاربُ ومن نصالحُ !؟ ومن قالَ أن أنسنة العدو- "الشرِّ المطلقِ" كما استعارها زاهي عن الإمام الصدر في محاولةٍ لجعل درويش يصحو من غفوته – هيَ مهمة عاجلة للشعر العربي والشعر الفلسطيني بخاصة في ضوء مجازر هذا العدوِّ الأخيرة ومشاهد الانتفاضة والجدار والعنصرية والتهويد ؟ هل صمت درويش طيلة الانتفاضة لأنهُ كانَ مشغولاً باستكمال مشروع "أنسنة العدو"؟...عليكَ أن تعذرهُ يا إبراهيم طوقان ويا عبدالرحيم محمود ويا أبا سلمى ويا راشد حسين ويا غسان كنفاني ويا كمال ناصر ويا علي فودة ويا ناجي العلي ويا ماجد أبو شرار، فصديقنا درويش اكتشف ما لم تكتشفوهُ بدمائكم..لقد اكتشف أنا بحاجة لأنسنة العدوِّ حتى نفهمَ نوع قاتليكم فهم لم يكونوا من الفضاء الخارجي !؟

مشروع أنسنة العدوِّ في شعر درويش بدا قديماً ولم ننتبه لهُ كثيراً واليوم محمود ينبهنا إليهِ وعلينا أن نعود ونقرأ ما كتبهُ محمود درويش ضمن هذا الإطار أولاً فهو مشروعه الذي أخفاه وميض فلاشات الكاميرات ولعبت بعضُ القوى في الثورةِ الفلسطينية دوراً في استخدام هذا المشروع المقنّع في هذه القصيدة ليوم ما تدارُ فيه معركةُ المساومة بدءً من الاقتراب من أكذوبة "اليسار الصهيوني" التي وظّفت عدداً من الأدوات للقيام بها ويبدو أن أداة محمود درويش الشعرية كانت ضمن هذه الأدوات، هذه مفاجئة من النوع الذي يحسن تسميته بمفاجئة اللامفاجئة ولو كانت من عيارٍ ثقيل.

لماذا ؟! لأّنا في الواقع كنا من الذين رفضوا أن يُصدِّقوا عملية انتزاع عناصر مفاجئيتها تلكَ مبكراً ومنها التي قادتها كتابات الصديقة غادا السمان والصديق أحمد أشقر وغيرهم، يبدو أن عليَّ أن أسجِّلَ أولاً اعتذاري للصديقة السمان عن جملة المراسلات التي دارت بيننا منذ نحو أربعة أعوام دفاعاً عن درويش ومنجزه الشعري الذي كان متهماً ظنناهُ بريئاً فأدانهُ اليومَ صاحبهُ بنفسهِ، فاعذرينا أيتها الصديقة وليتك تفعلينْ!

إذاً يا عزيزي محمود علينا أن نقرأ ريتا من جديد على أنها تحت مشروعكَ أنسنة العدوِّ وكذا الجندي النابغة الذي يحلمُ بالزنابقِ من فوق مجنزرتهِ وهو يطيحُ برؤوس شهدائنا! ويسفكُ دماءَ أطفالنا ويقتلعنا من أرضِ الزنابقِ ؟ وما نشره أخيرأً بعضُ المهتمينَ حولَ نصِّ محادثةٍ هاتفيةٍ بين الشهيد ناجي العلي وبينَ درويش لا يخرجُ عن سياقِ مشروع الدرويشية المؤنسنة للعدوِّ والمقتربة من لعب دورِ السمسرة في قصّة اليسار التي فضحها الشهيد النبيل الفنان ناجي العليّ ! وكذا علينا فعلاً أن نقرأ سجّل أنا عربي على اعتبار أنها اعتراف بمصطلحات العدوِّ المؤنسن عندك! فهي لم تكن للعروبة بقدر ما كانت للابتعاد عن سجّلْ أنا فلسطيني..!!! على كلٍّ تبقى النصوص الخالية من مشروعكَ هذا إن وجدت ملكاً لجدارنا الثقافي الفلسطيني وسنبقيها في هذا الإطار ولكن سنقرأ بتدقيق وتمحيص وعلينا أن نفعل، أترك قضية البيت المنفى والمنفى البيت وأحسب أن "رأيت رام الله" قد سبقت هذه المقاربة أكثر نضجاً بكثير مما وردَ على لسانكَ يا صديقي درويش وليتكَ استعرتها للإجابة عن هذا السؤال.

أتركُ أمرَ مشروعِ "أنسنة العدوِّ" هذا تحت وابلِ الأسئلة التي يجب أن تثار منذ الآن إلى مشروع لازمة أقوى هذه المرة لهذا المشروع وهي لازمة استخدام التوراتيات ضمن سياق طويل فيما يبدو على حساب هذا المشروع، فهيَ بعدَ الأنسنة ستضفي بعداً أخلاقياً من نوعٍ ما على هذا المؤَنْسَنِ حيثُ هو ينتمي إلى هذه التوراة التي تصيحُ مستخدمةً إياها الحركة الصهيونية كقناع منذ بدأت ونحنُ نجهدُ أنفسنا في التفريقِ بينَ هذين النقيضين فعلياً كما تجهدُ مثلاً حركة "ناطوري كارتا" نفسها في القولِ بعكسه، والمفجع في دفوع درويش الساذجة بلغت ذروتها في ردِّهِ على استفسارالزميل زاهي بأن المسلم لا يكونُ مسلماً إن لم يؤمن بالتوراة فهي كالقرآنِ وطالما نقتبسُ ونضمِّنُ من القرآنِ فلمَ لا نفعلُ من التوراة؟! هذه لا يقولُها من لديهِ ثقافة إسلامية بدرجة "مؤلّفة قلوبهم" ومجيئها على هذه الصفة في هذا الحديث أحدثت ارتجاجاً لديَّ في زاوية رؤية هذا الرجل حقاً، يبدو أن درويش لم يسمع بحديث عمر بن الخطاب الشهير مع رسول الله محمد بن عبد الله يوم لقيهُ وفي يديهِ صحيفة من التوراة فاحمرَّ غضباً وألقاها من يدهِ وقالَ لهُ: "يا عمر والله لو أنَّ موسى بن عمرانَ بيننا لما وسعهُ إلا أن يتَّبِعني" !، أسوق هذا في معرض القيمة المعرفية التي تحملُها هذه التوراة حتى لو كانت صحيحة فما بالكَ وهيَ على ما هوَ مثبتٌ من تحريفها أو تزويرها؟!ّ

قضيةُ الإيمانٍِ بالتوراةِ والإنجيل من حيثُ هو ابتداء الرسالة السماوية جزء من عقيدة المسلم لا شكَّ في ذلكَ، وقضيةُ الإيمانِ بالرسالةِ التي نزلت واسمها الإنجيلُ والتوراةُ - بل وأزيدُ درويشَ علماً زبور داود وصحف إبراهيم- هيَ من صلبِ العقيدة الإسلامية، وهنا مسألتان: الأولى أن الإيمان هو إيمانُ توكيد وقبول والثانية: أن الإيمان بالصحة في المنقول المعرفي هو إيمانٌ قائم على الأصل القديم النازلِ قبلَ التحريفِ وعلى ما نسخَ فيهِ تالياً بالقرآن، هذا من الناحية الشرعية التي أملتُ أن يكونَ درويش لديه إطلاع ما حولَها، أم أن يتحوَّل إلى مفتي الديار المؤنسنة للعدوِّ بشعاراتٍ يبدو أنهُ اعتادَ عليها جاءت بحيثُ أكّدت ليَ ما أوردتهُ الصديقةُ غادا في إحدى رسائلها لي وهيَ تنقلُ عن درويش التالية " السيدة شيرلي هوفمان أميريكية - إسرائيلية، تعيش في مدينة القدس. التقيت بها في مهرجان الشعر العالمي في روتردام. قرأتُ شعرا عن أزقّة القدس، وهي قرأت شعرا عن حجارة القدس. قرأتُ عن تيهنا الجديد، وهي قرأت عن تيهها القديم. ولكنّها عرفت ْ ما لم أعرف، قالت: إن أسباب الحروب الدائمة في الشرق الاْوسط هي غيرة النساء، الغيرة التي اندلعت نارها بين جدتهم سارة، وجدتنا هاجر.. ضحك الجمور طويلا.!!! مع الاحتفاظ للصديقة غادا بملاحظتها عن تسخيف الصراع إلى حد وصفه بهذه الصورة الساذجة أنه كيد نساء ومساواة الضحية بالجلاد بل تقديم الجلّاد في الأسبقية حقوقاً، لا أستبعدُ إذاً أن سفيرَ الأنسنة للعدوِّ كانَ أيضاً سفيرَ التوراتيةِ في شعرِ المقاومةِ استكمالاً لهذا المشروع.

لا يعنيني كثيراً من أمر إجابات درويش الأخرى حولَ فلسطين الوطن بأنه لا يطربهُ أن يكونَ فلسطينياً ولكنهُ يشعرُ بالفخرِ لأنه فلسطيني طالما لفلسطين قضيّة عادلة وأن فلسطين وطن حملناهُ بالحنين وهيَ ليست الفردوس المفقود !، ولا مسألة كلُّ المدنِ سواسية لديهِ من رام الله إلى باريسَ ولا يجدُ بينَ أيٍّ منهنَّ ونفسهِ رابطاً !، ولا مسألة البيت المنفى ولا مسألة الحرية والسلام معاً ولو تحقَّق ذلكَ وفلسطين التاريخيةُ ناقصة طالما أن هناكَ واقعاً تاريخياً –لا نحبهُ نعم- ولكنهُ قد حدثَ اسمهُ "إسرائيل" وعلينا الاعتراف به !، ولا إجاباته حولَ تشبيه علاقته بعرفات مع علاقة المتنبي بسيف الدولة والشعر بالسياسة وأيٌّ من السلطتين أقوى، ولا أيضاً مسألة أن يُترجمَ ويقرأ أو يكونَ لهُ معارفَ من الشعراء "الصهاينة" يحرجونهُ بكلامهم عن المكان وسوقهم الأدلة على امتلاكهم هذا المكان بلغة شعرية مفحمة ! ولا موضوعة أن ينهضَ إلى مشروع شعريٍّ جديدٍ تختفي فيه الغنائية "الحماسية" والتحريضية وتظهرُ فيه أجواء أخرى ! ولا مسألة أن يتحرر من فلسطين التي تأسرهُ طالما بقيت محتلة – طبعا ولو من الضفة وأريحا- ولا يعني لنا كثيراً عدد من المسائل الأخرى أمام مسألة بالغة الخطورة هي أمُّ الكبائر هنا، مسألة إدانة قصيدة المقاومة من داخلها والانقلاب عليها باسمها.

مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة ليسَ أنسنة العدو بل تعريفه كما هو شيطان من أكثر الشياطينِ خبثاً ودهاءً وطغياناً وسفالةً، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة تعرية أقنعة هذا العدوِّ وبدءً من يسارهِ المدّعى والذي إن كانَ حقاً يسارياً فلماذا يقبل أن يقيمَ ظلماً وعدواناً مكاني صاحب البيت، فلماذا لا يرحل ويثبت هذه اليسارية أو الطيبة التي وصفها "درويش" ؟، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة أن تتحدّث عن فلسطين كلّها وتطلبها كلَّها حتى لو تمت عملية تسوية ما لردِّ جزء من المنهوب المغصوب فهذا عملُ سياسة لا نشاط ثقافة ووعي ووجدان، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة أن تروي التاريخ كما هوَ وأن تفحصَ الحاضرَ كما يجبُ أن يردفَ بشدِّ العزائم وشحذ الهمم وأن ترى المستقبلَ من نافذة الانتصار ونافذة الحرية الحقيقية وليسَ المسوّقة في مشروع "أنسنة" درويش وغيره، وجماليات الشعر وزبدته ليسَ في سكن اللغة المجرَّدة بل في حملِ اللغة المستعدة للانتقال إلى مسرحِ الفعل كما أثبتها أصحابها من عبدالرحيم محمود قائل "سأحمل روحي على راحتي " إلى ناجي العلي صاحب لوحة "محمود خيبتنا الأخيرة"، مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة هو مشروع المشي مع أرجل الصبية الصّغار قاذفي الأحجار ومع أغصانِ اللوزِ وهيَ تأنُّ تحت هدير الجرافات وليسَ أبعدَ من زهرها الذي لم تدعهُ جرافات العدوِّ يزهر أصلاً اللهمَّ إلأا أن يكونَ زهركَ اللوزيُّ هذا في بورتوريكو؟! هذا هو مشروع القصيدة الفلسطينية المقاومة ومن عندهُ لها ذبالٌ فليضيءَ به وإلا فليصمتْ.

على درويش ومن يطربُ لما يقولُ أن يفهم تماماً أن شعرَ المقاومة وشاعر المقاومة هي قضية لا تحتملُ البراغماتيات والفذلكات الحزبية والمشاريع الجوائزية الصغيرة، وعيه أن يتذكّرَ كثيراً أن مبتدأ قدميهِ كانَ بفضلِ شعرِ المقاومة لا العكس، وأنَّ جدارنا الثقافي الفلسطيني ليسَ قائماً على رواياتٍ شخصية لأيٍّ من حجارته الصغيرةِ أو من أعمدته –حتى وقت احتسابها كذلكَ - مهما كانت صفتهُ والطريقةُ التي أصبحَ يعدُّ هكذا عليها، وأنَّ مشروعَ أنسنة العدوِّ وتمريرَ توراتياتهِ وحججهِ للعنصرية والبهتان والطغيان والعدوان في قصيدة تحمل اسم فلسطين وما تبقّى من غطاء المقاومة الذي نكثهُ درويش هو خيانة ثقافية وطنية مزدوجة ليس لشعرية القصيدة فقط حيثُ هذه المواضيع تحديداً هيَ منَ السخفِ بمكان أن تشغلَ حيِّزاً في الفضاء الشعري سيما وهذه الشعرية أداة الإدهاش التي يبدو أنها استخدمت في هذا المشروع الموبوء، وليسَ لدماء الشهداء وبالذات من أبناء الحركة الثقافية الفلسطينية من غسان كنفاني إلى ناجي العلي وفودة الذي كانت أمنية درويش يوم خرج من فلسطين أن يرى الشهيد فودة، بل هيَ سقوط من النوع القاتل – إن استمرأ الإصرارَ عليهِ- والذي يستلزمُ أن نعودَ لما ثبتناهُ عنهُ فنزيلهُ بأنفسنا بحقِّ البحثِ الجادِّ والنظرِ المستفيقِ منَ الطربِ الطاريء، نحنُ لم نسلِّم يوماً بالصنمية على أيِّ حال في المسألة الثقافية والأدبية منها لأحد ولا دعونا لذلكَ وإن كنا سنذهبُ لهذه القداسة فلتكن للشهداء أولاً وأخيراً في ضمير الحركة الثقافية الوطنية الفلسطينية.

محمود درويش لا أصدِّق ما تقول حولَ نوبل وأخواتها، محمود درويش أنت منذ اليوم عندي على الأقل لست كما كنا نحسبكَ من مقدمي فرسان شعرالمقاومة إنما أنت الآن بما قلتَ وحتى إشعارٍ آخر شاعرجائزة!

4/12/2005

JPEG - 23.3 كيلوبايت


- نكتب بحسرة، ذهبت مليكة .....!

الأمة التي كانت يوماً في أصغر مكوناتها التاريخية أي القبيلة، تحتفي بولادة شاعر ما وتقيمُ الدنيا ولا تقعدها بعدُ، تبخّرت واختفت...

الأمة التي كانت تجلسُ منصتة في أيام لها، تحددها عيداً وتنتظرها على مدار العام، لتجد فيما يقالُ وينشد قوتاً لروحانيتها، ولذةً لوجدانيتها وجوانياتها، تبدَّدت وتلاشت....

الأمة التي كانت قد وسمت بأنها أمة القول وفنون القول، ونقلت منقولها التراثي والثقافي كله على مدار أيامها ومسار أمكنتها، عبر النص حيث هو ديوانها، مسخت وتقزّمت....

بأيديها وألسنتها أولاً وقبل كلِّ شيء.....

ماذا حلَّ اليوم مكان ذلك كله؟!

حلَّ اليوم الدرهم والدينار، مفكراً وكاتباً وشاعراً وروائياً وناقداً، وإشعاعات البورصة والأسهم، وجوانيات القوافل والشركات...عجباً ، أولم يكن عند قريش وما حولها كل ذلك وأكثر، من قوافل وأموال ورحلة الشتاء والصيف؟! أولم يكن عند العرب درهم ودينار؟! بلى، ولكن الدينار كان في مكانه الذي لا يستقيم أن يبلغ فوقه، وكانوا هم فوق دنانيرهم، اليوم هذه الدنانير أصبحت تضع نفسها فوقنا.....

كان الشعر ديوان العرب، يوم كانوا عرباً، وكانت هناك شيم وشمائل العرب، وخصائص العرب، وكان الشاعر رائداً في أهله يلوذون به، يوم كانوا أهله بحق، وكانت "إرمِ عنا يا حسان"، يومَ كان هناكَ الكثير، ليسَ فقط إيمانا ويقيناً لقيمة ما يقال وقيمة القائل، بل أيضاً يوم كان هناكَ ثقة بالنفس واحترام للذات ووقوف عند منتهى الجلال والعزة، ومعرفة الزبد من الزبدة.....

هذه الأيام، تشهد عرباً آخرين، وتشهد عروبة أخرى.....

أي عرب نحن يا مليكة؟!

ليسَ أدنى الأمر أن يعرض شاعر فيها كليته للبيع، فاليوم هناك أديبة وكاتبة اسمها "مليكة مستظرف" من بلد عروبي بامتيازلا تجد كليةً لها، تنقي سموم جسدها فتقضي بداء الكلى، هذه هي مليكة مستظرف المغربية، تكتب قبل عام "هم ينتظرون موتي"، وتجاب إلى نقل كلية في فرنسا، وفقط في فرنسا مع أنه كما قالت كان متاحاً لها في القاهرة، إلا أن الإجابة التي جاءتها أن لا تعامل إلا مع فرنسا في هذا الشأن، هل هي البيروقراطيات أم هي العبثيات؟! لا ندري ولكن ندري فقط أن مليكة مستظرف لم تولد في قبيلة عربية، على أبواب عكاظ مثلاً ليكون من حقها آنذاك، أن يحكم لها أو أن يستجاب لها، في أي قبيلة تستضاف؟

مليكة مستظرف لم تجد قيمة خمسين ألف دولار، لإجراء عمليتها كما كتبت بنفسها، في ندائها الذي نقله موقع الصديق محمد إسليم، ولو أنها قالت "نص نص " لوجدت خمسين مليون، ولو أنها ضربت الدف أو نقلت القدم، لوجدت خمسين ألف متبرّع بالكلية وما هو أكثر، ولو أنها حادت عن فصحاها وفصيحها، لنالت مليوناً بيسر من مجلات وفضائيات ومؤسسات "صح لسانك"، مشكلة مليكة مستظرف أنها أصرّت على ما علمته في لسان العرب، لكنها ما كانت تخاطب هؤلاء، بل نسخة تالفة من الصورة أسقطها برنامج معالجة الصور....

وطبعا أكبر مشكلة عند مليكة، أن كليتها الروحية كانت عاملة بامتياز، فهي لم تكتب عامدة متعمدة بالفرنسية لاعنة عروبتها، فلو فعلت يوما لوجدت عشرات الأبواب، الثقافية الحداثية المعولمة "الإنسانية" التي تتولى أمس كلية جسدها، لو قبلت أن تكون كذلك لما نعيت اليوم، على هذه الصورة البشعة، وبهذا السبب "المعجز".....

حتى نقابات المجرمين، وعصابات الأشقياء والمافيا، لا تترك مصائر أولادها....

كيف يمكن الاطمئنان إلى قول بأن هناك ثقافة عربية ومؤسسات لها ووزارات من أجلها ؟

كيف يمكن القول أن هناك مثقفين عرباُ وأن هناك فعل لهم غير أدوار المراقبة بدون إرادة ؟

دولار واحد من كل كاتب عربي كان يمكن أن ينقذ حياة مليكة، دولار واحد فقط منا أيها الزملاء كان من الممكن أن نقول أننا أفضل من المافيا قليلاً....

قيل أن هناك من تبرّع للقيام بهذا الواجب، وقيل هناك من تكفل به كله، ليس عندنا ما يقطع واقعاً ، فكثيرا ما سمعنا بمثل ذلكَ وكثيراً ما بقيت الأفعالُ عند قيل ...!

وفروا مراثيكم ودموع نصوصكم، ونحن معكم كذلك موفرين، وحده من علمَ في حينهِ وحاولَ من أجلها شيئاً مهما كانت نتيجته، يحق له أن يودعها اليومَ، ولا نقول يرثيها، فمن يا ترى يستحق الرثاء حقاً ؟!

أما أنت أيتها القبائل العربية الحديثة جداً....

مرحى لك ومرحى لأشاوسك، قولوا لهم اطمئنوا تماماً، فكتاب الآخر "جينس" مفتوح لكم، كي تسجلوا فيه الرقم القياسي، بين الأمم والشعوب، في كره أنفسكم، واحتقاركم لأدبائكم ومثقفيكم، وشحذكم السكاكين على جثث المثابرين فيهم، ولا عزاء لهؤلاء الحمقى فيما يحاولون.....

لا عجب أيها السادة، لا عجب....عندما تسقط قيمة المفردة وقيمة الحرف، توقعوا الكثير، فمع سقوطها وفي ذات اللحظة، تسقط الأخلاق ولا تقوم بعدها، لم أستغرب هذه الجريمة الثقافية على أي حال، ولكن مليكة مستظرف شهيدة جديدة، لأمة كانت هنا، بقيت منها بعض جيوب هنا وهناك، تنتظر متى تسجل "ضحية جديدة" لواقع مزري، هو فضيحة دولية بكل المقاييس....

رحمك الله أيتها الصديقة مليكة، كنت رائعة وذهبت ناصعة، رحلت إلى الأحياء، وخلّفت في الأموات....

اعذرونا لا نكتب بدبلوماسية، ولا بعصبية ولا بعفوية، نكتبُ فقط بألم وحسرة....

JPEG - 5.1 كيلوبايت

- ناديا أنجمان ، دماء على وردة القصيدة ..!

ناديا أنجمان ذات الخمسة وعشرين ربيعا ملأى بزهورها القرمزية الداكنة ذهبت من هناك إلى مساحة قرمزية لا تنتهي ولا تعدُّ عليها الربيع وتهدِّدها بالخريف، ذهبت فداء لنصها مثلما للذي صدح به النصُّ وحاول أن يقوله، ذهبت ترجمة لقرمزيتها وعنواناً لطموح هذه القرمزية وحقِّه المغدورفي أن يقول ويستعمل جناحيه محلقاً ، ناديا أنجمان كانت في ذهابها ليسَ عنواناً لقصيدة بل كانت قصيدة بنفسها صبغت بدمها المرهف قسوة الحروف على البياض الساخرالماكر.

ناديا أنجمان شاعرة أفغانستان الواعدة والتي لم تحتمل قبائل الإقصاء قوة نصِّها ولا نصَّ قوتها، فاختارت أن تغيِّبها كما تفعل ُعادة عندما تفلسُ وتستشعرُ الهزيمة المحقَّقة ، واحتالت على ضعفها المرقوم فسفكت دمها وادَّعت عليها بالانتحار،ولم تستح تالياً إذ أخرجت مشهداً فظيعا حابساً لكلِّ دهشة وقاطعاً كلَّ محاولة استيعاب ، وأمعنت في تجسيد قسوة الجهل الظلامي والظلم الجاهل مرةً واحدة، وانتقلت إلى قتلها مرةً أخرى من جديد، ناديا أنجمان قتلت مرتين وليس مرةً واحدة.

الشاعرة أنجمان تركت خلفها وليداً ذا ستة شهور، وديواناً قرمزياً نشرته العام الحالي بعنوان"غولي دودي" أو "الزهرة القرمزية الداكنة" وكانت تحضّر لديوانها الثاني الذي تركته مخطوطاً خلفها مغدوراً مثلها وشاهداً على أيِّ عصرٍ نحيا وأيِّ وحوش نساكن، وتركت مع هذا كلِّه أقوى إدانة وأسطع برهان، لا شيةَ فيها ولا مراء حولها.

منذ ذهبت ناديا يوم 4 نوفمبر 2005 في هرات أفغانستان وحتى ساعته اجتهدنا أن نتبع ما ظهر حول هذه القضية في مختلف وسائل الإعلام أولاً على اعتبار أنها قضية تمتزج فيها عوامل كثيرة وإن كان أعلاها في نظرنا هو الجوهر الإنساني والأدبي المحض، وثانياً لأنها تخصُّ هذه الأمة وفي هذا الوقت بالذات حيثُ تستهدفُ من قبلِ كثيرين ومعظم الوقت بأيدي أبنائها، ففجعتنا النتيجة ولم تزد على ما قدمته دماء أنجمان المسفوكة على وردة القصيدة شيئاً، بل في الحقيقة كانت أقصر قامةً منها بكثير.

نحو ألف موقع نشر هذه القصة بين إخباري وإعلامي ومنتدىً وشبكة معلومات كلُها باللغة الإنجليزية وبضع مواقع وصحف بلغات أخرى كالفرنسية والألمانية والإسبانية، وأقل من ذلك باللغات الأوردية والفارسية ، وثلاثة لا رابع لها باللغة العربية وهي صاحبة الولد في نهاية الأمر دون لبس باعتبارها راعية الموروث الأخلاقي والفكري الذي يشكّلُ عصَب الإحاطة المعرفية والإنسانية لناديا ولإقليمها.

النفاق السياسي بلغ أشدّهُ في قضية ناديا، فإعلام الإمبراطورية اختار أن يلكز كما اعتاد في خاصرة الموروث الحضاري الإسلامي واعتباره مسئولاً أوحدَ عن قضية ناديا في العموميات الجنسوية ، ولا يمكن بحال تبرئة أيِّ عنصر قبلَ محاكمة صحيحة وسليمة، بيدَ أنَّ النزوعَ فوراً لاستجلاب المتهم المحضَّر سلفاً لكلِّ صغيرة وكبيرة هو ديدن طريقة سطوة البغي الدائمة وعنوان انتهازيتها في العمل والتناول لهذه القضايا.

المتحدث باسم الامم المتحدة في أفغانستان السيد أدريان إدواردز قال بأنَّ " الحادثة أكدت تفاقم مشكلة العنف المرتكب ضد النساء في أفغانستان، "ما يجعل التحديات التي يواجهنها غير عادية وتتطلب مؤازرة كبيرة من المنظمات الإنسانية والاجتماعية المحلية والدولية لتخطيها، خصوصاً أن حكومة الرئيس حميد كارزاي اعترفت بسلطتها المحدودة في فرض المساواة بين الجنسين".

كما طالب َبفتح تحقيق في الوفاة "المأسوية" لانجمان، ومحاسبة زوجها القاتل "بعدما حرم أفغانستان من إحدى ثرواتها الفكرية".

البيت الأبيض اختار أن لا ينتبه كثيراً طالما أنَّ أنجمان تمتعت وتتمتع حتى في مصرعها بظلال الرحمة والديموقراطية والحرية الإمبراطورية المصنوعة على عينها والمفوََّضة إلى صنيعتها حكومة السيد كرزاي ، ولو كانت حدثت مثل هذه القضية إبان حكم طالبان لكانت مأساة العصر بلا ريب ولا شكوك في ذلك ، ولكنها الآن تختصر في مبحث "العنف ضدَّ النساء" وبواقيه التي لم تفلح حكومة كرزاي في الانتهاء منه نظراً لعدم سيطرتها إلا على منطقتها الخضراء في كابول كما هناك أخرى في العراق الذبيح أيضاً في منطقتها الخضراء.

العجيب أن الاعتراف بالسيطرة على هذه المنطقة فقط يفتح مئات الأسئلة عن المصداقية حيث تتم عملية تناول موضوعة السيطرة هذه حسب المناخ، في باب التبجُّح مثلا يتم دوما استقدام أفغانستان على أنها الأنموذج والنجاح المنقطع النظير في تقديم وجبة "الحرية المعولمة"، وفي باب الغرم والتقصير يتم التعلُّلُ والاعتذار بعدم استكمال المهمة بعد وهكذا لا مسئولية تلحق ولا جرم ولا ما يحزنون، ولا عزاء للمظلومين.

ليسَ في هذا دفاع ولا تبرئة لفترة حكم طالبان بتاتاً ولا هو استحسان له على أيِّ حال مطلقاً ، ولا يفهمنَّ ذلك بقدر ما يراد أن يُؤشَّرَ على حجم النفاق فيه والمصلحية القائمة في المتاجرة حتى بدماء أنبل المخلوقات المرهفة بغض النظر عن عرق أو دين ، هكذا فقط كانت تغطية الأمم المتحدة ومنظماتها التي توالت تاليا في بحر هذا الأسبوع ببحث العنف ضد النساء على أن تكون مجالاته البحثية مؤدلجة باتجاه دون غيره ليسمح لها بالمرور!

العنف بكلِّ شكلٍ ولون بغض النظر عن الدين والجنس واللغة والموروث الثقافي والحضاري والوضع السياسي والاقتصادي ضد النساء أو ضد الأطفال هو مدان لا ريب في هذا، وأعنف أشكاله هو ما تمارسه تلك الأيدي المتغطرسة والمتلفّعة بأثواب الأممية على شكل الاحتلالات البغيضة التي تطال بعنفها الشجر والحجر قبل البشر، والأجواء التي تبسط الطريق من أجل انفلات مثل هذا العنف بسيطاً أكان أم مركباً من عقاله هي ذاتها الأجواء الجنونية والجحيمية التي ترعاها هذه القوى وتتاجر بأثمانها من قبل ومن بعد مهما حاولت التلبُّس أو التخفي.

سنترك تناول قضية أنجمان في بعديها السياسي والديني لمجال آخر ولموضع آخر مع احتفاظنا بحقنا في إدانة هذه الجريمة البشعة في هذين المحورين وعلى أساس الفهم اليقيني بما تقوله السياسة النظيفة في سوس أحوال الرعية إلى مصالحها وما يصلح حالها وينمّي مقدرتها على إعمار الأرض لا خرابها، وبموجب ما يقوله الدين الحنيف في تعاليمه الحاضة على أنَّ النساء شقائق الرجال، لا يكرمهنَّ إلا كريم ، ولا يؤذيهنَّ إلا لئيم وأن َ البنات هنَ المؤنسات الغاليات وخيركم خيركم لأهله، ونتجه إلى بعدها الثقافي الذي هو غير المفهوم في هذه القضية بتاتاً.

نعم، سيكون مفهوما بعضُ جلبة من حول هذه القضية في لباسها السياسي أو بعض صمت مقيت، وسيكون معلوماً ذات الوضع من حول جوانبها الدينية أو الاجتماعية وما يتبع هذا، ولكنَّ غير المفهوم بتاتاً أن تجد قبوراً دوارسَ من حولها في أهم أركانها الثقافية والأدبية...!! شيء فظيع ومقيت فعلاً ، فقط بضع جمعيات للشعر اختارت أن تذبَّ عن نفسها تهمة التقصير وذنب الخمول والوجود على هامش الحياة الإنسانية لتتذكّر أنجمان أو ترعى لها ملصقاً أو تطلق اسماً على ورشة تقيمها، وبالتأكيد ليس منها أي جمعية عربية ولا تقدمية للأسف الشديد لا في الدول الخارجة من التبشير بالإنسانية الجريحة المظلومة، ولا من الدول التي توهمنا بصحوةٍ ما بعد خراب مالطا.

وجدنا بضع قصائد قد نشرها شعراء لا عربيَّ فيهم طبعا في ذكرى أنجمان ولا حتى من أقرب القربى لهم لا سيَّما ممن ملأ الدنيا صراخاً حول حقوق المرأة، واستغرقنا البحث أياماً عن نصٍ لناديا نفسها ضمن هذا الكمَِّ الكبير المجتهد في رواية تراجيديا مصرعها وما قالته الوالدة والحماة، وما قاله الزوج المتهم حالياً – وهو أحد المتهمين وإن كان المنفّذ- وما قاله مفوَّض البوليس الأفغاني، وما قاله مارق الطريق...!!

وبعد بحث مضنٍ وجدنا نصاً واحداً من كتابها المنشور "الوردة القرمزية الداكنة " باللغة الفارسية في موقع "بخارى" وجزء نصٍ باللغة الإنجليزية كتبته إحدى الأفغانيات من كتابها هذا في أحد المنتديات الأجنبية تذكّراً لها وندباً على ضياع كنزٍ أدبي وثقافي أفغانيٍّ احتفت به الأوساط الثقافية والأدبية فقط قبل عدة شهور هناك ولكنها اليوم صمتت تماماً.

صحيح قد اكتفت مواقع الإعلام وهذا شأنها المهني في تقاريرها باقتباسات عن أنجمان لتوظَّف بعضها في حملة التشهير والتبرير لا أكثر ولا أقل، وهذا من طبيعة ما تدلِّلُ عليه النصوص المقتبسة دون غيرها حيث اختارت التركيز على القصيدة الرئيسة التي حملت اسم الديوان الأول وجاءت بعضها على نحو"أنا محبوسة في هذا الركن من القفص، ملأى بمشاعر السوداوية والحزن" و"أجنحي مقفلة مهيضة ولا أستطيع الطيران" ضمن سياق تحريضي على الموروث الروحي وليست ضمن سياق محاكمة الواقع الثقافي والاجتماعي وليكن ضمنها هذا الموروث لو فعلت وأنصفت، ولكنها اختارت شيئا آخروهذا كلُّ ما أمكن الوصول إليه في المتابع مقروءا ومسموعاً، وبذلك تكون ناديا أنجمان في طريقها لأن تقتل مرتين وليس مرة واحدة.

تساءلت، ترى أين هي ذات الأوساط الثقافية الأفغانية التي احتفت فقط قبل شهور بناديا؟ ماذا سيكلِّفها لو أطلقت موقعاً إليكترونيا باسمها يحوي ويضم ما كتبته ناديا وطبعا أهمه نصوصها؟ ماذا كان سيكلِّفها حتى لو تناولتها قضية الشهر الثقافية مثلاً ضمن لمحة وفاء ؟! وإذا كانت هذه لم تفعل، فلماذا المواقع الإيرانية والباكستانية الثقافية وتاليا العربية أيضاً وكذلك الصحف والمجلات والدوريات الأدبية والثقافية سبحت في بحرالغياب؟! أمر غريب وعجيب ؟ ترى لو كانت أنجمان عربية مثلاً هل سيكون الوضع ذاته؟ أو لو كانت أنجمان راقصة أو جارية قينة هل سيكون الوضع ذاته ؟!

أترك هذه الأسئلة لكم وأنقل في نهاية هذه السطور النصّ الذي وقفنا عليه مترجما للعربية وجزءً من النصَّ الفارسي كما هو، مع أني آمل أن الوقت لم يفت بعد للمحة وفاء للقصيدة وللإنسان الذي شكلته "الوردة القرمزية الداكنة" عربياً ، لأن أنجمان في نهاية الأمر فدائية من الطراز الأول على مستوى القصيدة والقضية خلفها مئات "أنجمان" في هذه الأمة خلف ذات الأقفاص وكلٌ منهنَّ برسم حيثيات مختلفة ، وأمام هؤلاء أيضا متهم من الطراز الأول في الترصُّد لذبحها وعلى طريقته ويحمل خنجره بطريقة مختلفة وبأسلوب ما ، وندعو الله أنا لا نكون فيهم مرةً واحدة من نهار.

هنا في هذه الثقافية سنفرد لك موضعا لكل ما سيكتب عنك باللغة العربية الوفية ولنصِّك المترجم هذا ونصوصك التي لم نفلح في ترجمتها أو العثور على بقيتها ، وسندعوه باسمك ركن ناديا أنجمان ،هذا ما استطعناه لك فاعذرينا ولكِ الخلود يا ناديا أنجمان، فالقصيدة هي مما لا يفنى ولا يموت ولا يتحوَّل إلا أيِّ شيءٍ آخر سواه، وأنت كنت فدائية القصيدة الشهيدة تستحقين أن يسمّى عامنا الثقافي الأدبي هذا باسمك لو يسمعون ، عام ناديا أنجمان ووردتها القرمزية الداكنة التي أفلتت من قفصها ولو على حساب دمائها.....

من النصّ الفارسي

يادهاى آبى روشن‏

ايا تبعيديان كوه گمنامى!

اى گوهران نامهاتان خفته در مرداب خاموشى‏

اى محو گشته يادهاتان، يادهاى آبى روشن‏

به ذهن موج گل‏آلود درياى فراموشى‏

زلال جارى انديشه‏هاتان كو

كدامين دست غارتگر به يغما برد تنديس طلاى ناب روياتان‏

ايا تبعيديان كوه گمنامى! قوس ـ آذر 1380

من ديوان "القرمزية الداكنة" مترجماً

لا دافع لديَّ لأفتح فمي بالغناء

سواء

أغنيتُ أم لم أغنِّ

فإني مدانة بالكراهية

ما أقول عن حلاوة الأشياء وفمي مليء بالمرارة ؟!

وكيف أصف المفجّرَ الوحشيَّ في فمي ؟!

إنني محبوسة في هذا الركن من القفص، ملأى بمشاعر السوداوية والحزن

دائمة الفكر في أني ما ولدت لهدف وعليَّ أبقاء شفتيَّ مغلقتين

أعلم أنه الربيع ووقت البهجة

لكنَّ أجنحي مقفلة مهيضة ولا أستطيع الطيران

أحلم بيوم أفتح فيه قفصي وأنطلق

عندما أضع رأسي خارجا لأغني "الغزال" بفرح

لست ضعيفة كصفصافة يهزها النسيم

أنا امرأة أفغانية تنوح .............

أيمن اللبدي

27/11/2005

- ثقافة «الأتوبيس» الجديدة : أدونيس أنموذجاً .....!

التوقعات بأن تكون الحرب العدوانية الأخيرة التي شنتها الإمبراطورية ،عن طريق أداتها المخلبية المفضلة في شرقنا العربي المسلم، فاتحة جديدة لآفاق ورؤى ومدارات ومواقف في معالجتها، طبعا كانت موجودة ومتوقعة، والخلاصات التي ستخرج عن هذه المعالجة بالتأكيد كانت ستكون ذات اختلافات، وكان يجب أن يكون في التوقع مستويين بنيويين في هذا الاختلاف بين نظرة الثقافي ونظرة السياسي، ولا حاجة لاستدعاء مبررات هذا الفهم الرئيس حيث سيغدو نوعاً من الإطالة في المتفق عليه، وعليه سنبدأ من هذه بالذات.

أن يختلف السياسي في تقديراته ومن ثم في تحليلاته وما سيستخلص، فهذا أيضا ما لا خلاف عليه أيضا، فثمة أدوات سياسية تستخدم في هذه العملية معلومة تحتاج كما تحتاج أية أداة أخرى، لدربة ولدرجة من درجات الحرفية والمهنية، تكتسب بعد طول مران درجة مصداقية تتيح القول بأن يؤخذ منها وعنها، أو يطرح على أول درجات الباب ما تقدمه ابتداءً قبل أن ننتقل خطوة أخرى إلى الأمام، وتكون الخطوة القادمة بلا شك فحص درجة الموضوعية والعلمية في المران المقدم قبل الولوج إلى مناقشة الحجج والبراهين في السياق، وهكذا تكون نوازع التحليل الاصطفافي أو المدفوع مسبقاً مطروحةً في الطريق كمثل بضاعة كاسدة مهما غلِّفت بجديد.

في الجانب المقابل فإن أدوات الثقافي تختلف اختلافاً جذرياً، وهي بالتالي تخضع لمساقات وعمليات معالجة تختلف تبعاً لهذا الاختلاف، وإن كانت درجة الاستهلاكية هي أحد أهم خصائص المنتوج السياسي بحكم طبيعة مثلث العملية، وبحكم طبيعة الظرف وتشابكاته الاجتماعية والاقتصادية المباشرة، فإن طبيعة المنتوج الثقافي لا تخضع إطلاقاً لسمة الاستهلاكية هذه من ذات المنطلق، بل هي اعتبرت دوماً أعلى رتبة وأقدس مكانة وأدق بصيرة وأسمى منزلة على مرّش التاريخ، كما أنها لا يمكن لها إلا أن تتعامل مع الأبعاد المفتوحة والآفاق والمدارات الواسعة حيث تحتك بالجوهر الإنساني والجوهر الحضاري في هذا الإنسان ومجموع سكناته وحركاته وتفاعلاته فاعلة ومنفعلة مع الكون وسياقاته المختلفة.

وإذا كان ثمة من يؤيد نفاذ "الأنا" المبدعة ورؤيتها الخاصة في هذا المنتوج الثقافي، فإن ثمة من يعارض ذلك لأسباب مختلفة وإن أخفق في اشتراطها ابتداءً، فهو يعمد إلى كشفها وتعريتها تماماً عند فحص هذا النتاج، وهي على كل حال خطىً تترسمها بعض المدارس النقدية التي قد تذهب تجاه فصل المؤلف بالكلية والقول بموته عقب النص، ونحن لا نرى رأي من يفصل "الأنا" المبدعة نهائياً كمثل لا نرى بأن نقبل دمجها بالكلية، بل نقف موقف المناداة <ببرزخية الأنا> في النص وفي النتاج الثقافي والأدبي بحيث تعطي بما تحتاجه شروط الإبداع، وتقف عند حد موانع الصنعة أو عتبات التكسّب ومنزلقات التسويق البضائعي كما واضح عند بعضهم بامتياز.

في الثقافي وللأسف الشديد ثمة من أرخى ذيوله لعربات الإمبراطورية مسبقاً وجرى تمييز بضاعته الفاسدة، ولا يمكن أن تكون لهذا النفر أية مرافعة منطقية في كل ما حاول ويحاول، وهؤلاء سواء أكان ما استحقوه من مسميات جديدة : "كتاب المارينز" ، " "إنكشارية الموساد" ، "علقميو البنتاغون" ...الخ هم لا يستحقون في المستوى الثقافي أية وقفة تصرف لمناقشة ما يقولون، ولمن يريد أن يقارعهم في ساحة غير ساحة الثقافي منتهى الحرية إذ إن ذلك يغدو شأناً آخر، إما في منطوق الثقافة فقد سقطوا قبل أن يقدموا ما عندهم ولعنوا إلى غير رجعة إلا أن يكون من أمرهم ما يغاير بالكلية ما بدر.

المقلق الجديد في حقيقة الأمرهو بضاعة جديدة في وسطنا الثقافي العربي، هذه المرة يقدمونها مغشوشة باسم الثقافي في مستوى سياسي أحياناً، وببعض أوجه الثقافي في المساحات السياسية أحياناً أخرى، هؤلاء نفر استطاب ثقافة جديدة يتم فيها فك وتغيير اللوحات بسهولة شديدة وحسب الطلب، وفك اللوحات أسهل عملية يقومون بها تتيح تغيير الشاخصة وأقل كلفة من دهان الجسم كله، أو من عملية تغيير أرقام التسجيل التي أثبتت على الهيكل الفولاذي، هؤلاء يقدمون لنا نظرية جديدة أرادوها أن تكون <ثقافة الأوتوبيس>.

نحن رأينا ذلك النفر الذي قدّم بأدوات الثقافة أحصنته الطروادية "الاستاتيكية" ، ووقفنا على براعتهم في هذا الشأن في الطريق إلى محطة الجوائز قفزاً، ولكن الشيء الجديد اليوم أن نقف على استخدام البعض الآخر لماكينات تسير بالمازوت أو بالنفط، ماكنات مغطاة بالأدوات السياسية والرأي السياسي بحيث تحجب أرقام التسجيل الثقافية، وتستخدم هذا التمويه لنفس الغرض، ولكن بطريقة حديثة، هذه هي بدعة <ثقافة الأتوبيس>!

الراكب في هذه الحافلة التي تسير عبر"المدارات" وبين "المحطات"، قد لا يتيح له الوضع تمييزعملية تغيير "اللوحات" الخاصة بهذه الحافلة، وبالتالي فإنهم يقدمون أنموذجاً جديداً في أحصنة طروادة ثقافية مميزة لم تكن طروادة قداهتدت إليها على أي حال، فطروادة كانت قد قدمت حصانها الاستاتيكي وسجلته باسمها في تاريخ البشرية، أما هؤلاء الجدد فهم يقدمون حصاناً ديناميكياً وهو في لغة المتحرك العصري< أتوبيس ثقافي> بامتياز.

على رأس هؤلاء النفر دعونا نلتفت إلى السيد أدونيس نبي ثقافة الأتوبيس الجديدة مثالاً في مقالته المنشورة في إحدى الصحف التي يكتب فيها مدارات أتوبيسه، هذه المقالة التي خطها يوم الخميس المنصرم بتاريخ 24/8/2006 وحملت عنواناً تضليلياً "السياسة الأمريكية – الإسرائيلية تكرهها الشعوب"..!

مقالة السيد أدونيس التي صاغها لتقول أن الشعوب العربية والإسلامية تكره السياسة "الأمريكية- الإسرائيلية" تحتاج أن تبدأ بتفكيك ما حوت بدءً من العنوان، هذا العنوان أقر للكيان الغاصب بسياسة قد تكرهها وقد تحبها، وعليه فهو يتعامل في الأوتوبيس الثقافي مع الاعتراف توطئة لثمرة الأتوبيس في محطة الجائزة المعولمة، وإذا كانت سياقات النقاش التي قدمها حول سياسة الأمبراطورية وفهمها وأدواتها يمكن قراءته في موضع ما بما يسعف في إنتاج قيمة ثقافية تحقق دفاعاً ومرافعة ما، وله أن يختار أسلوب هذه المرافعة من موقعه ولا شيء في ذلك، طالما أن القيمة المفترضة لهذه المرافعة هي الدفع عن الشرق العربي والمسلم صفة الإرهاب وتهمة المعتدي، فإن غير المفهوم تماماً أن تصل هذه المرافعة إلى ما يشبه أسلوب الاستعانة بالمحسنات البديعية السياسية التي قدمها أصحابها بدءً من باب "توسل" وأخواتها!

على أية حال فإن أهم الصفات الأتوبيسية التي جاءت في مقالة السيد علي أحمد سعيد هي أسئلته المؤرقة التي قدمها في هذه المقالة <الأتوبيسية> وجاءت على هذا النحو :

1- لماذا يعطي العرب، دائماً، "الفرص التي تظهر إسرائيل في مظهر "الضحية" بأعمال ضدها ،فردية، وليست لها أية قيمة نضالية ؟

2- أفلا يبدو في العمق ، كأنها أعمال تسوّغ الجريمة وتغطيها؟

3- أن هذه الأعمال لا تندرج في إطار خطة، أو استراتيجية، عدا أنها لا تجدي، وأنها نوع من الانتحار المجاني الذي لا ينحصر في "الفرد" الفاعل، وإنما يتخطاه إلى "الجماعة" بحيث يصبح "انتحاراً" جماعياً وتدميراً جماعياً.

4- يكمل العرب أو يتابعون نضالهم : يتظاهرون، يكتبون، يخطبون،يقدّمون المساعدات، لبناء ما تهدم، للذين قتلوا، وللذين وسوف يقتلون في فرص أخرى...، هكذا ومنذ أكثر من نصف قرن، المسرحية ذاتها- مع عناصر "مسرحية" تتجدد ، وتتنوع، والنتيجة ؟ لا أعرف إن كنا نريد حقاً أن نواجهها ، أن نراها على الأرض: ماذا حقق العرب في هذا الصراع مع إسرائيل على مدى أكثر من نصف قرن؟ وماذا حققت إسرائيل؟

الأسئلة المؤرقة هذه تحكم ببساطة متناهية ودون لفٍّ ولا دوران ،على الوعي الثقافي العربي الذي رأى في المقاومة الوطنية اللبنانية الإسلامية والمقاومة الفلسطينية وأي مقاومة عربية أخرى ملاذاً ، هي مجرّد :

أولا: أفعال طائشة مغامرة تعطي العدو المغتصب صفة الضحية – طبعا هو لا يرى آلاف قانا وغزة اليومية – وهي أي المقاومة تسوِّغ الجريمة التي يقوم بها العدو وتغطيها!

ثانياً: المقاومة هي انتحار جماعي وهي تدمير جماعي، - العدو الذي قام بكل أفعال العدوان الجماعية دون أية مبررات سابقة مسقط هنا- ، وبالتالي فالانتحار هو توصيفة جديدة للفعل المقاوم، في الطريق إلى قبول "إرهابيتها"!

ثالثا: الهزيمة التي اعترفت بها ذات أركان الدولة المسخ، مبرأة تماماً هنا بل على العكس، المقاومة العربية لم تحقق فرض إنكماش العدو بخططه الاستراتيجية، وصولاً إلى نقل المواجهة إلى داخل مواضع اغتصاباته على الأرض العربية.

هذا هو المنطق المقدّم في هذه المدارات المشبوهة، وهذه هي الألغام الثقاسياسية التي يحملها <أتوبيس> المسيو أدونيس عن جدارة، طبعاً لو كان ما يريد أن يصفه السيد على أحمد سعيد في مقالته بماذا حقق النظام العربي، لكان لديه عندنا تقيماً آخر تماماً لأن هذا النظام يمكن بسهولة أن تكون محاكمته على قاعدة ماذا حقق، وعلى نتيجة أين تكمن هزائمه ونتائج معاركه، أما أن تكون هذه المحاكمة للمقاومة فهذا هو سم الأتوبيس الذي يريد أن يصل لمحطة الجائزة والذي يسبق ذلك بتبديل وفك اللوحات على هذه الصورة الخبيثة.

هناك نفر آخر أقل أهمية – مفترضة- في الشأن الثقافي لوحظ أنها لجأت أيضاً إلى ثقافة الأتوبيس مؤخراً، ولا نتوقع لهذه الأتوبيسات الثقافية أن تقل أو ترعوي قريباً، فهي تلهث محاولة أن ترضي ذلك الجالس على دكة محطة الأتوبيسات في قياس مستعجل لمدى ما تحققه.!

السيد أدونيس : رغم أني لا أرى في كثير مما قدمته على المستوى الثقافي ذلك الشيء المميز، ولا أرى أنك كنت مستحقاً لرافعة صماء بلهاء قدمتك على أنك عنوان ثقافي وأدبي محتمل، ورغم أني أرى حتى على مستوى النسيقة وقصيدة النثر هناك عشرات من الشعراء قدموا ما هو أفضل مما قدمت، ورغم أن محاكمة منتوجك الثقافي في موضع آخر وبأدوات أخرى ، إلا أنني أرى أنك في أتوبيسك الثقافي هذا قد كنت حاذقاً تماماً، لكن يبدو أن هذا الحذق ليس كافياً بعد لبلوغ محطة الجائزة، والسيد على تلك الدكة ما زال يبلغك أنه غير كافٍ إدانة الضحية وتجريم المقاومة وتهميش حصادها والاستهتار بإنجازها، يحتاج منك المهم القادم بعد تبرير العدوان وقد تضطرلتأليه المعتدي طالما لم ينته الطريق بعد، وقد سبق لك أن قتلت الإله والشيطان في إبداعك النثري الأسطوري ، - : ... ( لا الله َ أختار ولا الشيطان ْ كلاهما جدار ْ) -.....أوليس كذلك ؟! لكن رغم هذا كله دعني أهمس لك علّك ترعوي : عيب ْ وبعضاً من حياء...!

26/8/2006

- فدوى طوقان : يمامة الشعر الفلسطيني ...!

نظرة أخرى في المألوف.....

لأمر ما ، لا يذكر لي أحد هؤلاء ،إلا وتذكرت ثالثهما، فدوى طوقان ، وعبدالرحيم محمود ،وإبراهيم طوقان، واستقرَّ لدى ،أن العلاقة في أمر هذا الثالوث ،يجمع صميمه هيكل خارجي، قوامه إضافة إلى كون هؤلاء المبدعين الثلاثة ، قد شكلوا علامة بارزة في الشعر الفلسطيني الحديث، وهو ما سبق وأن وصفته ذات مرة، بمرحلة أدب المقاومة الوسيط، فإن هؤلاء في ذات الوقت أتموا علاقة داخلية خاصة، فيما بينهم جميعا، وبين كل اثنين على حدى في ثنايا هذا الهيكل الخارجي الصلب.

أما ملمح العلاقة الداخلية، فدور الأستاذ الذي احتله، الشاعر إبراهيم طوقان، في مركز هذه العلاقة النابه، وإن كان إبراهيم لأحدهما في منزلة القربى، كما في علاقته بفدوى، كونه الأخ الشقيق المحب، فهو الأخ الذي لم تنجب أم الشاعر عبدالرحيم محمود بالنسبة له، أستاذا له في أول الأمر، فصديقاً حميماً ، فأخاً مخلصاً ،وإذا كانت الفترة التي شهدت هذه العلاقة الحميمة بين هؤلاء الثلاثة، وهي فترة ما قبل النكبة الفلسطينية الكبرى، أي ما يصطلح عليه بنكبة العام 48، فإن آثار هذه العلاقة قد امتدت حتى ما بعد، استشهاد عبدالرحيم محمود ، ووفاة إبراهيم طوقان، وبقاء فدوى بعدهما حية.

بيد أن الأمر لا يقتصر ،على ترتيب النظر في أمر العلاقات، حيث ثمة ترجمة عكستها تجربة كل منهم، في شعره وحياته الخاصة، كانت بوجه عجيب موحية، بنسق من التوالي، ونسق من التماثل في محطات مركزية بعينها، وإن كنا نلمح ،أن المشترك المتيقن ،في أمر تجربة هؤلاء جميعا، هو وطأة فصول القضية الوطنية، والمعاناة اليومية، وأثر ذلك على كلٍ منهم، وهو المشترك اللافت، والمستطاع لمحه بسهولة، فإن مشتركات أخرى تبقى بحاجة، لمطالعة فاحصة، قبل أن يتم الجزم بتواترها في حياة كلٍ منهم، وليس سراً أن يكون المشترك الخافت، هو علاقة القلب وطوية الحب.

فشل إبراهيم طوقان، في أمر علاقة الحب التي ذاعت، وعرفت عنه والتي مثلتها اللبنانية ماريا صفوري، ورفضت عائلة طوقان أمر زواج إبراهيم، فذهب ملتاعاً أسيفاً، بينما لم تسمح عائلة طوقان، لفدوى مبكراً أن تكون – كأمر عائلات فلسطين آنذاك- طرفاً في علاقة قلب، ولو أنها كما روت تالياً من أمر فلتها، دون أن تأخذ فرصة، حتى لفهم ما كان يجري مع صبية، في عمر الياسمين، وأما ما ذاع تالياً من أمر علاقتها، وكما روت آنذاك مع أنور المعداوي والذي نشره رجاء النقاش كتاباً، في شأن مراسلاتهما تالياً، فهو ليس فشل علاقة القلب لفدوى الشاعرة الناضجة، وأكاد أقف على فشل آخر بين عبدالرحيم محمود وفدوى طوقان، وهو بظني الفشل الذي كان مفصلاً حقيقياً متمماً لأمر المشتركات بينهم، وثمة قصائد في أمر لوعة الفشل قالها عبدالرحيم محمود، وبنيت على أمر المجهول، بل لربما ما أثبتت في ديوانه الذي جمع تالياً، ولعل من أشهرها: "يا حياتي" ، و "روحي" ، و"قصيدة كبرياء الحب"، وأعلم أن مثل هذا الزعم يلزمه بحث مستفيض، قبل أن يقف الباحث على الجزم به من عدمه، ولعلي وقفت على أمر رسائل فدوى وأخيها إبراهيم، وهي التي جمع جلها الشاعر المتوكل طه في كتب أصدرها، فما استطعت أن أجد ما يشفي، أما ما تناوله الشاعر أحمد دحبور في أحد مقالاته معقباً، على حديث لفدوى مع مجلة الوسط (عدد 17/9/200) ، ونزعته لتفسير مجموعة اللحن الأخير التي أصدرتها فدوى، على غير ما صرّحت به كونه قصة حب لها، فلعله يلقي بضوء على صعوبة التدقيق في أمر هذه الزاوية، سيما ونحن نحاول عصراً مضى عليه أكثر من نصف قرن.

فدوى طوقان يمامة الشعر الفلسطيني، وأجدني مطلقاً ذلك عليها، متبعاً خطى ما وصفه العلامة الراحل، إحسان عباس في أمر صاحبه أبي حيان التوحيدي، باقتضاب التوصيف في أمر الشعراء، ورغم أن مبعث التوصيف ليس نقدياً بحال، كمظنة التوصيف عند أبي حيان، فإن يمامة الشعر فدوى عانت من ثقل ثلاث مصائب كبرى، حدت ببعضهم أن يصفها، بخنساء فلسطين، ولا أراه موفقاً على أي حال، أما هذه المصائب: ففقدان الوطن، وفقدان الأخ، وفقدان الحبيب، على تواليها.

يمكن أن نقف على أثر الشعور بالظلم، الذي اختزنته فدوى مطولاً، ذلك الظلم الأول في حبسها، تحت سيف العائلة والمعيار الاجتماعي الفولاذي، ووطأة الظلم العام في رؤيتها تفقد وطناً وأحبة، بسبب العدوان الصهيوني والتآمر متعدد الجهات، على وطنها وشعبها مبكراً، وفي سنوات شبابها وتفتحها، ولك بعد أن تتوسّع ، في أمر توالي تراكم هذا الظلم العنيف، في أمر خيبة القلب وما ما ترافقه، في مثل هذه الحالات بالنسبة لشاعرة، مرهفة مثل فدوى.

وإن كان صحيح، أن فدوى نالت قسطاً وافراً من الظلم، والعسف مبكّراً لأنها ابنة عائلة طوقان بخاصة، فهي نالت في مقابل ذلك ما أحسبه، ولذات السبب دعماً وتركيزاً خاصا، على تجربتها الشعرية كشاعرة فلسطينية، وإن لم يستو ما أخذ بما أعطي، فإن الحقيقة أن هذا النوع من الدعم والتقديم قد تم لفدوى طوقان، حتى أنه كاد يحجب تجربة شاعرات فلسطينيات مبدعات أخر، ومجايلات لفدوى لا يقلُّ مستوى شعرهن، ولا تنخفض قيمة تجربتهنَّ بحال عن تجربة فدوى، فلعمري قد حجبت فدوى النظر في أحيان كثيرة، عن مجايلات لها لم يسمع كثير من الشعراء الفلسطينيين، قبل غيرهم من المشتغلين بحقل الشعر العربي بهن، فإن سمعوا بسلمى الجيوسي فلربما لم يسمعوا بغيرها، ولعلي أورد على سبيل المثال لا الحصر أسماء لبعضهنَّ : ليلى علوش، ومي الصائغ، وليلى السائح وسلافة حجاوي وغيرهن.

وعلى كلٍ فإن تجربة فدوى الشعرية، تبقى باباً رحباً واسعاً يمكن أن يتناوله الكثيرون بغير مدخل، وهي من أكثر من نال حظهم من الدراسة الأكاديمية الجادة في هذا المجال، ورغم أن شعرها الجميل السلس قد انتقل بين مرحلتين، ما قبل حياتها في لندن وما بعدها، وما قبل عام 67 وما بعده، كل في مجال تحليله حيث لا يتسع المقام لهذا ، إلا أن مجموع هذا الميراث الشعري، ينبه إلى شاعرة متميزة، قيل عن مباشرية شعرها كثيراً ، ولكنه شعر مميز، وصلت بقمته الشاعرة فدوى طوقان، مرحلة الشاعرية المنهجية بظني وزعمي ،إن جاز لي أن أحكم عليها، هذه المرة بما تناولته في نظرية "الشعرية والشاعرية"، وهي بلا شك يمامة فريدة في الشعر العربي بعامة.

وهذا النص كنت أهديته روح فدوى أدرجه في هذا المقام، وهو من مجموعة "مانفستو لا" الأخيرة :

سلام ٌ على مسرى البتول ْ

" إلى روح الشعر وشدو فلسطينَ ...إلى الراحلَة فدوى طوقان ....."

***

سلامٌ على عيبالَ ما انطفأ السراج ْ

سلام ٌ على عيبالَ ما اشتعلَ الحنين ْ

سلام ٌ على جرزيمَ ما ارتحلَ النّهار ْ

سلام ٌ على جرزيم َ ما اختلجَ الأنين ْ

سلام ٌ على فدوى

سلامٌ لعهدِ الياسمين ْ

سلام ٌ لروح ِالطيّبين ْ

سلام ٌ على حارات ِ نابلسَ البعيدة ْ

سلام ٌ على الباذان ِ مشتعلاً بنار ْ

سلام ٌ على باب ِ الجدار ْ

سلام ٌ على لحن ِ الرَّحيل ْ

سلام ٌ على دمع ِ الشفق ْ

سلام ٌ على دمع الشفق ْ......

***

على باب ِ يافا يا أحباءُ موعدٌ

وعهدٌ بعيدٌ ما ارتحلْ

على بابِِ يافا قبلتان ِمنَ الفراقْ

ونبضٌ لها منَ زيزفونَ وزعفرانْ

وجسرُ عبور ٍ منْ مقل ْ

على باب ِ يافا ما تركناه ُ بيننا

وما قد بنينا من أملْ

على باب ِ يافا ما حصدنا وما احترق ْ.....

***

وعدنا إذا الميعادُ قامَ من السياج ْ

فهل عادَ فينا ما انطلق ْ ؟!

وما قد بذرنا منذ ُ قامَ حصانُنا

وأمسى لنا غصن ٌ يعلِّمنا الهوى

ويستلُّ جرحاً لا يهدِّدُهُ الأرق ْ !

نعم ها هوَ الميعادُ قام ْ

وغنّتْ لنا الكثبانُ قافلة ََالوجع ْ

فماذا وجدنا غيرَ قتل ِ حصاننا

وماذا تلونا غيرَ خاتمة ِ الغرق ْ.......؟!

***

لماذا صلاة ُالخائفينْ ؟!

لماذا غيوم ُ الواقفين ْ ؟!

وقفنا على باب ِ الخيام ْ

نظرنا إلى وجهِ الشراعْ

ولكننا أختاهُ عذَبنا الخطاب ْ

فعدنا إلى خيماتنا نلدُ الشموع ْ

وضاعَ الذي زفّوا إليه ِ كتابنا

بكى عندنا وجه ُ القمرْ

مضى مسرعاً ركبُ الحمام ْ

مضى قبلَ أن يهدي الخشوعْ

فضاعَ الهديلُ واختنقْ .........

***

غزانا السؤالُ واستخفَّ جوابنا

فماذا ترانا سوفَ نحسنُ من عويلْ

وماذا سنخفي من رقاع ْ ؟!

رحلتِ سريعاً قبلَ أن يقفَ الصهيلْ

وقبلَ توابيت ِ النخيل ْ

وقبلَ سقوط ِ المستحيل ْ

تراك ِ خشيت ِ ما سيغدو مناسبا ً

لكلِّ الوجوه ِ من طقوسْ ؟!

وهلْ غيَّرَ البحرُ الحروفْ !

فليسَ الذي أبقيت ِمن صخب ِ الدليلْ

وليسَ الذي أخفيتِ من نزق ِ الفؤوسْ

ولا ما حملت ِ للخزانةِ من ورق ْ........

***

إلى موكبِ الزيتون ِ ضمّي سلامنا

وقولي لهم عادوا فراشاً

ولكنْ إذا مرَّ السراب ْ

وماتَ أبناءُ الخراب ْ

وحنَّت إليهم ْ ساعة ُ الفلق ِ العجيب ْ

وعادَ سفيرُ البحرِ في الباب ِ أعشاشا ً

نما بينهم عصفورُ حنّاءَ منتفضاً

وطارَ بأضلع ٍ لها نفّسُ الترابْ

وشقَّ بروحه ِ إليكم طريقه ُ

وعادَ متيّما ً كما كانَ في العشق ِ انطلق ْ.....

***

خذينا إلى عزف ِ الحقول ْ

خذينا إلى بردِ النزول ْ

خذينا إلى شعر ٍ يردَّدُ لا يهون ْ

خذينا إلى عصر ِ الخيولْ

يتامى تركت ِ فارجعي لقصيدة ٍ

ببابِ المسيح ِ واغفري خطرَ الأفولْ

على وجنتيك ِ يا فداءُ سلامنا

محبة ُ فيضنا

وردُ صيامنا

وسلَّةُ مسك ٍ لا يذوبُ ولا يخون ْ

وطوقٌ من العشق ِ القتيلْ

ونورٌ وأنفاسُ المزونْ

سلام ٌ على رؤياك ِ ما استبقَ الوصول ْ

سلام ٌ على مسرى البتولْ

سلام ٌ مقيم ٌ بينَ أجنحنا افترق ْ......

أيمن اللبدي

23/12/2003

- 

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|