{env}

الصفحة الأساسية > فيوض > حول المنجز > «اتتفاضيات» أيمن اللبدي -إلتزام بقول الوجدان الفلسطيني

.

«اتتفاضيات» أيمن اللبدي -إلتزام بقول الوجدان الفلسطيني

السبت 11 نيسان (أبريل) 2015

«اتتفاضيات» أيمن اللبدي -إلتزام بقول الوجدان الفلسطيني وانزياح الى بطولة الهامش

JPEG - 6.2 كيلوبايت


- نجمة حبيب- كاتبة وقاصة -استراليا

تعلن قصائد انتفاضيات عن نسبها منذ البداية فنعلم منذ عنوانها اننا امام نص ادبي ملتزم بحالة وطنية لها مكانة خاصة في وجدان الشعب العربي عامة والفلسطيني على وجه الخصوص. ثم لا نلبث ان نكتشف دون إعمال ذهن أنها تنتمي الى الادب المقاوم، تسعى الى كل ما يسعى اليه هذا الادب من تثوير وتحريض وتنوير (لا تغلق الباب خلفك، تشي، الشهيد في حضرة المولد العربي على روح الانتفاضة...)، وتقول صادقة وجدان العربي الفلسطيني بكل ما يعتوره من هواجس واحلام وامنيات وانكسارات. قد يحدث أن يختطف الموضوع شعرية القصيدة فتجنح لغتها الى الخطابي (ساطع مثل الحقيقة/ سرمد مثل الازل/ طاهر مثل البرد/ رائع فوق الخليقة....). لا يعني ان الشاعر قال بقيم الشفاهة وانغمس بالايديولوجي والسياسي بل كان، في الكثير من الاحيان، شاعراً رسوليا يهتم بالرؤيا ويذهب للكشف عنها مذهباً جمالياً تتكثف فيه العبارة الشعرية التخيليية الغنية بالاستعارات والمجازيات المفتوحة على عدة قراءات : ("إنه الهولوكوست"، "من رؤيا يوسف الافغاني"، "لا تسأليني"....) وهو لذلك لم يجرِ وراء مرضاة النقاد الذين يريدون للشعر صومعة عاجية بل قاد قصيدته بقصدية حكيمة الى الشارع، مصنع الحدث، فشهد عليه وسجله وحاكمه محاولاً قدر الامكان الحؤول دون اختطاف الموضوع لشعرية القصيدة. لذلك، بدا واثقاً من نفسه مؤمنا بشاعريته لا يجزع من ان يرمى بتهمة الالتزام التي يخافها ويحرص ان يتبرأ منها الكثير من الحداثاويين

هذا الالتزام _ في الكثير من الاحيان _ لايعيق فنية القصيدة بل يجملها بصدقه وحرارة عاطفته كأنه ليس التزاما بل حالة شعرية حرضتها المعاناة التي تسكن الشاعر وتطغى على وجدانه فتجعله ينشغل عن كل ما عداها من حذلقات نقدية كأمور الغياب والهامش والانزياح والتفكيك. لا يعني هذا خلو القصائد من هذه المعاني، بل هي موجودة حسب مقتضى الحاجة دون ان يكون السعي وراءها هدفاً بحد ذاته. إنّ الاشتغال على الصورة الشعرية جعل العادي يتوهج ويمتلئ بالايحاءات ويؤسس لأدب الصمت.

وحديثي سوف يبقى مثل الافق بهياً في السنابل/....واستعدت للسقاية في حجيج الاقحوان/.....لك والدان وفلذتان ونسل أحجية البقاء....

بل لعل في موسيقية: قبلتان/ وردتان / للنسيج المصطفى / والاديم المرتدي مجد السماء/ مستمرأ في البقاء/.....جمالية اشد جذباً للذائقة الشعرية من كثير من أدبيات الصمت.

تحرص قصائد "انتفاضيات" على ان تكون ذاكرة فلسطين الجمعية فكأنها توثق يوميات نضالها وتخلد رموزها بالشعر الذي يبقى بعد زوال التاريخ: راشيل، ابو علي مصطفى، محمد خانقين، دم محمد الدرة وفيصل الحسيني. . . كلهم حاضرون متغلبين على فنائهم بالبقاء في القصيدة يبعثون عند كل قراءة لها. كما تحرص على ترجمة الحالة الفلسطينية بكل ما فيها من قلق على الهوية وإصرار على البقاء ومقاومة عملية التذويب والامحاء، وهي ايضاً تقف مصارعة كل محاولات التهميش والتيئييس. ولعل الهاجس الاكبر الذي طغى على هذه المجموعة هو قلق الهوية. ففيما تعنى الكتابات الشعرية، على وجه العموم، بالقلق كحالة وجودية تشترك فيها الانسانية عامة، يهجس أللبدي بالخاص منه: قلق فقدان الهوية والخوف من تلاشي الذات الجمعية ازاء الضغوطات القاسية التي يتعرض لها ابناء شعبه، فيتصدى له بطرق عديدة. قد يلجأ الى الفخر درعاً يرده به ولكنه فخر منزاح عن التقليدي الذي ينشغل بتعداد صفات القائد الفرد أوالسوبرماني الى العادي الذي يهدف الى تذكير الذات بطاقاتها الكامنة القادرة على التغلب على كل محاولات الامحاء التي تمارس عليها. هي فخرية تهدف الى الحؤول دون تقزيم الشخصية الفلسطينية وكسر ايمانها ودفعها الى اليأس والتخلي عن مشروعها الوطني. كما انها رد على دعاة التيئيس (الندابة إذا صح التعبير) الذين يبالغون بالتفجع وتضخيم صور العجز التي توحي بأن الشعب الفلسطيني مغلوباً على امره اسقطت من يده كل سبل الصمود.

انزاح اللبدي عن صور الفخر التقليدية فجعل بطله الاول الطفل البريء الذي كبر فجأة فصار أكبر من رشفة الحليب و"حمل فوق أكتافه الطرية موعد الصليب" (121) ثم كان الحجر والزيتون والانثى والتراب والبحر....

يا سيدي الحجر/ يا صانع القدر/ في غابة الحجر/ قل لهم أنت ياسيدي الحجر/ لن ينطفئ الزيتون لن ينطفئ الزيتون/

ولعل أكثر صور الفخر انزياحا في هذا الديوان هو افتخاره بالانثى ووضعها في مرتبة اعلى من مرتبة الذكورة: فقد ضمن الشاعر قي قصيدته "أنك الانثى الوحيدة" معنى مفاده أن الانوثة هي الغاية الكبرى، ثم توج الارض بأعلى درجاتها فجعلها الانثى الوحيدة". لقد نسب الشاعر لأنثاه كل فضائل العالم: من عيونها تعلّم القياس والحساب والخطاب واللغة والتمترس مثل صوان الازل ثم ابتهل اليها قائلاً:

إرفعينا نحو مجد لا يزول/ إنك الانثى الوحيدة/ إنك السورة الفريدة/ يوم قد هان الذكور(30).

ولعله بفعل هذا القلق أيضاً وقف مدافعاً عما يكال لشعبه من تهم شوهت انسانيته كالادعاء بأن الفلسطينيين شعب قاسٍ يحترف ثقافة الموت: أرحام نسائه ليست أكثر من مصنع لإنتاج "الانتحاريين" وأطفاله مشروع شهادة ورجاله مهووسون يستعجلون الموت سعياً وراء جنة موعودة. . . ولعل قصيدة "مثلكم" خير ردِّ على مثل هذه التجريحات. إذ أن فيها تذكير للمتناسين بأن الفلسطيني ليس مخلوقاً من كوكب آخر بل هو "مثلكم" تدهشه لحظة الميلاد ويشتهي أن يحاور شفاه البحر وقيثارة العاشق. بل هو أكثر تواضعاً منكم في طموحاته وأمانيه فهو يأمل ويشتهي ما هو عندكم فعل بديهي ، هو يحلم فقط ان يبدأ يومه طبيعياً ويكون "فجره بلا دخان".

يختلف اللبدي عن كثير من الشعراء بأنه لا يتورع عن التواصل وابداعات من سبقوه (فعل تواضع قلّ ان نجده عند غيره) وهو بذلك لا يتخفى ولا يوارب بل يعلنها صريحة. فهذا توفيق زياد يعلن عن نفسه جلياً في "باقون شوكاً في حلوقكم" وهذه يوسف الافغاني تذكرنا ب "أنا يوسف يا أبي" ولا نستطيع إلا ان نتذكر الحمداني ونحن نقرأ تلك المناجاة الحميمة في "لا تسأليني" ومقارنتها بقصيدة "بنيتي لا تجزعي". إلا أن مثل هذه القصائد وان نحت في بعض صورها الى ما يحيل الى هذه او تلك من سابقاتها، إلا أنه يبقى لها نبضها الخاص الذي يميزها، فتوظيف "البنية" لتكون مكمنا للبوح ليس هو ذاته في القصيدتين. إذ أن اللبدي في قصيدته كان يجيب عن تساؤلات مفترضة لينفث من خلالها مواجعه وهموم قلبه. كان بوحاً رقيقا فيه مرارة ولكن لم يكن فيه استسلاماً، كان فيه اعترافا بثقل الحمل ولكن لم يكن فيها تخلٍ عن ذاك الحمل، كان فيه عتباً على أبناء العمومة والخؤولة ولكنه لم يكن تبريراً لتقاعس. لقد تفوقت قصيدة اللبدي على الحمداني في أنها قاومت انكسارها. لحظة بوحها الحميمة لم تؤد بها الى الانكسار فانتهت معلنة مجدها وانتصارها على الفناء

[(والوصية سوف تبقى من جراحتي الجليلة لا أريد

جوابها، دعها على نقش التراب هناك تحفر صمتها

وتعال خذني في ذراعيك

البعيدة أرتدي قبلتين وأعتلي مجدي معك....)]

لم تقل قصائد انتفاضيات السطح ولا ألّهت فرداً ولا حتى عقيدة بل آمنت بالبطولة الكامنة في جوهر الاشياء ، بالحجر والزيتون وحبات الرمل و"عتبة الجرح" و"حمام القدس". وقد سلكت الى غايتها كل انواع الشعر الممكنة من حماس وفخر وهجاء وكوميديا سوداء. وهي لم تنتمِ الى مدرسة شعرية محددة فقد يحصل ان تبدأ القصيدة حماسية عالية اللهجة ثم لا تلبث ان تنتهي بالهامش الذي يؤسس لأدب الصمت.

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|