{env}

الصفحة الأساسية > حوارات > حوار لصحيفة (الجماهيرية) الليبية من الشاعر صابر الفيتوري

.

حوار لصحيفة (الجماهيرية) الليبية من الشاعر صابر الفيتوري

الجمعة 20 نيسان (أبريل) 2018

- حوار الشاعر صابر الفيتوري مع الشاعر أيمن اللبدي

JPEG - 300.8 كيلوبايت

ثمة بعض الخلل في شخصية المثقف العربي .. شللية وكولســة واغراق في الذاتية

بعيدون .. بعيدون جداً ياصديقي عن الشعور بالاطمـــئنان للمستقبل

[("ايمن اللبدي" شاعر وإعلامي عربي من فلسطين ، في هذا الحوار قدم لنا رؤية عن وجهة نظر المثقف العربي مع ما يتماس معها من أحلام وإشكاليات ، احد أهم الأصوات الشعرية، التي يمكن تسميتها بالامتداد لذلك الجيل من شعراء فلسطين ، التي تنبت فوق صخور أرضها أصوات الرفض والتحدي في كل زمان ما تزال.. الثقافة والإبداع هي خبزه اليومي، منها استمد الحياة ،وبها وضع طموحه الجارف في الخلاص، صوته يهدر جارفا،ليس عبر شعره فقط، بل بين كل سطر تخطه يداه، حتى في رسالة يكتبها لا قرب المقربين .. صدرت له خمسه مجموعات شعرية أحدثها "صباح الخير يا هانوي" و "مانفستو ..لا " و "انتفاضيات " بالإضافة إلى "الشعرية والشاعرية " وهي رؤية نقدية تحاكي الواقع عبر لنا هنا على الكثير من سياقاتها ومضامينها .. يعرف بلادنا ليبيا ،ويعرفنا نحن، كما انه يعرف عن طبيعة تكوين مجتمعنا الكثير سياسيا وثقافيا واقتصاديا ربما لأنه راصد إعلامي لكل ما يدور في الوطن العربي وذلك منحه زاوية نظر جلية ..)]

* كيف تقيم لنا مسيرتك الإبداعية ؟

- حسناً : هل من الممكن قبول أي تقييم ذاتي إلا من مبدأ ممارسة النقد والنقد الذاتي ؟

أقول لك الحق أني ترجمت هذا السؤال مباشرة إلى معنىً آخر تماماً، يفترض أن أجيبك بأن عملية التقييم النقدي ليست هي الدرس المفترض للمنتج- ولا أود أن أستخدم لفظة المبدع التي يجري استخدامها عربياً على الأقل ، استخداما فيه الكثير من التسهيل وأحياناً بعض الاستهتار- إنها الدرس المغيّب تماماً للناقد الأدبي ، ذلك الذي ترك أدواته جانباً وترك مسؤولياته في معظم الأوقات ، وبدا كأنه من آلهة الفينيق أو الرومان ، أو بدا كأنه شراع من نسج العنكبوت، أنت أثرت منذ البداية يا صديقي شجناً وفتحت أسىً عظيماً في هذا الأمر، وعلى أي حال أظن بأن هذه المسيرة لا تزال تحتاج المزيدَ من الجهد في المتابعة ، وتحتمل الكثير مما لم يقل بعد، جزء منها كان في التعلّم ، وجزء منها كان في التجربة، وبعض البقية في فحص المستحصل بالقياس إلى النموذج المرتغب والمتخيّل المطارد، لكن الأهم عندي هو شيئان : التزام الصدق بمساحاته ، والرضى بتجلياته، هذا خلاصة ما استقرَّ من إجابة أستطيعها في حضرة هذا السؤال المستفزِّ والمحقِّ في ذات الوقت.

* تحتفظ الذاكرة بعدد من رفقاء الدرب الإبداعي حدثنا عن هذه العلاقة ومن منهم ما تزال الاواصر قائمة معه ولا غني عنها ؟

- صديقي العزيز أنت واحد منهم، وكلهم تنتظم معهم الوشائج والأواصر، وليس من ترف عندنا لخسارة صديق ورفيق في محفل الكلمة وهمّها المشترك وشرفها وأماناتها، انظر : أن تتخذ لنفسك صديقاً أو خليلاً وبالذات في مجال الكلمة، مسألة ليست بالأمر الميسور دوما، ومسألة تطاردك فيها عوامل كثيرة، ليس الزمن أهونها، ولا وسيلة التواصل أيسرها، وهدية السماء والعقل المنتج المبدع كانت مؤخراً في هذه الشبكة التي يدعونها بالعنكبوتية، وأدعوها بالروحانية في هذا المجال.

طبعاً لها منظر آخر إن أردت في غير هذا الموضع تظهر بها شبكة شبحية وظلالية، لكنها هنا كانت روحية بامتياز أتاحت التواصل مع كل الرفاق والأصدقاء الرائعين وربطت المشرق بالمغرب والشمال بالجنوب مثلما لم تفعل أيُّ وسيلة من قبل، وتواصلنا مع أصدقائنا ورفاقنا في المهاجر وحولنا في المشارق والأهم في المغرب العربي كاملاً ، وفي ليبيا هناك الكثير من الأصدقاء والأحبة من الشعراء والكتاب والأدباء، أنظر أنا لا أحصر الرفقة بالمجايلة، ولا أحصرها أيضا في إحالية متوقعة للسؤال بالمساكنة والمواطنة، ولكني أحيلها بكل انفتاحيتها، على كل الزمكانية في التعبير، واعذرني عن تتبع قائمتي المفضلة في هذا الأمر، فهي طويلة أكثر مما تظن، ولا المساحة ولا الوقت يا صاح بمسعفي، ولا أود أيضا أن أسهو أو أقع في فخِّ نوبة الذاكرة كما تقول.

المهم أنها علاقات حميمة وفيها قدر كبير من المودة والاحترام والاهتمام لشخصياتهم ولما ينتجون معاً، نفرح لفرحهم ونأسى لأساهم ونأمل لهم أسعد ما يأملون لأنفسهم، وهذا عندي لبُّ الحكاية الانسانية في رفقة الدرب ورفقة الطريق.

* ما هو جديدك ؟

- آخر الجديد هو المجموعة الشعرية الخامسة "صباح الخير يا هانوي" ، هذه المجموعة صدرت مؤخراً عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع بالأردن، وخرجت إلى مساحة الولادة بهذا العنوان بعد مفاضلة مع عنوان آخر كنت وضعته، وكان العنوان الآخر المقترح "الخروج من نسيء القبيلة" ولأن الرسالة التي أؤمن تبدأ بعنوان أي عمل من هذا النوع ، كانت بالنتيجة هي الصباح ومقدمتها هي الخروج من هذا النسيء المخزي، فقد أحببت أن أضع العنوانين معاً، لكنّ صديقي الناشر إبراهيم مجدلاوي أبدى اندهاشاً من الأمر فهو يظنه غير مألوف، فقلنا لا بأس نستقر على النتيجة وعلى محطة الوصول.

المجموعة يا صديقي تضم عدة قصائد واكبت الهمّ العربي، ووقفت على توالي غياب أقمارالعرب، من القمر المنير الخالد جمال عبدالناصر، إلى شهداء الأمة العربية الرئيس صدام حسين والشهيد ياسر عرفات، كما أنها أرسلت رسالة امتنان لشافيز ذلك الفلاح الجميل، والقصيدة التي حملت عنوان هذه المجموعة هي استحضار لهانوي في زمن سقوط بغداد وتهديد أخواتها. أما القصيدة التي اختتمت المجموعة بوحها بها ، فكانت هي الخروج من نسيء القبيلة، لا بدَّ من الخروج من هذا النسيء حتى نترجم صباحنا فعلا، وإلا فإن صباحنا هو البطل المغيّب!

* يعاني المثقف العربي من عدة إشكاليات ما هي ابرز هذه الإشكاليات في نظرك ؟

- الإشكاليات كثيرة فعلاً، لكنَّ أبرزها عندي وحسب ظني هي حالة "انعدام الوزن" ، وما تلقيه هذه الحالة عليه وعلى أدائه وصلاته ورسائله من غموض وجفاف.

دعني أقول لك المثقف العربي كإفراز حالة هو نوعان: نوع يصيح من الماضاوية على جسور العصر الحديث ولا يبصر أسفل قدميه، ونوع آخر يصيح من الحالية الأخرى حارقاً جسور الماضي الكبيرة التي أوصلته هنا، وبين هذين الجمعين الكبيرين، نوع آخر يرى ضرورة الاحتكام للتطبيق النموذجي المجرّب عندنا كأمة عربية وكتاريخ إسلامي حضاري عريق، ساهمنا عبر هذا النموذج يوما في إغناء تجربة عظيمة ترجمت نفسها مساهمة غالية في الكم التراكمي الحضاري الإنساني. لا يمكن أن نعود لمثل هذا الشرف في الدور العظيم مهما حاول هذان الجمعان المسيطران في ترويج مواقفهما على الساحة دون الانتباه إلى ما يقوله النوع القليل بينهما، الوسطيِّ في نظره والوسطيِّ في طرحه، المتكامل بين الجذور وبين الشرفات، وغير المخضوض بفعل الصدمة.

مشكلة النفر القليل هذا هنا أنه يختلف عن الجمعين الآخرين الكبيرين في أن تجاربه فردية ومشاريعه تعتمد على موارد ووسائل ذاتية ولذا فصوته يكاد يختنق بين همرجات الغالبين على حشد المثقفين العرب.

غلبة الأوَّليْن كائنة حكما ، لأن هناك من يسند هذه الرؤى من مؤسسات للدول أو مؤسسات للأحزاب وطنياً أو حتى عابراً للأوطان! ، - هناك بعضها هذه الايام يسمي نفسه "ان . جي .اوز أي مؤسسات غير حكومية ومراكز غير حكومية- لكن النفر الوسطيَّ لا يسنده سوى وضوح رؤيته وإيمانه بما يقول من بشارة وبما يقدِّّّّّّّّّم من نصح. أوروبا قامت نهضتها الحديثة على طبيعة العقد الاجتماعي الحديث الذي تشكّل بعد عصور الظلام والتيه والعداء والتناحر، وتقدّمت المجتمعات الأوروبية نفسها بتكليف هذه الفئة - أعني فئة المثقفين والمفكرين والتنويريين -تكليفاً واضحاً بالقيام بدورها، ولم تستطع المؤسسات العامة والخاصة إلا مهر هذا التكليف بالقبول التام، عندها أصبح للمثقف قيمة وأصبح عنده سند لا يخشى العوز ولا يقع تحت طائلة التطاول والتسفيه والتقزيم ولا المغالبة على نتاجه وقوله، فقال وأبدع وأنار الطريق ونهضت أوروبا،هل عندنا مثل ذلك؟ لعلكم في ليبيا مع فكرة اللجان الشعبية أقرب لشيء من هذا وربما أنكم تستطيعون من خلال تجربة الشعبيات التطلّع إلى مثل هذا الدور للمثقف الليبي بشرط تأمين الحرية الكافية وسعة الصدر للصبر على البدايات ، ولم لا يمكن التجربة، لم لا!.

لكن مرة أخرى التوصيفات والقولبات الجاهزة من نمط المثقف مستلب أو مهزوم أو غيبي أو هو مرتهن لقوت أمعائه وقوت رقبته هي نتائج لحالة وأوضاع وليست هي الأسباب الموضوعية الحقيقية، ولا هي أصل في طور المثقف العضوي الصادق والمؤتمن على رسالته ،على الأقل هكذا أراها أنا ولا ألزم غيري بها.

مع ذلك ثمة بعض الخلل في شخصية المثقف العربي الذاتية، بعض العلل في أوضاع الشللية والكَولسة والإغراق في الذاتية ..نعم لا بدّ من الاعتراف بوجود هذا...لكن هذه ليست إلا عابرة وغير مستقرّة في الثقافة... الثقافة.

* هل ممكن ان تكون عوامل الإحباط أمر ايجابي يدفع إلى الأمام ؟

- أنظر يا صديقي، الاحباط حالة إنسانية تنشأ عن افتراق بين النتيجة المرجوَّة والنموذج المرتغب المبشّر به من جهة ، وبين الواقع القائم بكلِِّ مظاهره الحادة وظلاله الداكنة والباهتة في آن.

نعم ممكن وممكن جدا أن تكون حالة الاحباط عامل دفع إن توفّرت ظروف وأسباب القيام من هذا القنوط، وبعض هذه الأسباب في النفس والذات موضوعية خالصة، وذاتية وافية، لكنَّ بعضها الآخر يستقرُّ غيرياً ، حولياً ، ومصاحباً. لكني أعترض في الصياغة على فكرة أن تكون عوامل الإحباط هي الدافع، عوامل الاحباط ستكون دوما عوامل سلبية ولن تتغيّر هي بذاتها البتة من توصيفها بالمفزعة والسلبية، إلى توصيفها بالإيجابية والدافعة، أما الذي نقول عنه ممكن التغيّر والتغيير فهو النتيجة أي الحالة الاحباطية نفسها، هل من الممكن أن تكون هي بحد ذاتها نقطة انطلاق لتغيير ولتحقيق وضع إيجابي، لو كان هذا سؤالك : من جديد أقول نعم هنا هذا ممكن. الواقع أن التاريخ في كلِّ ميدان في العلم والأدب والسياسة والمناشطة الانسانية الأخرى بيولوجية أم في نطاق الحوائج المادية يدلل على مثل هذا النهوض، لم يكن تاريخ الإنسان كله نجاح، ألم يكن الإحباط الأول هو وقوفه أمام ذنبه الأول وهبوطه من عرش الجنة؟

* متي تصبح الحاجة إلى الكتابة او أي فعل إبداعي آخر ضرورة ؟

- أرى إعادة الصياغة في هذا السؤال- بعد إذنك طبعا- وأقترح له أن يكون : متى لا تصبح الحاجة لهذا ضرورة؟

ذلك أن الجواب على الأول هو دائماً ...ونقطة ، دائما الفعل التعبيري هو ضرورة، أنظر إنه فعل تناقل الحياة نفسها، الحياة داخلية في الوجدان والذات لا تستقرُّ دون تبادل مع المحيط، ولهذا فمثلما هناك مصطلح للمثاقفة، هناك حقيقة لهذا في فعل الكتابة ، أطلقها عني هناك أيضا "محايية" بمعنى تناقل هذه الحياة، ليس بالتناسل الجنسي أو حتى اللاجنسي عند بعض المخلوقات تنتقل الحياة وتستمر شروطها فقط، ولكن أيضا بالتناسل الابداعي تستمر الصورة المكملة لهذا الحياة، لا بدَّ من استمرار هذه العملية والمبدع مؤتمن على هذا الرسالة مثل الأنبياء تماماً في وظيفة العمارة لهذا الكون.

هل تكون هناك عمارة فقط بالحجر؟ لا ، قطعاً لا..العمارة بالكلمة هي الفعل الأول، وعمارة الحجر تأتي لاحقاً. انظر بعد هبوط آدم ماذا تلقى من ربه ؟ يقول القرآن : "كلمات" تلقى كلمات قادت إلى فعل التوبة وهو فعل أول ثم َّ البناء بالحجر وغرس الشجر، هذه هي النواميس، فرحاً أو حزناً، هماً أو منشطاً، لا بد من هذا دوماً.

الآن لك الحق أن تسألني متى لا تصبح الحاجة .....؟ أعني عطفاً على ما اقترحته لك آنفاً، عندها أجيبك : بالموت...نعم لأن الموت في الواقع هو الكتابة الأخيرة والكتابة الخالدة، عندما نكتب ونُكتب أخيراً بالموت، نكون قد أنجزنا حظنا بالكتابة الأخيرة، ماذا يقول الله تعالى عن هذا ألم يقل "كتب عليكم الموت" ؟! هذا هو ، الكتابة الأخيرة التي تستفيض عندها الناس الباقية على قيد الحياة بعدنا في القراءآت الباقية لنا ولما كتبنا يوماً أو حتى - وحقها أن تفعل - عن هذه الكتابة الأخيرة، وتنشط عضلات الذاكرة فيها، وترينا في أحوالها عجباً.

JPEG - 300.8 كيلوبايت

* ما هي انطلاقاتك او فلسفتك التي تسعى لترسيخها من خلال طرحك لوجة نظرك ؟

- لست يا صديقي فيلسوفاً، لأنَّ السؤال هذا من حقِّ الفلاسفة فقط أن يوجّه إليهم، لأنهم وحدهم أصحاب الرسالة من هذا الباب، ولهم يحق فقط أن يدعوا إلى ما استقرَّ في رأيهم ورؤيتهم، وأن يجدوا الاستجابة أو النكوص ، هذا لهم أن يدَّعوا عندها تفاصيل رواياتهم الكاملة.

أما نحن، من حقنا أن نكون تلامذتهم في شأن الفلسفة، ومريدين لما يقولونه أو يزعمونه في شأنها، ولنا أن نطبّق صورة مصغّرة عن هذا في مجالنا بأن نستعير منهم الوجه الأقرب لمقدورنا ولمقاديرنا بمعانيها الذاتية لا معانيها الإيمانية. ذلك في أن ننحت على المنوال "حكمتنا" بدل أن نروِّع الناس بقولنا "فلسفتنا"، وأنا يا صديقي في هذه الطريقة أقول في حياتي حكمتي الذاتية لنفسي ولمن أحب َّ أن يرى من عيني : " أن الفرق بين ما كنت قد أكونه، وما أحب أن أكونه، وما أنا عليه، مجرّد مساحة من الإرادة والإيمان والتوفيق والجهد، وإضاءة على الجانب الذي يراوغني فيَّ بصراحة".

* هل يستطيع الأدب والفن ان يصنع تغييرا ويؤثر في الحياة ؟

- نعم يستطيع الأدب والفن أن يفعل ذلك، فهو منشط إنساني ذو طاقة عالية قابلة للمناقلة بحسب نواميس تناقل الطاقة والمادة، مثله مثل العلم تماماً ومثله مثل الاقتصاد أيضا ولا تعجب، أنا مؤمن بذلك تماما.

لكن المشكلة الحقيقية أن هذه الطاقة من ذلك النوع الشفاف، ذلك النوع الذي يتكيء على عوامل روحانية خالصة، وهو ليفعل فعله ويحقِّق دورته، لا بدَّ من أن يكون الناس في وضع استقبال مناسب له، أما إن كان غير ذلك وكانت مستقبلات الناس في غفلة وانشغال، فلا الأدب مستطيع لما هو مقدّر له، ولا حتى الرسالات السماوية بقادرة على صنع الكثير في حال البشر عند وضع كهذا.

الأدب من ذات الشرنقة التي يخرج منها الوحي، صفة من صفاته ونوع من تضاريس جلاله، صحيح هو أدنى مرتبة، ولله المثل الأعلى، ....لكنه لهذه المكامن ينتمي لا شكَّ في هذا.

وهذه الطاقة مثلما أنها لو كانت من كتلة النور خارجة، ستلقي برحلها في بيدر سعادة الإنسان والارتقاء به والتعبير عن خلجات روحه وتجليات وجدانه، كذا أيضا لو كانت خرجت من كتلة الرماد ستعطي سوادها وصدمتها المحترقة إلى عالم البشر في شقاء وتخبّط وضياع إن كانت من طينة الأدب والفن الهدّام، فالطاقة لها أيضا أنواع حتى لو كانت أدبية . قوانين النور والظلام لا تتغيّر ، إذن شروط بداية الفعل عند الانسان نفسه المرسل والمستقبل معاً، وعلى نفس درجة المسؤولية، فلا نلومنَّ الأدب والفن في ذاتيهما بعد ذلك.

* كيف ترى مستقبل المنجز الفكري العربي ؟

- هذا هو السؤال الموجع، وهذا هو السؤال المقلق، وهذا هو السؤال المفزع، وكلُّ أوصافه قلقة ً وفيها من الجزع كثيراً.

ليست المسألة في صلب النبوءة ولا في ممارسة الشعوذة الفكرية، ولا هي في استمراء جلد الذات، ولا هي أيضا في الضرب على مزامير الفرح المستأجر، وفضلاً عن كلِّ ذلك ليست في وارد التسكين على قاعدة "سكّن تسلم" .

بأمانة شديدة، مستقبل ذلك مثل توصيف سؤالك، مقلق وموجع ، وثمة الكثير من اللازم (فرض عيْن ) ....منذ أمس وليس الساعة ليعمل، كي يتم جلاء درجة القلق ودرجة الفزع في هذا المستقبل.

بعيدون.... بعيدون جداً يا صديقي عن الشعور بالاطمئنان لمستقبل مرضٍ ولا أقول تجاه مستقبل يظهرُ مشرِّفاً في هذا الموضوع. لكن بالقطع ثمة بشارات وثمة مشاريع وثمة شعور شبه عام بالانتباه، لكن هذه جميعا صفتها الوحيدة حتى الساعة إما "مؤقتة" أو "فردية".

مطلوب جهد جمعي تنظيمي موضوعي علمي للخروج من "سأم الحالة" وليس سأم باريس أو غيرها، نحن نطلق التحذير وما فتأنا على هذا الحال، لكنِّ المنحدر لا يزال هو المقابل في الجهة الأمامية.

* المبدع العربي في البداية نجده متمسكا بعدة ضوابط فنية لكن سرعان ما يتغير ويصبح كالآلة حريصا على الكم هل توافق هذا القول ؟

- لا أوافق...... وذلك عند إحالة هذا النوع من الجواب على كامل شروط السؤال وميكانيكيته، بدءاً من موضوعة توصيف المنتج بالإبداع، بمعنى أن المبدع الحقيقي لا يمكن له أن يفعل هذا الأمر بتاتاً، فهو لا يفعلها من بوابة المبدأ وهو أحرى أن لا يفعلها من بوابة المنتج الحريص على ما يقدِّم...طبعا ثمة شواذ للقاعدة.

أما إن أردت تغيير هذا التوصيف ليصبح شيئا غير المبدع العربي، لنقل الكاتب أو الشاعر أو المنتج أو الأديب العربي دون تحديد صفة الابداعية، فعندها نعم للأسف بعض الشعراء والكتّاب يفعلون هذا ويقعون تحت مرصد الظنون بالتحوّل التجاري، لكن دعنا نكون منصفين في هذا فأنا أستثني الشعراء كثيراً ...اللهم إلا أن يكون هنالك من هو أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، إذ من من الشعراء اليوم يتم استقبال نتاجه الشعري على نطاق يبرّر الشكوك بالمكننة؟.

أما في الرواية أو في التنظير، فنعم هنالك شيء من هذا القبيل وهو مشاهد وملموس وللأسف الشديد فقد دخلته ليس فقد المكننة، بل إنها عند بعضهم وصلت إلى "الأتمتة" وكما يقول الغربيون" فل سبيد"!

* النقد عندنا هل هو متخلف عن الإبداع ؟

- نعم ونعم ونعم........، وليت أن هذه الصفة فقط متخلف بمعنى التوصيف الديناميكي الحركي للعملية، وليت إسقاطاتها فقط على المسافة والزمن، بل إني أراها حتى في النوعية والتنوّع.

ربما يمكن القول إن النقد العربي تحديداً ولا أحبُّ الكلام في المطلق بالإحالة إلى غير العروبة للحصر والشفعة، ربما أمكن أن صولجانه وعرشه رحل مع إحسان عباس وعبد القادر القط وأدوارد سعيد وبقية رفقتهم من الكبار، وأن الذين يزعمون أنهم ورثوا الخطى ما زالوا في مناكفات بينهم على عروش رحلت مع أصحابها.

عن أي نقد عربي نتحدّث اليوم في مسائل ودروس الشعر العربي ؟ مثلاً أين هي خلاصات مواكبة موضوعة مثل "قصيدة النثر العربية ومشروعها " ؟ أين هي ورشة تعقّب مخلَّفات الرواية -ولا أدعوها الرواية - العربية في الأسواق والأكشاك؟ أين هي الدراسات والمتابعات حول هجمة التناسلية الروائية؟ قل لي أنت أين هي؟

هنالك من حاول ولا نقول أنه لم يحاول، ثمة أسماء موجودة متقطعة ، ربما أستعير هنا عنوان عمل لأحد الأصدقاء هي حالة تشبه" كسرد متقطع" ، لكن أوركسترا نقدية غير موجودة، وما تعزفه الحالة مجرّد نشازات، البعض حاول جهده في مسألة النقد الثقافي كالناقد عبدالله الغذامي والبعض حاول جهده في حديث النقد الانساني كالناقد عبدالإله الصائغ،- بغض النظر عن تقييم ما عملوا له أو قدموه أو رأينا في ذلك-، لكن حصيلة عمل الحالة النقدية العربية بشكل عام بقيت متخلفة دون المأمول، على صعيد الجامعات وإن على صعيد المؤسسات، والسؤال هنا : ألا يتحملون المسؤولية ؟ نعم ..هم من يتحمّلها كاملة....اللهمَّ إلا أن نستورد نقاداً من الخارج ولا نزعم أن ثمة نقد عربي على قيد الحياة.

* فــــي عالمنا العربي ينظر دائما بنظرة تقزيم لأي منجز فـــي حين يتم الاحتفاء بما يأتي من الخارج ؟

- ليست بدعة يا صديقي هذه، هي أداء بعض غير المنتصر حتى لا أقول أداء المهزوم وحاله، والمسألة تحيل إلى مكنونات نفسية عامة، تبدأ بالثقة بالنفس أولا، ولا تنتهي عند احترام الذات.

طبعا هذه ليست مطلقة عند الشعوب الأخرى، دوماً أحب أن أشير إلى أمم مثل اليابان ، وهي التي يحتفي هذه الأيام معرض الكتاب المقام في عاصمة عربية بنتاجها، هذه الأمة تعرّضت لأقسى أنواع الهزائم فقط قبل نصف قرن أو نحو ذلك، لكنها بدأت من البداية حيث ما أقول لك عنه وأزعم حول سحره وقدرته، بدأت من استعادة الثقة بالنفس في اليوم التالي للهزيمة وحتى قبل دفن ضحاياها، وحتى قبل ترسيم ما سوف تفعله إزاء الدمار الهاجم المخيف والكثيف، بدأت من هناك ومن ميراثها الذي لم يتزعزع بفعل الهزيمة وهو الذي يتجسّد في احترامها لذاتها وما تمثله هذه الذات من تواصل إنساني ومن عنوان مستقبلي ماثل يجب الوصول إليه بخلاصة هذه الإيمانية العالية الأخاذة وفولاذية الإرادة.

حتى السلع المادية في اليابان تقدّم المصنوع وطنياً على الآتي من الخارج، وحتى في مسألة التصدير لهذه السلع تحتفظ بالأحدث لمواطنيها فترة من الزمن قبل أن تسمح بتصديره للخارج، هذا حدث معي يا صاحبي في طوكيو، والتعرفة في موقف السيارات تعرفتان: للسيارة الياباني الوطني عند الوقوف سعر يكون نصف مقابل أي منتج أجنبي، وهذا مثال تقيس عليه في بقية الأمور.

لكن قضية احترام المنتج الوطني عندهم لا تعني أن لا يحتفوا بذلك الآخر أو ذلك الجديد القادم لهم، فهم يخطون كل الخطوات بالتوازي والتناغم، انظر هذه الأمة ألغت مفعول القول الذي لدينا" لا كرامة لنبي في وطنه" ، في هذه الأرض كل الكرامة لأنبيائها ، أما عندنا فأنت أعلم. ولكن دعني أعطيك مثالاً بيّنا على درجة اهتزاز ثقتنا نحن - أعني كمنشط عربي عام- في اللحظة التي يأتي أي نوع وأي درجة من التقدير الخارجي شرقاً أم غرباً سواء أو الإشادة بأي مننج عربي وهو على الأغلب يكون مغموراً أو مغـرقاً في بلده ، يكتشف قومه نبياً عظيماً !

* ترتفع الأصوات المنادية بالإصلاح والتغيير هل فنون الكتابة والصورة في حاجة أيضا لمثل هذه المطالبات ؟

- أفهم الإصلاح والتغيير بمفهوم وقائع نقدية للمسلك والمحتوى، وهذا في حدِّ ذاته موقف نقدي، وهو موقف إيجابي من حيث توصيف آلية العملية، لكن هذا الموقف النقدي دوما هوً يعترض حسب فهمه الذاتي ، وبحسب مبعثياته في هذا الاعتراض. أحياناً تأتي هذه النداءات في وجه عمل جميل تطلب تغييره وتعديله، لأن المحتوى الذي يقدمه هذا العمل، أو لأن الطريقة التي يستخدمها ليست عند المعترض هي موافقة لرؤيته، وهي عنده ليست كذلك جميلة في المحصّلة، هذا نمط من الدعوة الذاتية والمصلحية، وهو في فئة التخريب وليس الإصلاح والتشويش وليس التقييم، وهو له من أمثلة في الواقع المادي والأدبي، لكن هذا ليس ما أنت قاصده، ولا هو ما نحن بناظرين إليه بجدية أو مستعدين لاعارته انتباهاً ويكفي توصيفه بكل أفعال التهديم إن كان على هذه الصيغة.

أما النوع الذاهب إلى الاعتراض وتسجيل النقد وترسيم هذا الموقف في خانة المصلحة العامة ، وتواقيع الحكمة والخيرية ، وصفات الحقانية والعدالة ، ومذهب الجمال، فنعم وألف نعم، من حق كل هذه القيم على هؤلاء من أصحابها، ومن شرف وأمانة الكلمة عليهم أن ينطقوا ويسجّلوا هذا الموقف.

السؤال هو هل فنون الكتابة والصورة بل والصوت -أضيف- تحتاج مثل هذا الموقف النقدي؟ وأجيبك نعم ، ولم لا ..أليست مسلكاً ومنشطاً تحتمل التسديد كما تحتمل الزيغ! ولها قيمة مباشرة وليست جامدة غير قابلة للصرف والأثر!. هي كذلك ، إذن نعم.

* يشهد الوطن العربي سلسلة من التوترات في فلسطين في العراق في لبنان في السودان ما موقفك إزاء ذلك ؟

- هذه ليست توترات ، هذه توتيرات، فهي ليست من فعل الطبيعة المطلق ، هي ليست براكين ولا زلازل ولا فياضانات، - حتى هذه بدأ البشر يسببونها اليوم- ، هذه أفعال إنسانية محض، في جهة الجانب المعتدي : هي شيطانية إجرامية وسقوط بنوازع الروح في الإنسان إلى أدنى درجات الغرائزية والبهيمية، إنها نزوع إلى القتل والسرقة والاحتيال والأنانية المحض، وفي جانب الضحايا المظلومين، هي حق مشروع بالدفاع عن النفس، وهي درجة عالية في السمة وبالنفس والوجدان الإنساني إلى أعلى المستويات، إلى درجات النبوة في الرجولة والتضحية والفداء وتسجيل البطولة.

ثمة غيلان عدوانية هاجمة شرهة، لم تكتف بما تحت أيديها من الثروات التي قسمها الله لها، ولم تحسن الظن بالمستقبل في تطويرها واستعمالها، فمدت أعينها وأيديها إلى ما عند من استضعفته وبغت عليه من شعوب في هذه الأرض، بعضها جار له، وبعضها أتته من خلف المحيطات والبحار.

لكن أنت هنا لا تطلب رأي شاعر بكلمات تعبيرية، ولا أحسن أنا ان لا أعطيك موقفاً واضحاً إلى أبعد الحدود، باختصار في العموم.... نحن أخي ندين العدوان والعدو والمعتدي أياً كان، والعدوان الإمبراطوري اليوم في هذا العالم متمثلا بالإمبريالية الأمريكية وحلفها المعروف في الغرب، وأداته الأوضح: الكيان الصهيوني في فلسطين، ندين جشعهم وعدوانهم وغطرسة القوة عندهم وقلب الموازين والحقائق والمكاييل المزدوجة ....لكن المؤسف أيضاً أن تشرع دولة إسلامية كبيرة مثل إيران بالانسلاخ عن الفضاء الموروث من الشرنقة الإسلامية، إلى مطاردة مشاريع قومية فارسية على حساب الإسلام أولا وجيرانها العرب وعلى حساب الصلات الحسنة.

فلسطين لن تكون إلا حرة عربية مهما طال الزمن، والعراق عائد إلى عروبته وأمته مهما طال الاحتلال بكل أنواعه، الاحتلال القادم عبر المحيطات والاحتلال المجاور معاً ، والسودان العربي سينتصر على مؤامرات وحصارات التقطيع عن عروبته وإسلامه بل وحتى عن أفريقيته لصالح الارتهان للأجنبي، ولبنان كان الله في عونه، دفع شعبه كثيرا من أجل حرية وديموقراطية وتقدّم ودفاعاً عن قضايا عربية كثيرة، لكن مصيبته في أيدي الخارج الأجنبي، وقبول بعض من أبنائه هذا الدور وهذه الأيدي بدورها الذي تمارسه...أقول لك لبنان المستهدف القادم بعد فلسطين والعراق.

* ما هو حلمك الشخصي ؟

- لا أفصل الشخصي عن العام، ولا أرى حلماً شخصياً في حالتي أنا مهما تواضع أو تعاظم صاحب معنىً حقيقي أو نكهة علة وجوده إذا كان العام غير ممكن. نعم حلمي كما حلم أي مواطن عربي تقدمي فلسطين حرة عربية ناهضة، وأمة عربية واحدة مقتدرة، وتعاون روحي وديني وحضاري، صورة واحدة قلبها القدس المحرر.

على أي حال إن لا زلت مصراً حلمي أن تصل الرسالة وتجد جواباً.

* تختلف حيثيات الإبداع من بلد إلى أخر ما هي الخصائص التي تراها موجودة في بلدك فلسطين وهل هناك مشهد ثقافي عربي واحد كما كان ؟

- تختلف ... بشكل عام نعم هذا القول سليم، لكن هناك المشترك في المشتركات رغم كل مفرزات واقع التشظية والتجزيء والتفتيت على أكثر من صعيد ليس أعظمها الجغرافيا ولا الديموغرافيا عربياً.

بالنسبة لمشهد ثقافي عربي واحد، إن أردت في تفسير واقع الحال وليس تفسير مفاصل التشابك، نعم هناك واقع لمشهد ثقافي عربي واحد من حيث الخفوت واحيانا الحياء والخجل في الاعلان عن الذات أو عن الرسالة.

هناك مشهد عربي واحد من حيث العوارض وعوامل فعل القوارض فيه، من حيث العلل والأمراض ومن حيث المعاناة والاندهاش لسؤال كيف وصلنا هنا؟

لكن من حيث درجة الضجيج طبعا تختلف الحال في هذا، هناك مشهد ضاج كثيراً وصاخب في مناطق الثراء العربي، بعضه صالح وجيّد في المستوى العام، وأكثره يعاني أزمة علته ورسالته التي لا عنوان بناء لها فعلا، بل فيه من النظرة التجارية والاقتصادية الشيء الكثير وللأسف، بعضه قام من أول لحظة على هذا الهدف، وبعضه انحرف إليه لاحقاً.

في المغرب العربي ثمة مشهد صاخب من نوع آخر، نوع لاهث خلف التغريب واستجداء الآخر، ولا يجد عنوان وعلة وجوده من غير هذا الأمر، متردداً كثيراً في الصلة بالجوهر الشرقي والعربي خصوصاً، وجزء منه بدأ يراود نفسه بعودة الابن "المغيّب" وقد كان في بعض ما يصنع ضحية سياسات وممارسات حقودة استعمارية، وجزء عروبي بامتياز لم يفقد البوصلة فرحنا للتواصل معه.

وهناك في مصر وبعض الشام مشهد أقل صخبا ولكنه محتار في سمة الظهور المفقودة والمسحوبة منه، يحاول أن يستعيد شيئاً من هذا القديم في الريادة في وجه صخب التسليع فلا يصل، وهذا لا يعني أن معظمه في واقع الأمر فقد الميزة التي كانت لديه، فقد أصبح في جزء كبير منه عالة ملحقة وللأسف الشديد، وطبعاص العراق كان الله بعونه، أما في فلسطين تحديداً فالمشهد مخيّب كثيراً للآمال، مشهد أقل ما يقال عنه بأنه مشهد مستورد جديد علينا لم يكن هكذا أبداً...

إن كنت تسألني عن الخصائص التي طالما طبعت المبادأة والمبادرة الفلسطينية ،اقول لك أن أهمها أن تكون نابض الحركة للمشاهد العربية، وبندول الساعة الذي يبدو أنه ما عاد ينتظم الحركة وكأنها جديدة عليه، إنه يقوم بحركات بهلوانية، يتشظّى ويتوزّع تحت حجج واهية وتبريرات خائبة، جلّها في استلاب اللحظة التي أعقبت أوسلو، يبرّرونها بأسئلة أوسلو، هذا الأوسلو انتهى ومات وشبع موتاً والبعض لم يزل بعد في مرحلة على الجواب على كنهه ومعاذيره.! نصيح بهم فلا يقومون، ونصرخ فلا يتهادون حتى لو سندهم الساندون..لقد اعتادوا على كسل من نوع جديد وخدر من نمط عجيب....لن يقوم بدورنا غيرنا، هذه مسؤولية كبيرة، لا تقل لي عن الخصائص وأولها قد فقدناها، كنا نحن من يقود تناغم الحركة السياسية والثورية التحررية وكذا روابط الشتات وقهر الجغرافيا والزمكانية الاجتماعية ، اليوم ماذا نفعل؟ يستقيل الكثيرون من أدوارهم بعضهم محق إن قال استقلت إذ لا يوجد ميزانية، لكن هل الميزانيات هي الأساس، هل أقمنا تغييراً دراماتيكياً عبر الثورة الفلسطينية المعاصرة بالميزانيات؟ غريب أمر هؤلاء..!

* ظهرت عدة أسماء في فترة الستينات والسبعينات ولم نعد نري ذلك البريق يتكرر وتظهر أسماء جديدة هل الأجيال التي جاءت من بعد اقل مقدرة ؟

- يا صاحبي : لكل زمان دولة ورجال...

هذا هو الزمن الذي نعيشه اليوم، مثل الماء ليس في حيويته وصفاته الايجابية كأهم عناصر الحياة وأولها وآخرها، بل في صفاته التي هي اللاصفات من الناحية الاحاطية، بمعنى آخر: هو زمن لا طعم له ولا لون ولا رائحة...فتريد له أن يكون ذا بريق؟ كيف يكون هذا!!

وحتى لو أردتها من ناحية الرسالة، انظر...: عندما نتحدث عن الزمان وأهله، هما مشترك واحد، ألم يقل صاحبنا " نعيب زماننا والعيب فينا ...ما لزماننا عيب سوانا" ! هذا هو وهذه هي الحالة، وحتى نكون علميين أيضا هناك شواذ وهناك نماذج مفرحة وصاحبة لمعان وليس بريق، لكنك تتحدّث عن القاعدة العامة وعن الأعم الأغلب، هذا هو حاله كسابق ما وصفت لك حسب تقديري، ونقطة أخرى أضيفها لك، أن هذه الكواكب اللامعة لو ظهرت، في أحسن مصائرها لن تترك حتى تشعّ من عطائها، بل ستغمر وتطلى بالداكن قصداً، وإما أن ترحل إلى غير مقامنا فتخرج في بلاد غير البلاد وبين عباد غير العباد، وفي أسوأ المصائر تراوغ حتى تعلن توبتها عن نبوتها وبشائرها أو تصمت .

لكن علينا الانتباه أن بعض البريق السابق مصنوع عل عين علّةٍ بعينها، ولذل تساوت مع بعض المطلي هذه الأيام بطلاء الألوان الفسفورية، تشع رغما عنها لحفل أو حفلين، ثم لا تلبث أن تعود لتواضع ما عنده من لدنها هي.

* تكاد تنحصر حصيلة الجوائز العالمية العربية في جنس الرواية هل تراجعت كافة الأجناس أمام مد الرواية ؟

- الملاحظة إذا أردتها عالمياً نوعاً ما صحيحة بشكل كرنفالي احتفالي، لكن إن أردت التفاصيل ولا سيما الجديدة منها، فهذا كان وضعاً شاذاً في الحقيقة أن تتم عملية القصد فيه، لا يفهم إلا على اعتبارين: الأول كونه إحدى ضرورات الانزلاق إلى مرحلة ما بعد الحداثة، والحاجة إلى السرد والحكي لتواكب مرحلة الانزلاق المليئة بعناصر المفاجئات واللامتوقع والصادم، فهذه وصفة جيدة لهذا الأمر والشعر لا يفعل هذا فهو ارفع من هذه الحاجة كثيراً، هو رسول مستقر للخيال وليس للتجاربية والمغامراتية، هو ليس صديقاً ظرفياً بهذا المعنى، فهو بمثابة ما خلف قضبان محطة الاعتراف والبوح الذاتي، وهو يمكن أن يكون شاهد على صدقية ما تقوم به الرواية من فعل وليس العكس، أما الاعتبار الثاني: فلأن طبيعة رسالة الشعر واضحة ورسالتها لا تقبل المراوغة، وفي هذه الحالة قد لا تريد هذه الجهات الوقوف على احتمالية الفجيعة في نوعية هذه الاجابة، تعلم عدد الشعراء الذين رفضوا جوائز مثل هذه لأنهم اختاروا التماهي مع أماناتهم وطبيعة أجوبتهم في شعرهم إزاء الحالة الهاجمة ، هم على كل أكثر وضوحاً من المراوغة في الرواية.

لكن المسار التصحيحي لا بد منه، وهو قادم مع أول شاخصة حقيقية في الطريق المنزلق، قرأت بورخيس يقول مؤخراً بموت الرواية وعودة الشعر، وأعلم أن هنالك غيره كثيرون في العالم أصبحوا على مشارف السأم من تلوّن الرواية وتحولّها حتى في الجنسانية والجنسوية، هل هي ذاتها التي بدأنا بها اليوم؟ هل هي على ذات السمات التي انطلقت منها؟ أستبعد قصة التطوير والتجريب في أي إجابة أقدّرها قطعا، ولكني أحيلها إلى المراوغة والتخفي في هذه المراوغة.

عربيا يا صديقي أقول لك في فمي ماء كثير...

* كلمة أخيرة ؟

- أشكرك للصبر علينا، بعد أن أشكرك لحذاقة الشاعر في الأسئلة التي أبوح أنها على قدر جميل من المشاكسة والمعانقة أيضا، وأشكر القاريء أيضا كما أشكر الصحيفة وأشكرك ليبيا التي تبقى خضراء.

أتمنى أن تكون محطة صراحة أراحت وتريح إن أردناها بطعم الأمل، وأتمنى لوطننا العربي الكبير الرائع رغم المناخات العصيبة، كل ما يتمناه عاشق لمعشوقه، لأنه أولا وطننا نحن، ولأن فيه ما لا يمكن إلا أن يكون له. تحياتي.........

الرد على هذا المقال

نسخة من المقال للطباعة نسخة للطباعة
| حقوق المادة محفوظة ويمكن الاقتباس والنقل مع ذكر المصدر|